غياث العرب من استمرار الوهن والجرب الجزء الأول

''

المشرف: محمد نبيل كاظم

قوانين المنتدى
''
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(11): خلاصة كتاب الأمة هي الأصل د. أحمد الريسوني.
الفصل الأول: الأمة هي الأصل
1- المقصود بالأمة هنا مجموع المسلمين: لقوله تعالى: ( وهذه أمتكم أمة واحدة)، وهذا الكتاب يتناول علاقة الأمة بمكوناتها بالدولة ومكوناتها، والأخيرة أشبعت تنظيراً، لكن الأولى وهي الأصل، ومع ذلك مهملة تماماً في الدراسات الحديثة، مع أن الأولوية للأمة، والدولة فرع عنها، لكن عكس الأمر بعد انتهاء المرحلة الراشدية من تاريخنا، مما ضخم السلوك الفردي (الأناني) على حساب السلوك الجمعي (الأمة)، فأصبحت الدولة على قلتها هي الأصل، والأمة على ضخامتها هي الفرع.
أ- وخطاب التكاليف الشرعية: الاختصاصية فيما يتعلق بإقامة العدل، والجهاد، والحدود، والأسرة، موجه أساساً للأمة قبل أن يوجه للحكومة، وما يتعلق بالخطاب للأئمة فهو من شؤون الأمة، وجماعة المسلمين، ويتحول للحكومة بعد التفويض فيكون التكليف من الأمة للحكومة، والتكليف من الله للأمة، ومن الأمة للحكومة، والنصوص الشرعية هي الحكم في هذا التوجيه، حيث لا يوجد مخاطب من الله اسمه الدولة، أو حتى الخليفة، أو الإمام، وإنما الخطاب لعموم المسلمين، ( يا أيها الذين آمنوا...)، حتى الخطابات التعبدية تأتي بصيغة جماعة المؤمنين.
ونصرة الدين وحمل رسالته: قلب مفهومه إلى أنه متعلق بالواجبات الدائرة بين أولي الأمر: (الدولة والفقهاء)، وأقنع الفقهاء أنفسهم بهذه الصياغة، فجعلهم ينتظرون أذن الدولة ومساعدتها، وهذا خطأ فادح، لعدة أمور:
1): خاطب الله عموم المسلمين به: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله)10/الصف، لأن الأمر للرسول ومن اتبعه.
2): أمانة ثقيلة لحفظ الدين ونشره تعجز عن حملها ثلة محددة من تكوينات المجتمع، بينما تقدر عليها الأمة بمجموعها، مهما كانت الظروف، لأجزاء منها.
ب- تغيير المنكر ومقاومة الفساد: الفقه السلطاني حصر التغيير باليد في الدولة، ثم حصر التغيير اللساني في الفقهاء (بقيود وشروط) ولم يتبق للأمة منه سوى التغيير بالقلب، وهذا معناه لا تغيير فعلي بمقتضى خطاب الله لعموم المؤمنين، مع أن النصوص (كتاب وسنة) أمرت عموم المؤمنين به، حتى فيما يتعلق بفساد الأمراء: لحديث: " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (ر. مسلم)، وقد علق الله التمكين للمؤمنين واستخلافهم بفعل الصالحات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا التمكين للأمة، كما أن واجب الأمر بالمعروف وإزالة الفساد للأمة، وليس محصوراً بالحكام فعلوه أو منعوه، قال ابن رجب الحنبلي: التغيير باليد لا يستلزم القتال، ونص عليه أحمد في رواية صالح.
2- حق الشورى بين العموم والخصوص: الشورى ليست من الشأن الخاص بالحكم والإمارة، بل هي شأن عام في حياة المسلمين، والأمة الإسلامية، وترقى من قاعدة الأمة إلى رأس هرم الحكم بدلالة النصوص الشرعية، التي خاطبت بها عموم المسلمين، وارتباطها بصلاتهم، يجعل لها حكماً شرعياً لا يقل عن الفرضية كفرضية الصلاة، وللجماعة حسب تكاليفها ومستلزمات هذه التكاليف تنظمها بما يعطي ثمراتها الصالحة، كلٌ حسب حاجته منها وفيها.
خامساً- بين التمكين للأمة والتمكين للدولة: التمكين للدولة الحقيقي هو فرع عن التمكين للأمة، وحينما يعكس الأمر، يكون ممنوعاً على الأمة وذلك أن " تلد الأمة ربتها" وحينها يكون في الأمة رأس متسلط، وجسد مشلول، كحالنا اليوم، وحين نعكس الأمر المختل، ونعيده إلى صوابه في تمكين الأمة من حريتها وكرامتها وتمكنها، تكون عوناً وقوة أكثر من إضافية للدولة.
الفصل الثاني
الديمقراطية من منظور إسلامي
3- حكم الشعب نفسه بنفسه: من الذي يحكم الشعب؟ إن لم يكن يحكم نفسه؟ وعبارة أن الحكم لله، محصورة في حال وجود وحي مباشر يتنزل بأمر مباشر إلى رسول يتبعه المؤمنون، فيخبرهم بالنص المحكم ويطبقه الشعب بإشراف الرسول، وبعد وفاته لم يعد هناك وحي، سوى ما تم منه، وهو كتاب الله وسنته، لكن هذا الوحي من يحكم به؟ إن لم يكن الشعب نفسه من خلال ممثليه المنتخبين بالشورى، لكن هذا الحكم له درجتان في القطعية: أو نوعان من النصوص:
أ- النوع الأول: الآيات المحكمة التي لا مجال للاجتهاد فيها، فنقول عنها: إنها حكم الله تعالى، ولكن مع ذلك أثناء التطبيق تعترض المشرفين على التطبيق مشكلات الكيفية والصور المستجدة للتطبيق، لأن بعضها هو للفرد المسلم واجتهاده، ونوع توجيه الفقهاء حسب الزمان والمكان لهذا التطبيق الفردي.
