صفحة 1 من 1

الإسلام وتحرير الإنسان من العبودية

مرسل: الخميس نوفمبر 08, 2018 4:22 pm
بواسطة محمد نبيل كاظم
حث الإسلام على العتق .وتوسيعه لمنافذه
كانت منافذ العِتق قبل الإسلام ضيِّقة كل الضيق، فلم تكن إلا سبيل واحدة، وهي رغبة المولى في تحرير عبده، فبدون هذه الرغبة كان مقضيًّا على الرقيق أن يَظلَّ هو وذريته راسخين في أغلال العبودية أبد الآبدين، هذا إلى أن معظم الشرائع السابقة للإسلام كانت تحظُر على السيد أن يعتِق عبده إلا في حالات خاصة، وبشروط قاسية، وبعد إجراءات قضائيَّة ودينية معقَّدة كل التعقيد، وبجانب هذا كله كان بعض هذه الشرائع يَفرِض على السيد إذا أَعتَق عبده غرامة مالية كبيرة يدفعها للدولة؛ لأن العتق كان يُعَد تضييعًا لحق من حقوقها.
جاء الإسلام وهذه حال العِتق في ضِيق منافذه، وقسوة شروطه، فحطَّم جميع هذه القيود، وفتح للعبيد أبواب الحرية على مصاريعها، وأتاح لتحريرهم عشرات من الفرص، وتلمَّسَ للعِتق من الأسباب ما يكفي بعضه للقضاء على نظام الرقِّ نفسه بعد أمدٍ غير طويل.
فجعل الإسلامُ من أسباب العِتق أن يجري على لسان السيد، في أيَّة صورة، لفظٌ يَدلُّ صراحة على عتق عبده، سواء أكان قاصدًا معنى اللفظ أم لم يكن قاصدًا له، بأن جرى خطأ على لسانه، سواء أكان جادًّا في إصداره أم كان هازِلاً، وسواء أكان مختارًا أم كان مُكرَهًا عليه، وسواء أكان في حالة عادية أم فاقدًا لرُشده بفعل الخمر وما إليها من المحرَّمات، وفي هذا يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ثلاثة جَدهن جَد، وهزلن جد)) وعدَّ منها العَتاق؛ ا. هـ، ومن أسباب العِتق كذلك أن يجري على لسان السيد في أيَّة صورة لفظ يفيد "التدبير"؛ أي: يدل على الوصية بتحرير العبد بعد موت سيده، فبمجرد أن تَصدُر من السيد عبارة تُفيد هذا المعنى تُصبِح الحرية مكفولة للعبد بعد وفاة سيده، وقد اتخذ الإسلام جميعَ وسائل الحِيطة لضمان الحرية لهذا النوع من العبيد، فحظَر على السيد في أثناء حياته أن يبيع عبده المُدَبَّر أو يَرهَنه أو يهبه، أو يتصرَّف فيه تصرُّفًا ينقُل ملكيَّته إلى شخص آخر، وإذا كان المدبَّر جاريةً، فإن حُكمها يَسري على مَن تلِده بعد تدبيرها، فيُعتَق معها بعد وفاة سيدها، أقرَّ ذلك ورثته أم لم يُقِروه.
ومن أسباب العِتق في الإسلام كذلك أن يأتي السيد من جاريته بولد، ففي هذه الحالة يعتبر الولد حرًّا من يوم ولادته، كما سبق بيان ذلك، وتصبح الأم نفسها مستحِقَّة للحرية بعد وفاة سيدها، وفي هذا يقول - عليه الصلاة والسلام - عن سُرِّيَّته "مارية " حينما جاء منها بإبراهيم: ((أَعتَقها ولدُها))؛ أي: إن مجيئها بهذا الولد جعلها مستَحِقَّة للحرية بعد وفاته، وقد اتخذ الإسلامُ لضمان الحرية لهذا النوع من الإماء الاحتياطاتِ نفسَها التي اتخذها حيال النوع السابق، وفي هذا يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أم الولد لا تُباع ولا توهَب، وهي حُرَّة من جميع المال)).
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: ((لا يُبعَن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها السيد ما دام حيًّا، وإذا مات فهي حرة))، "ويقول عمر - رضي الله عنه - مُنكِرًا على مَن كانوا يحاولون بيع أمهات أولادهم: أفبعد أن اختلطت دماؤكم بدمائهن، ولحومكم بلحومهن، تريدون بيعهن؟!".
وإذا جاءت "أم الولد" - وهذا الاسم الشرعي الذي يُطلِقه الفقهاء على كل جارية من هذا النوع - بعد ذلك بولد من غير سيدها يَسري حكمُها عليه، فيُعتق بعد وفاة السيد.
ومن أسباب العِتق في الإسلام كذلك أن يُكاتِب السيدُ عبدَه؛ أي: يتَّفق معه على أن يُعتِقه إذا دفع له مبلغًا من المال.
