الاجتهاد في زكاة الفطر مثالٌ على سعة أفق الشريعة

''

المشرف: محمد نبيل كاظم

قوانين المنتدى
''
أضف رد جديد
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

الاجتهاد في زكاة الفطر مثالٌ على سعة أفق الشريعة

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

الزكاة في أصلها عبادة مالية، كما ان الأصل في الصلاة عبادة بدنية وروحية، لكن زكاة الفطر متعلقة بالصيام، وهو عبادة بدنية تربوية، لتهذيب الإرادة، وضبط الشهوات، وتربية الروح، وتهذيب النفس وتطهير الحواس، ولهذا أتبع الصيام بالصدقة في آخر أيام رمضان، لتتكامل الطاعة لله، ويلتم شمل المسلم جسداً ونفساً وروحاً في رحاب بيئة إيمانية شاملة.
ولهذا قال تعالى: (: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)103/التوبة، والمال هو كل متقوم من الأعراض، يقال عن ممتلكات الإنسان المتقومة، القابلة للبيع والشرائع، من الحيوان، والألبسة، والعقارات، والطعام والشراب مالاً، تجب فيها الزكاة الحولية، إذا زادت عن حاجات الإنسان الأصلية، وبلغت نصاباً مقدراً في كل نوع منها بحسبه، يضاف إلى هذا فريضة زكاة موسمية، متعلقة بصيام شهر رمضان، وهي زكاة نصابها مقدر بزيادة ما يعادل طعام يوم وليلة، ليقدر على أدائها الفقير والغني، فيكونان في طاعة الله وأداء ما تستلزمها- وأن يحظون ببركات أجرها - سواء، ولهذا كانت صورتها المبدئية وتقديرها الأولي هو الطعام وما يتقوت به منه، ولهذا اختلف العلماء في حُكم إخراج قيمة زكاة الفِطْر نَقْداً، أو حصرها فيما قيمت به من الطعام، وذهبوا في ذلك إلى ثلاثة أقوالٍ:
القول الأوّل: ذهب جمهور العلماء من المالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة، إلى القَوْل بعدم جواز إخراج زكاة الفِطْر نَقْداً؛ استدلالاً بما ورد في السنّة النبويّة من أنّ الواجب المفروض في زكاة الفِطْر هو الطعام، وهو فِعل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: " فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ علَى العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى صَّلَاةِ العيد" وحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: (كُنَّا نُخْرِجُ إذْ كانَ فِينَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ، عن كُلِّ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، حُرٍّ، أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِن طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِن أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِن زَبِيبٍ".
القول الثاني: قال الحنفيّة، وبعض أئمّة السَّلَف، كسفيان الثوريّ، وعمر بن عبدالعزيز، والحسن البصريّ، وعطاء، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثورٍ، بجواز إخراج القيمة في زكاة الفِطْر، وتفضيل النَّقْد عند حاجة الفقير إلى المال، واستنادهم في ذلك إلى أنّ الحكمة والمَقصد من صدقة الفِطْر إنّما هي إغناء الفقراء والمساكين، وسَدّ حاجتهم، وقد يتحقّق ذلك بالمال بصورةٍ أبلغ وأعظم، وتحديد بعض الأصناف في الحديث الذي استدّل به أصحاب القَوْل الأول إنّما هو على سبيل المثال لا الحَصر؛ إذ إنّها أموال لها قيمةً شرعاً؛ وهي الأموال التي كان الناس يبيعون ويشترون بها، وقد اختلف ذلك الحال، فأصبح البَيع والشِّراء بالنقود.
القول الثالث: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بجواز إخراج زكاة الفِطْر وأدائها نَقْداً عند الحاجة والمصلحة؛ لأنّ الأصل في إخراجها الإطعام، ولا يُتحوَّل عن الأصل إلّا لضرورةٍ أو حاجةٍ، وممّا يتعلّق بالحاجة ترتُّب أيّ مَشقّةٍ بسبب إخراج زكاة الفِطْر طعاماً.
لماذا أفتى الحنفية بالقيمة النقدية؟