ب- النوع الثاني: هو النصوص غير المحكمة، التي تحتمل الاجتهاد، ورأي الخبراء حسب الزمان والمكان والأحوال والملابسات، خاصة فيما يتعلق بأمور غير فردية، تمس حياة المجتمع أو شريحة منه، أو الأمة ككل، فهذا لا يمكن أن ينفرد فيه فرد، ولا فقيه، ولا حاكم، ففي هذا الحال، هنا يكون ممثلي الأمة وعناصر السلطة والفقهاء معاً، هم الذين يتفقوا على صور تناسب تنزيل النص على الواقع، ففي هذه الحال، من سيحكم بهكذا أمر يمس الأمة إذا لم تكن الأمة نفسها عبر الخبراء والنواب والقادة، وهذا ما يسمى حكم الشعب، وفي مصطلحنا الإسلامي، نقول (حكم الأمة) لما فيه من إجماع ومشاركة واجتهاد، ولهذا نهى النبي قادة جنده أن يعطوا ذمة الله ورسوله في غزواتهم مع المشركين، وأمرهم أن يعطوا ذمتهم، وذمة الأمير الذي يقود التفاوض والحرب، لأنه لأن تخفر ذمة مسلم أهون من أن تخفر ذمة الله ورسوله، بعهد مسلم قد يخطئ أو يصيب.
4- الحكم بواسطة الأغلبية: هو أساس النظام الديمقراطي، لأنه يستحيل الاجماع المطلق في حياة الناس، فستجد معارضين قلوا أو كثروا، فيبقى الشيء العملي هو الاعتماد على الغالبية، وهذا يسمى الاجماع الوطني في كل دول العالم وحكوماتها، وفي تراثنا عمل بهذا المبدأ في الخروج إلى غزوة أحد، وكذلك في مبايعة أبي بكر خليفة، لم يكن فيه إجماع مطلق، وحتى في الاجتهادات الفقهية عرف القول بأن هذا رأي الجمهور، ويعني رأي الغالبية، وليس الاجماع، ومالك اعتبر عمل أهل المدينة مقدم ومرجح على رواية الآحاد، لما فيه من غالبية شهدت تنزل الوحي وعاصرته.
5- فصل السلطات: السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، تعارف العالم الحديث عليه اليوم، لكنه بدأ في إسلامنا بالتدريج، حيث أصبح لوظيفة القضاء مسمى قاضي، وللتشريع فقهاء وإداريون، وللسلطة التنفيذية الأمير والوزارات، والولاة، وهذا أمر بدهي، في أن يتخصص بعد الناس بتخصصات يتقنوها بعلومهم وخبراتهم وممارساتهم، والسلطة التشريعية هي التي لم تتبلور بعد غياب الحكم الراشدي، مع أن في أيامهم، كان يجمع الناس ذوي الرأي للأمير لمشاورتهم في اتخاذ التشريعات أو القرارات المناسبة، لكن بعد أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض، أصبح يتوزع هذه المهمة الحكام والفقهاء، فلم تتبلور عن طريق ممثلين للأمة كما هو المفترض، الذي كان النبي يفعله، في حدث بيعة العقبة، وإرجاع سبي هوازن يوم غزوة حنين، فقال صلى الله عليه وسلـم: " ارجعوا إلى عرفائكم، لنعلم من رضي ممن لم يرضى" ولهذا يمكن اليوم تشكيل هذا الفريق من نواب الأمة على أن يتضمن فيهم فقهاء، فيكونوا سلطة تشريعية، مع وجود محكمة عليا، لضمان عدم تخطيهم الدستور والشريعة، في قراراتهم.
6- بعض الإشكالات المرتبطة بتطبيق الديمقراطية:
أ): الإشكال الأول: أن أصل الديمقراطية نشأت في بيئة اليونان الوثنية، ثم تنصرت، ثم تحولت اليوم إلى اللادينية، والإلحاد، فكيف نحن نأخذها بهذه اللوثات؟ ولدينا نظام الشورى!
والرد على هذه الشبهة نقول: أن الديمقراطية لا دين لها، ولهذا تتقلب بين كل الجهات حسب أحوالها، مما يجعلها مجرد أداة تنظيمية لا بد منها، لإدارة البلاد والعباد، والديمقراطية الغربية أو الشرقية ليست واحدة، وإنما هي وسيلة لاستخراج ما في عقول الرعية التي تدير شؤونها بها، ولهذا لا مبرر بأن الديمقراطية لا تصلح للمسلمين، طالما أنها صلحت لكل الأمم والشعوب على اختلافاتها العميقة والكبيرة، وهي حمالة ما يريده الناس، والمسلمون يريدون منها ما يدير شؤونهم، ويعبر عن تطلعاتهم الشرعية والدينية والحضارية، سميناها ديمقراطية أو شورية، لا خلاف على الاصطلاح، إنما الخلاف على كيفية التطبيق، والإسلام أضفى عليها القداسة، حين أمر الله بها نبيه وعباده وربطها بالصلاة.
ب): الإشكال الثاني: إعطاء هذه السلطة التشريعية سلطة التشريع التي تمكنها من تحريم الحلال وتحليل الحرام.