وقد ذلَّل الإسلامُ لهذا النوع من العبيد جميع وسائل الحصول على المال، في صورة تدل أوضح دَلالة على شدة حرْصه على الحرية، فأباح لهم أن يتصرَّفوا تصرُّف الأحرار، فيبيعوا ويشتروا ويتاجروا ويعقدوا العقود؛ حتى يستطيعوا أن يجمعوا المبالغ التي كُوتِبوا عليها فتُحرَّر رقابهم، وحثَّ جميع المسلمين على مساعدتهم والتصدق عليهم، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ .
ولم يكتفِ الإسلام بذلك، بل خصَّص جزءًا من ميزانية الدولة لمساعدتهم وتخليصهم من الرق - كما سنوضِّحه بعد ذلك - ويدل ظاهر القرآن في الآية التي ذكرناها على أنه لا يَصِح للسيد أن يمتنِع عن قَبُول المكاتَبة، متى أبدى العبدُ رغبتَه في تحرير نفسه لقاء مبلغ يدفعه.
وقد سأل "ابن جريج" عطاءَ بن أبي رباح، فقال: أواجب عليَّ إذا طلب مني مملوكي الكتابة أن أُكاتِبه؟ فأجابه بقوله: "ما أراه إلا واجبًا"، واستدلَّ بالآية الكريمة السابقة، وإذا كان المكاتبة جارية سرى حُكمُها على مَن تَلِده بعد مكاتبتها، فيعتق معها بدون عوض، بمجرد أدائها المبلغ الذي تَعاقدت مع سيدها عليه، سواء أرضي السيد بذلك أم لم يَرضَ به، وفضلاً عن هذا كله، فقد عمَد الإسلام إلى طائفة كبيرة من الجرائم والأخطاء التي يَكثُر حدوثها، وجعل كفارتها تحرير الرقيق، فبينما كانت الجرائم في الشرائع السابقة للإسلام تؤدي إلى استرقاق الأحرار، إذا بها تصبح في شريعة الإسلام مؤديةً إلى تحرير العبيد، فالإسلام ينظر إلى تحرير الرقيق على أنه قُربة كبيرة يتقرَّب بها العبد إلى ربه، ويُكفِّر بها خطاياه، فجعل الإسلام تحريرَ الرقيق تكفيرًا للقتل الناشئ من خطأ وما في حُكْمه، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ .
وللإفطار العمد في رمضان، كما جاء في السُّنة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلَكتُ يا رسول الله! قال: ((وما أهلَككَ؟))، قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجد ما تَعتِق به رقبة؟)) الحديث، وللحنث في اليمين، قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ .
وجعله وسيلة لمراجعة المرأة إذا أوقع عليها زوجها ظهارًا بأن قال لها: "أنت عليَّ كظهر أمي"، أو عبارة من هذا القبيل، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ، وتُقرِّر الشريعة الغراء أن من وجبتْ عليه كفارة من هذه الكفارات، ولم يكن يَملِك عبدًا، وجب عليه أن يشتري عبدًا يَعتِقه متى كان قادرًا على ذلك، وبجانب هذا كله حبَّب الإسلام إلى الناس تحرير الرقيق، وجعله أكبر قُربة يتقرَّب بها المؤمن إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ ؛ أي: إن اقتحام العقبة الكبرى التي لا بد من اقتحامها للوصول إلى الجنة يقتضي أن يتقرَّب المؤمن في حياته إلى ربه بعمل جليلٍ من أعمال البِرِّ كتحرير الرقيق، وقد بلغ من تعظيم الإسلام لهذه القُرْبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يضرب بها المثلَ في جلال العمل وعِظَم الأجر، فيقول: ((مَن فعل كذا، فكأنما أعتق رقبة)) أي: يكون ثوابه عند الله ثواب من أعتق رقبة.
ولم يكتفِ الإسلامُ بهذا كله، بل خصَّص كذلك سهمًا من مال الزكاة؛ أي: جزءًا من ميزانية الدولة، في الإنفاق على تحرير الأرقاء وعِتقهم، ومساعدة مَن يحتاج منهم إلى مساعدة في سبيل تحريره كالمكاتبين ومن إليهم، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي: في فكِّ قيود الرق عن رقاب العبيد.
والمقصود بالصدقات في هذه الآية الزكاة التي كان يتألَّف منها أهم جزء من موارد الدولة، فبينما كانت الشرائع السابقة للإسلام تَفرِض غرامة على من يعتق عبده، وتُقرِّر على التحرير ضريبة يدفعها السيد إلى بيت المال، إذا بشريعة الإسلام تُخصِّص جزءًا من ميزانية الدولة لإنفاقه في سبيل تحرير العبيد، وكانت الحكومات الإسلامية تَحترِم هذا المصرف وتُخصِّص له نصيبه، بل لقد كان يُنفق فيه أحيانًا أكثر من نصيبه، فقد ذكر يحيى بن سعد أن "عمر بن عبدالعزيز" قد بعثه على صدقات إفريقيا، فاقتضاها، وطلب فقراء يعطيها لهم، فلم يجد مَن يأخذها منه، فقد أغنى الله - في عهد عمر بن عبد العزيز - جميع الناس، فاشترى بها كلها رقابًا وأعتقها.