لأن مدرسة أبي حنيفة هي مدرسة الرأي، وهي مدرسة تنظر إلى الشريعة والنصوص، برؤية شمولية ومستقبلية، ولهذا فاقت المدارس الأخرى بهذه الطريقة، وتبعتها المدارس الأخرى في هذه الطريقة في كثير من الاجتهادات في العصور المتأخرة، وهذا ما بينه العلامة فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله بقوله: “أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض زكاة الفطر من الأطعمة السائدة في بيئته وعصره إنما اراد بذلك التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، فقد كانت النقود الفضية أو الذهبية عزيزة عند العرب وأكثر الناس لا يكاد يوجد عنده منها إلا القليل أو لا يوجد عنده منها شيء، وكان الفقراء والمساكين في حاجة إلى الطعام من البر أو التمر أو الزبيب أو الإقط، لهذا كان إخراج الطعام أيسر على المعطي وأنفع للآخذ، ولقصد التيسير أجاز لأصحاب الإبل والغنم أن يخرجوا (الإقط) وهو اللبن المجفف المنزوع زبده فكل إنسان يخرج من الميسور لديه، ثم إن القدرة الشرائية للنقود تتغير من زمن لآخر ومن بلد لآخر، ومن مال لآخر، فلو قدِّرَ الواجب في زكاة الفطر بالنقود لكان قابلاً للارتفاع والانخفاض حسب قدرة النقود الشرائية، على حين يمثل الصاع من الطعام إشباع حاجة بشرية محددة لا تختلف باختلاف العصور، فإذا جعل الصاع هو الأصل في التقدير، فإن هذا أقرب إلى العدل وأبعد عن التقلب “.
وأقول: أن الأصناف التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلـم، كانت هي وسيلة مالية للتبادل في عصره، فكانت كالأثمان والنقود بالنسبة للمقدار المحدد وهو الصاع، أما النقود فكانت وسيلة تقييم للعقارات والأنعام، والاحتياجات الكبيرة، والشريعة تتعامل مع الحياة بواقعية، وتترك في نصوصها مفردات تتيح مجال التطوير والتجديد والفهم المتسع الميسِّر لتلبية حاجات الناس دون الوقوع في الحرج، وهذا سر ملاءمة الشريعة لكل زمان وعصر ومكان،
يقول فضيلة الشيخ الدكتور حسام الدين عفانة – حفظه الله -: ومذهب الحنفية يجيز إخراج القيمة، ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم: الحسن البصري، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، الذي أصدر أمراً – وكان هو الخليفة – لعماله، أن يقبلوا نصف درهم زكاة فطر الفرد من الناس، والثوري، ونقل عن جماعة من الصحابة، ومن المعاصرين: الأزهر الشريف ومعظم علمائه، وعلى رأسهم: محمد أبو زهرة، ويوسف القرضاوي، وغيرهما أيضاً، وهذا هو القول الراجح إن شاء الله لما يلي:
أولاً: إن الأصل في الصدقة المال لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً). والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة وأطلق على ما يقتنى من الأعيان مجازاً وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود.
ثانياً: إن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة"، (رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج)، وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر الأثر عن معاذ ونصه "وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة" واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ بن حجر في فتح الباري 4/ 54.
ثالثاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة فجعل من التمر والشعير صاعاً ومن البر نصف صاع، وذلك لكونه أكثر ثمناً في عصره فدل على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة، ورواية نصف الصاع من البر ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ولا يسلم ضعفها كما قال بعض المحدثين، وقد قدم معاويةُ المدينة في خلافته فقال: " إني أرى مُدَّين من السّمراء يعدلان الصَّاع من غير السَّمراء"، يعني: من الحنطة؛ لاجتهاده رضي الله عنه، رأى نصفَ الصاع من الحنطة يقوم مقام صاعٍ من التمر والشَّعير والزبيب والأقط، لأنه مقتضى الفهم والاجتهاد، واختلاف قيمته عن التمر والشعير في الحجاز، وكان معه بعض الصحابة، ولم يعترضوا على فعله.