الرد على هذه الشبهة: يكذبه الواقع العملي الذي دائماً كان يأتي لصالح الالتزام بتطبيق الإسلام، في كل فرائضه، ليس هناك شعب مسلم إلا وهو يستمسك بإسلامه، والاستبانات كافة تأكد ذلك، وليس هناك دولة إسلامية جرت فيها انتخابات وحرية، إلا وكانت مع نصرة الإسلام، وحرب الإسلام تتم من خلال استعباد الشعوب وإلغاء مشورتها في تطبيقه، والتاريخ القديم والحديث يؤكد ذلك، ويمكن تحديد ذلك ببند واحد في الدستور، أن لا يعارض أي حكم تشريعي الشريعة الإسلامية، وكفى الله المسلمين الجدل والقلق.
ولو على فرض أن حدث مثل هذا التخوف، فلماذا نبقي الأمر يستفحل سراً في الأمة، ونحن كسالى عن الدعوة ونيام، فيكون هذا الأمر فرصة لليقظة، لتجديد أساليبنا في إطار هذه الحرية، لإقناع الناس وزيادة جرعة تدينهم، والتصاقهم بالفقهاء والصلحاء والدعاة والنواب الصالحون، لأن هذا المتخوف منه سيقع إن لم يكن هناك وسيلة لردعه وتغييره، وواقعنا المتردي اليوم الذي يحكمه المستبدون هو أكبر دليل على ذلك، وليس من الحكمة إجبار الناس على شيء لا يرغبون به، والدليل من السيرة، في مكة قبل الهجرة، وحكم النجاشي للحبشة وقومه نصارى، ويوسف عليه السلام في مصر مع ملك مصر، الدعوة شيء والحكم شيء آخر.
الفصل الثالث
حرية الرأي والتعبير في الإسلام: المجالات والضوابط
7- الحرية أساسية في بالشريعة الإسلامية: ومن كلياتها وفروضها وضوابطها، حرية التعبير نتيجة للشعور بالكرامة والعزة وحرية الذات والتفكير والشعور، لأن هذا هو الأصل المعنوي الذاتي المنبثق عن الشعور بالآدمية، التي هي هبة ربانية يوم خلق الله الإنسان حراً من العبودية لأحد غير الله خالقه، وهذا هو الذي جعل عبيد أسياد مكة كبلال وصهيب وآل ياسر، أحراراً في أعماقهم، يوم حررهم الإسلام، فقالوا لأسيادهم أحد أحد، وهذا معنى " منفكين" في القرآن، أي متحررين من عبادتهم لغير الله وشركهم.
أ- الحرية حين تكون فريضة وعبادة: لا تعني الاختيار بين أن تفعل أو لا تفعل فقط، وإنما هي حين يجب التعبير للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يحكمه الواجب الكفائي أو العيني، والنصوص الشرعية المؤكدة لهذه الأحكام أكثر من أن تحصر، في القرآن والسنة، منها: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". رواه مسلم وشرحه النووي، ووضعه تحت عنوان " باب النهي عن المنكر من الإيمان" وكان النبي يبايع المسلمين على الإسلام.....والنصح لكل مسلم، واعتبر من أفضل أنواع الجهاد: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، بل هدد الله من لا يفعل : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون..) 159/البقرة.
ب- الرسول يدرب الصحابة على حرية الرأي والتعبير: فهذا رسول الله لا يجد غضاضة في مراجعة نسائه له، حتى عرف ذلك في نسائه، ولما علم عمر بالأمر، ذهب إلى ابنته، وقريبتة أم سلمة، وعائشة رضي الله عنهن، فسألهن عن هذا الأمر، فأقررن به وتجرأت عليه عائشة فقالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب، عليك بعيبتك. (أبو داود)، حتى ان إحداهن جادلت رسول الله في زوجها، فسمع الله جدالها، وأنزل قرآناً يتلى فيه، وقال عمر لبعضهن وكن يرفعن أصواتهن عند رسول الله، - احتجَبْنَ منه- : " أتهبنني ولا تهبن رسول الله، قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلـم. (ابن سعد- الطبقات)، وحديث أسماء بنت عميس وحوارها الطويل مع عمر في فضل الهجرة إلى الحبشة، وإخبارها النبي بمقالته، وتأييد النبي لها، مما أفرح مهاجري الحبشة بهذا الحوار، وموقف أسماء من الحجاج بعد أن قتل ابنها عبد الله ابن الزبير، وكيف أنها جابهته وقالت: حدثنا رسول الله أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه، فقام عنها ولم يراجعها" . (تفسير ابن كثير.).
8- حرية الرأي والتعبير في المجال العلمي: حيث بين رسول الله أن المجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر، ودليل آخر هو موقف الإمام مالك بن أنس، حين رفض اقتراح الخليفة أن يلزم الأمصار والناس بكتابه الموطأ، لأن الناس والعلم والأحاديث انتشرت وتنوعت في الناس ولا تقتصر على ما في الموطأ فحسب، ليكون للناس والعلماء الحرية في اجتهاداتهم، وهكذا كان علم الجرح والتعديل، في تقديم العلم وتقديره عند العلماء والرجال،
والخلفاء الراشدون يرسخون حرية الرأي والتعبير: فلا يعترضون على معترض لأفعالهم أو أقوالهم، ويقبلون الحجاج والأخذ والرد على تصرفاتهم، وكانت تلك سياسة أبي بكر ومن بعده عمر بن الخطاب، وفي عهد عثمان بلغت حد المبالغة التي أودت بحياته، وكذلك عهد علي، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم كثير.