ومن هذا يظهر صِدقُ ما قلناه من أن الإسلام لم يقر الرق إلا في صورة تؤدي هي نفسها إلى القضاء عليه بالتدريج؛ وذلك بأن ضيَّق روافده، بل لم يسمح ببقائها إلا لأجَلٍ معلوم، ووسَّع منافذ العتق إلى أبعد الحدود، وبذلك أصبح الرق - كما قلنا - أشبه شيء بجدول كثرت مصباته وانقطعت عنه موارده التي يستمد منها الماء، وخليق بجدول هذا شأنه أن يكون مصيره إلى الجفاف.
مثل الشريعة اليهودية والمسيحية والحضارة اليونانية والهندية والرومانية وغيرهم.
هذا فيما يتعلَّق بالألفاظ الصريحة في العتق، أما الألفاظ التي تُستخدَم كناية فتشترط فيها النية، وما ذكر هو مذهب أبي حنيفة؛ انظر: البدائع (4: 46) وتوابعها.
رواه الطبراني بنحوه عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء، ورمز إليها بالضعف، وبلفظ: ((مَن لعِب بطلاق أو عَتاق، فهو كما قال))؛ ورمز إليها بالحُسْن، انظر: "الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير"؛ للإمام الأسيوطي (ص: 126) ط. دار القلم.
حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 207، 208) بتصرف، وسماحة الإسلام (ص: 211- 213) بتصرف.
رواه ابن ماجه، كتاب العتق، باب أمهات الأولاد (2: 841)، وفي مجمع الزوائد، في إسناده الحسين بن عبدالله، وتركه ابن المديني وغيره، وضعَّفه.
رواه مالك في "الموطأ" بنحوه، كتاب العتق، باب عتق أمهات الأولاد، و"جامع القضاء في العتاقة" (2: 776).
رواه الدارقطني، ورواه مالك في "الموطأ"، والدارقطني من طريق آخر عن عمر من قوله، وهو أصح، انظر: "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"؛ للشوكاني (6: 97) ط. التوفيقية.
"حقوق الإنسان في الإسلام " (ص: 208، 209) بتصرف، والبدائع (4: 123)، وما بعدها، و"نظام الرق في الإسلام " ص 62، 63 بتصرف.
هو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، مولى لقريش، فقيه أهل مكة في زمانه، وأحد الأعلام الثقات، وأول مكي رتَّب الأحاديث ترتيبًا موضوعيًّا، وُلِد سنة 86هـ وتوفي سنة 150 أو 151هـ.
هو عطاء بن أبي رباح وُلِد سنة 27هـ، وتوفي سنة 114هـ عاش، 87 سنة، من مشاهير التابعين، وُلِد باليمن، كان مفسِّرًا ومحدِّثًا وفقيهًا، وتولَّى إفتاء مكة، أدرك مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص، وأبي هريرة وعائشة، وروى عنه الزهري والأوزاعي وابن جريج.
بدائع الصنائع (4: 133) وما بعدها بتصرف، وحقوق الإنسان في الإسلام (ص: 209، 0 1 2) بتصرف، وحقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة (ص: 102، 103) بتصرف، وسماحة الإسلام (ص: 215 - 217) بتصرف.
رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جَامَع في رمضان، ولم يكن له شيء فتُصُدِّق عليه فليُكفِّر (1: 331)، ومسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجِماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة (1: 450).
حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 210، 211) بتصرف، نظام الرق في الإسلام (ص: 51 - 53) بتصرف، وسماحة الإسلام (ص: 220، 221) بتصرف.
راجع: الإسلام والحضارة العربية؛ محمد كرد علي (1: 98)، وقصة الحضارة؛ ول ديورانت، مجلد (4) ج (3) ص (405).
حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 211، 212) بتصرف، ونظام الرق في الإسلام (ص: 47-50) بتصرف، وشبهات حول الإسلام (ص: 44) بتصرف.
المصدر السابق (ص: 212).
أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي

الإسلام وتحرير الإنسان من العبودية

مرسل: الخميس نوفمبر 08, 2018 4:24 pm
بواسطة محمد نبيل كاظم
حماية الإسلام للرقيق من أذى سيده حظر الإسلامُ على الموالي إيذاءَ عبيدهم والتمثيلَ بهم، وأجاز للعبدِ الذي يناله أذى من سيده أن يتقدَّم بظُلامته إلى القضاء؛ ليتَّخِذ ما يَكفُل حمايته من عَسْف مالكه.