رابعاً: إن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء وسد حاجتهم، كما ورد في حديث: " أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن، المال يعطيه قدرة شرائية أن يشتري الطعام الذي يناسبه، أو يشتري ما يحتاج إليه من دواء أو غيره، ونفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم، ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته، ومن المشاهد في بعض بلاد المسلمين أن الفقراء يبيعون الأعيان (القمح - والأرز) إلى التجار بأبخس الأثمان نظراً لحاجتهم إلى النقود.
خامساً- أن المفصد الشرعي من الزكاة عموماُ وزكاة الفطر خصوصاً هو إغناء الفقير والمحتاج، وهذا ورد به النص "اغنوهم في هذا اليوم" ، وهذا يتحقق على التمام بأداء قيمة مقدارها نقداً للفقراء، وتيسير نقلها بين بلدان العالم الإسلامي، من الدول المكتفية، إلى الدول المحتاجة، بأيسر السبل البنكية، وعمل الجمعيات الخيرية، ولولا هذا الاجتهاد لحرم آلاف المحتاجين في شتى بلدان العالم الإسلامي، من هذه الشعيرة.
سادساً- الشريعة والواقع: في بعض دول الخليج، وبعض الدول العربية المتشددة في إخراج زكاة الفطر نقداً، كان المزكي يتحرج من أن يخرجها مالا، فيشتري حقيبة زكاة الفطر أرزاً، ويعطيها للفقير، لكن الفقير يتجمع لديه كمية من الأرز لا يحتاجه، فيضطر إلى بيع معظمه، فيذهب للتاجر الذي اشترى منه المزكي الحقيبة فيبيعها بسعر بخس، وتظل الحقيبة تذهب للتاجر، ليشتريها مزكي آخر، ويبيعها الفقير، وهكذا تدور، والخاسر ماليا في المسألة هنا، هو الفقير، والرابح الوحيد ماليا هنا هو التاجر، للأسف، في مشهد لا يمكن أن نطلق عليه أنه التنفيذ الحقيقي للسنة، والتي شرعت زكاة الفطر، لمصلحة الفقير، وإغنائه، وقد صرح بهذا مسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية بالمملكة السعودية، واكتشفوا أن دفع الزكاة نقداً للجمعيات الخيرية، يعتبر توكيل في التصرف الأفضل لصالح الفقراء، وتلبية احتياجاتهم، وهذا ما قصده الإمام أبي حنيفة من مئات السنين، بنظرته الثاقبة، كما أن الشريعة تسد الذرائع المؤدية إلى فساد تصرفات الناس، والفتوى بجواز إخراج القيمة هنا أصلح للواقع والفقير.
سابعاً- الفتوى نص، ولغة، وفهم، واجتهاد، وواقع: وليست المشكلة في أداء أحد أوجه الاجتهاد من قبل المسلم المخاطب بشرع الله، وإبراء ذمته من خلال التزام ما يفتي به بعض أهل الذكر الذين أمرنا القرآن الكريم بسؤالهم وطاعتهم كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)) النحل، لكن المشكلة في الحجر على الناس، والحجر على أهل الذكر أن تكون لهم عقولهم، ويكون لهم اجتهادهم، فيتصدر من لا يعرف كوعه من بوعه، فيخطئ أهل الذكر، وكبار علماء الأمة، ويريدها على هواه وواقعه ومدرسته الخاصة في فهم شرع الله، ولو تم هذا كما يريد أمثال هؤلاء، لما كانت الشريعة خالدة وصالحة لكل العصور والأزمان، فلتتسع صدورنا وعقولنا لأهل الذكر واختلافاتهم، لينعم الناس بظلال أحكام وشريعة تلبي احتياجات البشرية، واحتياجات خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وتنعم بالهناء والسعادة والسلام.
ثامناً- ومن يضمن إغناء الفقير في مثل أيام العيد، بمجرد أن تقدم له الحبوب الجافة من الأرز، أو الشعير، أو التمر، أو القمح، أو الذرة؟ أليست هذه الحبوب هي المواد الأولية لصناعة الطعام، فلماذا لم يذكر إلى جانبها، ومعها، ما تؤدم به من لحم أو زيت، أو مواد أخرى لطهي الطعام؟ وهذا يؤكد أن المقصود بتحديد الصاع في زكاة الفطر، إنما كان من أجل تحديد مقدارها على مدى العصور، لأن حاجة الإشباع متعلقة بهذا المقدار، ومتعلقة بتيسير أمر اخراجها على الناس كافة، ولو حددت نقداً لما صلح التقدير به، لأن النقود تختلف من عصر إلى آخر، أما كمية الطعام المشبعة فإنها لا تختلف بتطور الزمن، لثبات حجم معدة الإنسان وحاجته إلى الطعام، فكان التقدير به، نوع من الإعجاز النبوي في التشريع، وهو صالح قديماً وحديثاً لتقدير مقدار زكاة الفطر، والحمد لله رب العالمين.
بقلم: محمد نبيل كاظم
.....................


أضف رد جديد

العودة إلى ”الشريعة والفتاوى“