9- الضوابط الشرعية لحرية التعبير: مثلها مثل ضوابط أي تصرف يخرج عن حد مقاصده وفوائده، التي شرع من أجلها، وهي:
أ):ابتغاء الحق والوقوف معه: حرية التعبير في الإسلام مقترنة بالصدق والأمانة، ومنزهة عن الكذب والخيانة، لأن الوصايا الشرعية والنصائح النبوية ملزمة للفرد بأن يكون مع الحق، ويجتنب الوقوف مع الباطل، حتى لو كان عند أقرب الناس إليه من أخوته أو والديه، فضلاً أن يكون في حزبه وجماعته.
ب): حفظ حرمة الدين: هو الأساس الذي أعطيت الحرية على ضوئه بتوسع يقيد من يروم انتهاك أركانه وكلياته وشعائره، لأن الدين في إسلامنا هو الوطن وهو القومية وهو العزة وهو البداية والنهاية في حياة المسلم الحق، فأما من يتخذه تكئة لأغراضه الشخصية، فإن الإسلام حذر من هذه المواقف في كثير من الآيات، والتناصح والأمر بالمعروف وحرية الحوارات المنضبطة كفيلة بمنع هذه الخروقات، التي كانت موجودة حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلـم، وكياسة النبي والصحابة قطعت الطريق على أمثال هؤلاء دون أدنى خسائر أو اضطرابات.
ج): حرية التعبير لا حرية التغرير: لأن الممنوعات والمحرمات لا تدخل في إطار احترام الدعاية لها، لأن هذا متاجرة بأصحاب النفوس الضعيفة أو الجاهلة، أو القاصرة، كالصغار والمراهقين، ومن مهام المجتمع حماية هؤلاء من التغرير بهم وانجرارهم إلى الشهوات المحرمة، واللذات المدمرة، فيكون ذلك قيد على حرية التعبير بالنصوص الدستورية والقانونية والشرعية.
د): التثبت والتبين قبل القول والتعبير: الحرية يقابلها المسؤولية، ولذا يصبح الدليل على القول المؤثر مطلوب وواجب، وإلا لكان مجرد القول تخرصاً وثرثرة، مضرة غير نافعة، ونحن نعلم أن ما يقابل الحقوق واجبات، ولهذا حرم الكذب، ووجب التثبت قبل أن يلقى القول على عواهنه، وهذا صريح كثير من الآيات والأحاديث.
هـ): حفظ حرمات الناس وأعراضهم: ولو في نشر أخبار صادقة، لأن هذا يتعارض مع خصوصيات الناس وحفظ أعراضهم، فلا يجوز نشر هذه الخصوصيات، لأن مجرد الاطلاع عليها ونبش أمرها، إذا لم تمس أمن الجماعة ككل والأمة والوطن، فإن هذا ممنوع بقيم تحريم الغيبة والنميمة والتجسس، وإفشاء الإسرار، وما شابه ذلك مما يتعلق بخصوصيات وأخطاء الناس، التي قد تكون هفوات، أو نواقص في الناس، لئلا يصبح المجتمع مجتمع تنابز وتحاقد وخصومات بتوافه الأمور وخصوصيات الناس، لأن أصل التعامل أن يكون في الإيجابيات، وحسن العلاقات، والغض عن الهفوات والزلات، لأن القاعدة حديث: " كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
و): منع التدخل في النيات والبواطن: حتى يكون النقد بناءً لا هداماً، وبحب لا ببغض، وبرقي لا بإسفاف، وبنصح لا بتناكر وتدابر، وتقديم للمصلحة، لا مجرد البحث والتفتيش عن المفسدة، لأن هذا يعطي فرصة للإصلاح والرجوع.


محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(12): خلاصة كتاب " الشورى في معركة البناء" للريسوني
الفصل الأول: مكانة الشورى وامتداداتها في البناء الإسلامي
1- أهمية الشورى نظرياً وعملياً: قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...)30-32/البقرة، هذا الحوار بين الله والملائكة، يسن ناموس إلهي في المشاورة، - وإن كانت بصيغة الإخبار - منذ بدأ خلق آدم إلى نهاية حياته على وجه الأرض، فمن نشأ في جوها كانت حياته كما أراد الله لها، ومن مقاصدها في هذا المقام التعليم والتكريم، ولهذا التزم بها إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، في أخطر أمر أراده الله منه، قال تعالى: ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) 102/الصافات، قال الطرطوشي: " ولا يمنعك عزمك عن إنفاذ رأيك وظهور صوابه لك عن الاستشارة، لأنه أدب، فكيف إذا لم يكن الأمر على هذا الجلاء؟ وقاله القاضي بن جماعة.
والشورى العائلية: قال تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف...) و ( والوالدات يرضعن أولادهن...فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)32-33/البقرة، وقال تعالى: (وأتمروا بينكم بمعروف) 6/الطلاق، والاستبداد بالرأي في هذه الأمور العائلية ممنوع، قاله: "الثوري"، وحقيقة الأمر لا يتعلق بمسألة الرضاعة فحسب، بل المقصد رعاية مصلحة الطفل وهي في تربيته ككل وحتى زواجه، ولما سألت أم المؤمنين عائشة رسول الله عن زواج الجارية: " أتستأمر أم لا؟ قال: نعم تستأمر" ( البخاري)، وفي حال الشقاق والخلاف الزوجي، التحكيم مشاورة، واستشار الرسول علياً وأسامة بن زيد في فراق أهله يوم الإفك، (البخاري)، ومشاورته زوجاته في طلبهن النفقة، وأن يشاورن آبائهن وأمهاتهن (يا أيها النبي قل لأزواجك...)28-29/الأحزاب، وبدأ بعائشة في التخيير فقالت: " أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" (مسلم).