بل قد ذهب جماعة من الفقهاء - على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل - إلى أن إيذاء السيد لعبده إيذاء بليغًا أو تمثيله به يؤدي إلى عِتقه في صورة تلقائيَّة بدون أي إجراء قضائي، وفي هذا يقول الشيباني في كتابه "نيل المآرب": "ويَحصُل العِتق بالفعل كما يحصل بالقول، فمَن مثَّل برقيقه ولو من غير قصدٍ، بأن جَدَع أنفَه أو أُذُنَه أو نحوهما، أو خصاه، أو خرق عضوًا منه كما لو خرق كفَّه، أو حرق عضوًا منه كإصبعه بالنار، عُتِق العبد بدون حاجة إلى حُكْم حاكم".
بل لقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن ضرْب السيد لعبده أو لطْمه له، يؤدي في صورة تلقائيَّة إلى عِتْقه، مُستندين في ذلك إلى ما رواه ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن لطَم مملوكَه أو ضربه، فكفارته عتقه)).
بل لقد ذهب الإمامُ الزهري إلى أبعد من ذلك، فقال: "متى قلتَ للمملوك: أخزاك الله، فهو حر".
وكما حماه الإسلامُ من عَسْف سيده، حماه كذلك من غيره، فقد سوَّى الإسلام في معظم الأحوال بين عقوبة الاعتداء على العبدِ من غير سيده وعقوبة الاعتداء على الحر، وتتحقَّق هذه التسوية في بعض المذاهب حتى في حالة القتل نفسها، فقد ذهب جماعة من الفقهاء - على رأسهم الإمام الأعظم أبو حنيفة - إلى أن الحُرَّ يُقتَل بالعبد؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ .
حماية الإسلام للرقيق بعد عتقه:
حرَص الإسلامُ على أن يَكفُل للرقيق بعد خروجه من الرق حياةً تتوافُر له فيها جميعُ ضمانات الحرية والكرامة، فقرَّر أنه بعد عِتْقه يصبح فردًا في أسرة سيده السابق، مشتركًا مع أفرادها ومساويًا لهم في كثير من الحقوق والواجبات، حتى لقد كان يجب عليهم أن يدْفعوا عنه الدِّيَة إذا ارتكب جناية توجب ذلك، كما كانوا يفعلون حيال أي فرد آخر من أفرادهم، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الولاء لُحْمة كلُحْمة النسب، لا يُباع ولا يُوهَب))، وحينما طُلب إلى عمر بن الخطاب في مرض موته أن يوصي من بعده بالخلافة لمن يراه أهلاً لذلك، فقال: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا، لوليتُه"، وسالم هذا كان صحابيًّا جليلاً، وكان رقيقًا لأبي حذيفة القرشي، وقد أصبح بعد عِتقه فردًا من أفراد أسرة سيده السابق، وأصبح بذلك أهلاً لجميع المناصب التي يُرشَّح لها حر قرشي، حتى منصب الخلافة نفسه.
وقد قصَد الإسلامُ من ذلك إلى غرضٍ إنساني سامٍ، وهدف عمراني نبيل، وهو أن يُكمِل نعمةَ الحرية على العبد بعد تحريره، فجعله عضوًا في الأسرة التي كانت تَملِكه من قبل، وسوَّى بينه وبين أفرادها في المكانة الاجتماعية وفي الحقوق والواجبات، ويجعل له من هذه الأسرة درعًا تحمي حريَّته، وتدرأ عنه ما عسى أن يوجَّه إليه من عدوان.
لقد كانت هذه صفحة بيضاء ناصعة لحال الأرقاء في الإسلام، يُقابِلها صفحة سوداء قاتِمة لوضع الرقيق قبل الإسلام، وسوف يجد القارئ الفرقَ الكبير، والبونَ الشاسع بين هذه المعاملة الرحيمة الكريمة التي أمرتْ بها شريعةُ الإسلام، وبين تلك المعاملة الوحشيَّة القاسية التي عُومل بها الأرقاءُ قبل الإسلام، من اليهود أو النصارى أو من الرومان أو من غيرهم، على حد سواء، وكما يقولون: وبضدها تتميَّز الأشياء.
نيل المآرب للشيباني في شرح كتاب دليل الطالب للمقدسي (2: 98) ط. الخشاب 1324هـ.
رواه أحمد (2: 25).
إحياء علوم الدين؛ للغزالي (2: 220).
رواه الشافعي وصحَّحه ابن حبان والحاكم، وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ، انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام؛ للصنعاني (4: 1504) ط. دار الحديث.
حقوق الإنسان في الإسلام (ص: 218، 219).
نظام الرق في الإسلام (ص: 4 1، 15) بتصرف.