2- الشورى من المجال الخاص إلى المجال العام: إذا ثبتت الشورى في القضايا الخاصة والأسرية، فإن ثباتها في الشؤون العامة والقضايا الكبرى أولى، بنص القرآن قال تعالى: ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وامرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون) 38/الشورى، شورى الأمة قاطبة، أما شورى القائد والحاكم قال تعالى لنبيه: ( فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) 159/آل عمران، وقرنها بالصلاة يجعلها فريضة مثلها، فكيف وهي مقررة بصيغة الأمر، والأمر في الأصل للوجوب، بل ربطت بالإيمان كذلك، وإذا أمر بها الرسول فغيره أولى وأشد إلحاحاً وضرورة، لهذا قال القاضي ابن عطية: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه" (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 3/397).
حكم الشورى: فيما يتعلق بالحكام والأمراء والمسؤولين، حكمها واجب بالنص، لأنهم أولى من رسول الله بالأمر بها، وهو المعصوم، قال أبو هريرة: " ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله " (الترمذي)، وابن عطية يعتبرها من قواعد الشريعة، ويعزل الإمام إذا فرط بها، قال ابن عاشور يرد على ابن عرفة الذي أنكر على ابن عطية قوله: " إن قياس الشورى على فسق الحاكم غير صحيح، لأن فسقه ضرر على نفسه، أم ترك الشورى مضر بالأمة وتعريض لمصالح المسلمين للخطر، وتراه المالكية للوجوب، قال القرطبي: " فإن كان أمر يشملهم نفعه وضره، جمعهم للتشاور في ذلك" والتخيير في الشورى يكون للأمور الخاصة بالفرد، فهذا شأنه، مع أنه يندب له إذا كان يتعلق به وحده، ويجب إذا كان يتعلق بآخرين كأسرته وذويه ومن له ولاية عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلـم: " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار" (الطبراني الأوسط، والجامع الصغير: 2/425).
3- مجالات الشورى:
أ- المجال السياسي الدنيوي: قال ابن حجر: " المشاورة فيما ليس فيه نص، وقيل في الأمر الدنيوي، وقال الداودي: " في الحرب والسلم، وقاله ابن عطية، وهما في المجال السياسي والعسكري، ويدخل في ذلك التشاور لاختيار خليفة، أو أمراء، وقادة إداريين وعسكريين، ومن ذلك الخطط والسياسات، وقد ورد الأمر بالشورى على العموم، مطلقاً غير مقيد، في آيتين، وخصص الأمر فيما لا حكم فيه من الله ورسوله، قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) 36/الأحزاب.
ب- الشورى في تنزيل الأحكام القطعية: الحكم الشرعي القطعي ليس محل شورى وخيرة في قبوله أو رفضه، وإنما هو في محل الشورى من حيث التطبيق والتنفيذ، لأنه من مقاصد الدين، ولكن يتلبس بأمر خارج عنه، هو محل التشاور، قاله: " ابن الأزرق" والمثال: مشاورة إبراهيم ولده، ليس في الأمر، وإنما في طريقة التنفيذ، وهذا موسى عليه السلام يشير على رسول الله في السماء طلب تخفيف الأمر بالصلاة، فأصبحت الخمسين خمس، - وهذه فائدة جوهرية في الشورى – وهذا يمكن تعميمه في كثير من الأمور للتشاور في حيثيات التطبيق.
ج- الشورى في الأحكام الاجتهادية والخلافية: روى ابن عبد البر عن علي قال: " قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض منك فيه سنة، قال: اجمعوا له العالمين – أو قال العابدين – من المؤمنين، اجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد" (جامع بيان العلم: 2/73)، وهو( حديث ضعيف)، وتشاور الصحابة في النداء للصلاة، حتى استقر بالرؤية والأذان، مع أنه أمر تعبدي، لم ينتظر الوحي له، لأنه وسيلة، قاله ابن العربي، ولم يكن الرسول ص يشاور أصحابه في فرائض الأحكام، وروى ابن سعد عن أبي هريرة أن النبي ص كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي: فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي ص المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه.." (فتح الباري: 3/60)، ويرى الجصاص أن الشورى تكون في كل ما ليس فيه نص، ديني أو دنيوي، مما طريقه الرأي، وكما شاور في أسرى بدر، وتشاور الصحابة عهد عمر، في موجب الغسل بالإنزال أو بدونه؟ وقد روى ابن القيم أن عمر بلغه أن زيد بن ثابت يفتي في الغسل بالمسجد، فقال عمر: علي به: " فقال له: " أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، وكنت سمعت من أعمامي حديثاً فحدثت به،...فقال علي برفاعة بن رافع، فسأله عن ذلك، وقال: ورسول الله يعلم ذلك؟ قال ما أدري، فأمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا فشاورهم، وكان علي ومعاذ على رأي آخر، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافاً، فأشار علي بسؤال أزواج النبي ص فسأل حفصة، فقالت: لا علم لي، فسأل عائشة فقالت: " إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك، إلا أوجعته ضرباً" ( اعلام الموقعين: 1/56)، فانعقد إجماع أو شبه إجماع بفضل هذا التشاور، والبحث المشترك عن الصواب وأدلته" .
د- الشورى في القضاء: القاضي يحكم في الأموال والدماء والأرواح والفروج، وغيرها من المنازعات، فإذا نظر الفقيه إلى الأدلة المؤدية للحكم، إلا أن القاضي ينظر إليها مرتين، مرة كفقيه، ومرة أخرى كقاضي، فهو يجتهد مرتين، ولهذا هو بحاجة إلى المشاورة، وكان أبوبكر ينظر في المسألة من القرآن، وإلا فينظر في السنة، فإن لم يجد سأل الناس ورؤوسهم، فإذا اجمعوا على رأي قضى به، وهكذا كان يفعل عمر، وكتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة: " إن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي" ( جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/30)، وحدد لاختيار القاضي خمس خصال: عفيف – حليم – عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي بملامة الناس" (فتح الباري: 15/50)، فالتشاور صفة لا زمة للقاضي على الوجوب أو الندب، وهذا الاختلاف بسبب وهم الكثيرين من أن الشورى في السياسة فحسب، بينما هي من قضايا الإسلام العامة في كل شؤون حياة المسلمين الخاصة والعامة.
4- وظائف الشورى ومقاصدها:
أ- مقاصد الشورى وفوائدها: ذكر منها الجصاص: 1- إعلام الناس ان ما لا نص فيه، يستدرك حكمه بالاجتهاد، وغلبة الظن، 2- إشعارهم بمنزلة صحبة النبي، وأنهم أهل الاجتهاد، واتباع آرائهم لموافقة المنصوص من الأحكام، 3- تزكية لبواطنهم المرضية عند الله، حيث يأمر نبيه بمشاورتهم، تدليلاً على صحة إيمانهم، الذي يؤهلهم لهذا الاجتهاد، وذكر من بركاتها ابن العربي المالكي: 1- الإقدام على معلوم بعد التحري، 2- تخليص الحق من احتمالات الخواطر، 3- استخراج عقول الناس، 4- تأليف قلوبهم على العمل، كما فعل النبي في بدر مرتين، وقال أيضاً: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا" ، وذكر القاضي أبي بكر المرادي أربعة أوجه احتياج إليها: 1- تقصير المستشير عن معرفة التدبير، 2- خوفه من الغلط في التقدير، 3- تعرض الإنسان إلى أثر العاطفة حباً أو بغضاً، فيستشير من رأيه صافٍ منهما مبصر بالآراء. 4- داعية للمستشار في معونته إذا كان مشاركاً فيه، ولهذا جمعت عشرة خصال من مقاصد الشورى:
1): الوصول إلى الصواب والأصوب: هو المقصد الأصلي للشورى، لمعرفة وجه الحق والصواب، أو الأفضل والأحسن، أو معرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حيث أمرنا ب: (ادفع بالتي هي أحسن) 34/فصلت، فإذا التزمنا الشورى في جميع أشكال حياتنا كنا في حال أفضل من الفردية والأحادية والمزاجية، وبأكبر مكاسب، وأقل خسائر، قال تعالى: ( لمن شاء منكم أن يتقدم او يتأخر) 37/المدثر، ونجزم بأن أغلب تخلفنا هو غياب الشورى في حياتنا.
2): الخروج من الأهواء والمؤثرات الذاتية: النزاهة من الذاتية، والتأثر بالموضوعية صفة يصعب التخلص من آثارها بالكلية، بسبب التكوين الإنساني القائم على العقل من جانب والعاطفة من جانب آخر، ولهذا تكون الشورى تمحيص لما في العقول وموازنة لما في القلوب، بسبب اختلاف الناس فيهما، فالمشاركة تخفف آثار الفردانية منهما.
3): منع الاستبداد والطغيان: أهم مقاصد الشورى لأن نقيضها الاستبداد والطغيان، وهذا يؤدي إلى أعظم المفاسد، قال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) 6/العلق، وهذا ما دفع الطاغية الفرعون ليقول قال تعالى: (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) 29/غافر، وإذا كان الحاكم مسؤولاً عن صلاح الأمة، فإن الأمة مسؤولة عن صلاح الحاكم ورشده، والشورى تقوم بتحقيق هذا الدور لجميع شرائح المجتمع، آباء وأمهات، وقضاة، وساسة، ووزراء، وإدارات، فإذا كان الاستبداد داء، فإن الشورى هي الوقاية والدواء.
4): تعليم التواضع: لأن الطغيان يكون بسبب الاستبداد والاستغناء عن الآخرين، بينما الشورى تشعر المستشير بالحاجة إلى المعونة والمساندة، فينتج عنهما التواضع، الذي يزيح الاستعلاء، قال سفيان بن عيينة عن الرسول: " أمره – ربه – بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها، ولا تراها منقصة" (أحكام القرآن للجصاص: 2/40).
5): إعطاء كل ذي حق حقه: لا يتم للأمة بأسرها إلا من خلال الشورى، التي تحقق أعلى درجات الإنصاف الممكن للرعية، فلا يستبد بحقوقهم فرد أو جماعة، وهذا ما صنعه رسول الله في استشارة زعيمي المدينة بأن يعطي غطفان ثلث ثمارها إذا انسحبوا من حصارها مع الأحزاب، فسألوه أوحي هو؟ أم تصنعه لنا؟ فأخبرهم بشفقته عليهم، فأبوا وعدل عن رأيه إلى رأيهم، لما رأى من ثباتهم، وفي غزوة حنين صنع مثل ذلك، لما أراد أن يرد لهوازن سبيها، فشاور أصحابه، وأمر للتأكد بالرجوع إلى عرفاء الناس ليشاوروهم ويخبروه، فأخبروه بأنهم طابت أنفسهم وأذنوا" ( صحيح السيرة النبوية: 361).
6): إشاعة جو الحرية والمبادرة: الشورى حرية تفكير كما هي حرية تعبير، فإذا استخدمت من غير هاتين الخصلتين، كانت ملهاة وتضليل ومناورة، والله سبحانه أذن للملائكة بالتساؤل والتعبير عن مخاوفهم، حين أخبرهم بخلق خليفة في الأرض، ولتطبيق ما أذن الله به في السماء، أذن الله بمثله في الأرض، فاستمع جدال وشكوى أسماء بنت عميس لرسول الله من ظهار زوجها لها، والصحابة الكرام أخذوا حظهم من حرية الرأي والتعبير زمن رسول الله، حين تكلموا في أمارة أسامة بن زيد على الجيش، وأخذ رسول الله يوم تبوك برأي عمر، بعد أن اعترض على نحر النواضح بسبب المجاعة، واقترح بأن يدعو رسول الله على فضل ما لديهم من زاد فدعا، فالحرية والشورى توأمان.
7): تنمية القدرة على التفكير والتدبير: الشورى تربية وتعليم وتدريب وتأهيل، لتنمية الملكات الفكرية والقيادية، وهي تكريم من الله والشريعة للإنسان، كما أنها ترقى بمستوى فهم الناس المستشارون والمستشيرون.
8): تقوية الاستعداد للتنفيذ والتأييد: القرارات التي يشارك الشعب عبر الشورى الحقيقية في اتخاذها، تمنحه الحماسة اللازمة لتنفيذها والتأقلم مع مستلزماتها من صبر وتضحية، والقرارات الانفرادية لا يتحمس لها الشعب، بل يقف لا مبالي تجاهها، ويتملص من المسؤولية تجاهها.
9): الألفة والوحدة: لأن الشورى تطيب النفوس، وترفع أقدارها، وتحقق الرضا، وإن رد الجصاص هذا التفسير.
10): تحمل التبعات السيئة: والمآلات اللاحقة، فلو كان قرارها انفرادياً، فالشكوى تكون عارمة، وفي حال الشورى أقل بدرجات لأن الاعتراض يكون أخف وأرحم، لأنها تكون نوع من توزيع المسؤولية، بدل أن تكون على واحد.

الفصل الثاني: قضايا أساسية في الممارسة الشورية
أرسى الشرع الممارسة الشورية في حياة المسلم الخاصة والعامة، دون تقييدها بشكل محدد، فإن كانت مندوبة في الحالة الفردية والعائلية، فإن ممارستها في الحياة العامة تحتاج إلى تفصيل.
5- أهل الشورى بين العموم والخصوص:
أ- البعض حصر أمر الله لرسوله بالشورى في أبي بكر، وعمر، لقوله ص: " لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً.." (فتح الباري: 15/284)، وعقب ابن حجر بقول: " لا حجة فيه للتخصيص" وقال ابن العربي: " (وشاورهم في الأمر) المراد جميع أصحابه، ويؤكدها خطابات رسول الله العامة أكثر من مرة بقوله لأصحابه: " أشيروا علي أيها الناس .." وقد طبقها رسول الله في مرات كثيرة وأحوال متنوعة، مما يكون ذلك تطبيقاً للآيات التي أمر بها بالمشاورة، [ وهي عامة وحكمها مختلف حسب درجة الحاجة والأهمية، بين الندب والوجوب والإباحة] م. ن.
ب- الرجل والمرأة في الشورى سواء: كل خطاب عام موجه للمؤمنين والمسلمين يشمل المرأة كذلك، إلا إذا خصص بالرجل دون المرأة، أو بالمرأة دون الرجل، ولا دليل على ذلك في أمر الشورى، قال ابن حزم الظاهري: " خطاب نبيه صلى لله عليه وسلـم للرجال والنساء واحداً، ولا يخص بشيء إلا بنص أو إجماع" (الإحكام في أصول الأحكام: 3/80)، وأشهر مشاورة لرسول الله للنساء، مع أم سلمة يوم الحديبية، وفي رواية أن امرأة أشارت على النبي بأن يُصنع له منبراً يجلس عليه يوم الجمعة، فوافق، فصنعه غلام لها نجار، (البخاري)، وذكر القرآن مشاورة بلقيس قومها، للرد على رسالة سليمان عليه السلام، واعترض كثيرون على ان المرأة تمنع من الولايات العامة، وسندهم قول النبي لما بلغه أن فارساً ملكوا ابنة كسرى، :" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (البخاري)، ولا يصح قياس السلطة العليا التنفيذية على سلطة تمثيلية نيابية تشريعية، فهذه غير تلك، ويرى علال الفاسي، أن قوله تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم) 71/التوبة، نص في شمولها بالشورى والمشاورة، والولاية والنصرة، وحضور المساجد، والمعارك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يضاف إليها ما ورد في مشورتها في الأمور الأسرية كذلك، ولا يرى إمام الحرمين [الجويني] للنساء هذا الدور، فإن أراد الواقع العربي الإسلامي في تلك العصور فصحيح، لكن لا ننسى أن الإسلام جاء وغير هذا الواقع وفتح نوافذ الحق والحقوق للجميع، أما النفي المطلق فهو غير صحيح، ولا دليل عليه، من كتاب ولا سنة، ويكفي حضور أم عمارة المازنية، وأسماء بنت عمرو إبرام بيعة العقبة الثانية أول الإسلام، ومشاورة عبد الرحمن بن عوف النساء المخدرات في عقد بيعة عثمان خليفة للمسلمين.
ج- الشورى الخاصة: الشورى العامة لكافة المكلفين، لكن الشورى الخاصة لبعض المكلفين، وفي هذه الحالة يحكمها الفرض الكفائي وحيثياته، ويقبل في هذه الحالة التوكيل بها، لأن المشاورة تنقطع بالعزم، واتخاذ القرار، قال تعالى: ( وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله)، ولتعذر استشارة جميع الأمة، لجأ رسول الله إلى فكرة النقباء عنها، والعرفاء، كما حدث في بيعة العقبة، وغزوة حنين، يضاف إلى ذلك، الحاجة إلى استشارة شرعية، أو عسكرية، أو قضائية، أو تجارية، أو سياسية، هذه التخصصات، تحتاج مستشارين مخصوصين، يتمتعون بفهم هذه الأمور، ولديهم دربة وخبرة فيها، وهذا ما أدركه الفقيه المالكي " ابن خويز منداد" يقول: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال، فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها" (القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 4/250)، وذكر القرآن: ( سؤال أهل الذكر – والذين يستنبطون ) ، واليوم لا حاجة للحاكم أن يقف بين الجموع ليقول: أشيروا علي أيها الناس، بل عليه أن يفعل ويؤصل وينظم الذي بدأه رسول الله في العقبة وحنين، وهو اختيار مجالس تمثل الأمة، وتمثل المختصين في كل جانب يحتاجه وتحتاجه الأمة، والأعراف اليوم والخبرات العالمية أنتجت ما يعرف بمجالس النواب، أو المستشارين، وحتى مجالس البلديات ..ولا مشاحة في الاصطلاح لتحقيق المقصد الشرعي من الشورى.
6- مجالس الشورى، صفاتها واختيارها: ويعرف في تاريخنا بأهل الحل والعقد: يضاف إليهم اليوم: كبار المستشارين، ولهم مواصفات أوصلها الفقيه " ابن الأزرق" إلى اثني عشر شرطاً: 1- العقل الفطن، 2- التقوى، 3- المحبة والإخلاص، 4- سلامة الفكر، 5- البراءة من الهوى، 6- التمتع بالخبرة مع العلم، 7- الاعتزاز، 8- كتمان السر، 9- برئ من الحسد، 10- الشعور بالسلامة، 11- الشعور بالمسؤولية، 12- الثقة بالنفس.
ويمكن جمعها في التمتع بالعلم والأمانة والخبرة، لقوله صلى الله عليه وسلـم: "المستشار مؤتمن" (أبو داود .صحح).
واختيار أهل الشورى ب: 1- طريقة التعيين: 2- طريقة الانتخاب: وقد يجمع بين الطريقتين، [ وهذا ما فعله رسول الله]، والمقصد الشرعي هو الذي يحدد الكيفية المناسبة، فإذا كان المقصد تمثيلي، [ كما حدث في بيعة العقبة، وحنين] فإن الأمة والمكلفين هم الذين يختارون من يمثلهم، والطريقة الأولى مقصدها اختيار مستشارين بمواصفات محددة، وهذا ما تقوم به الجهة ذات الاحتياج، فالرئاسة تختار من يعاونها، ومجلس الوزراء يختار من يعاونه، ومجلس النواب يختار من يعاونه، بطريقة التعيين، أو آليات انتخابية خاصة يحددها صاحب الاختصاص.
قال في الفتح: " العرفاء جمع عريف: وهو القائم بأمر طائفة من الناس، يتعرف أمورهم، حتى يُعَرِّفَ بها من فوقه عند الاحتياج" (فتح الباري: 15/74)، وأما النقيب: فهو كبير القوم، القائم بأمورهم، التي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها" (المحرر الوجيز لابن عطية: 4/382)، وورد أنه لما قبض رسول الله، حضرت الأنصار للمشاركة في غسله، ونادوا على الباب: الله الله، فإنا أخواله، فليحضره بعضنا، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاختاروا " أوس بن خولي" فحضر غسله ودفنه، مع أهل بيته" (التراتيب الإدارية: 2/165).
7- إلزامية الشورى ومسألة الأغلبية: العلماء الأقدمون كانوا يرون أن الشورى للحاكم معلمة وليست ملزمة، يأخذ ما يقتنع به منها، أما المعاصرون من العلماء والمفكرين فيميلون إلى ضرورة التزام الحاكم بالشورى، خاصة مع رأي الأغلبية، فتكون ملزمة، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلـم، أمرنا أن نكون مع سواد المسلمين، أي غالبيتهم، وطبق هذا تماماً يوم أحد، في خروجه التزاماً مع رأي الشباب، - وترك رأيه الخاص – وحديث ما لم يكن فيه كتاب ولا سنة، قال: " اجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد." (ابن عبد البر: جامع بيان العلم: 2/73)، وقوله لأبي بكر وعمر: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" (أحمد في المسند: 4/227- وفتح الباري: 15/284)، ومقولة الخليفة الراشدي الخامس: عمر بن عبد العزيز: لما ولي إمارة المدينة، دعا عشرة من فقهائها، وقال لهم: " إني إنما دعوتكم...ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم" (تاريخ الأمم والملوك للطبري: 7/61)، والتأكيد على الشورى تأكيد على الزاميتها، خاصة في حالة إجماع المستشارين، وحين اختلافهم، يكون رأي الأغلبية ملزماً، بدليل:
1): النظر في القرآن الكريم: استشهد البعض بذم القرآن للأكثرية على أنها لا تعبد الله وهي لا تؤمن به، وهذه ليست حجة لأنها لا تتحدث عن المسلمين والأخيار، وقوله بفضل الأقلية، لا يقوم دليلاً، لأن المتكبرون والفراعنة، والظلمة دائماً هم أقلية تتحكم بالأغلبية كذلك، [ فيتساوى الدليلان ويتساقطان معاً، ] م. ن، وهذا عمر يقول: " اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم" (جامع بيان العلم: 1/226)، وقال مثلها من قبل: أبوبكر لامرأة من أحمس يقال لها " زينب" وعلق ابن حجر على مقولته: " لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال" (فتح الباري: 7/536)، [ وفكرة التشكيك بالكثرة وتقليل شأنها، تناسب الفراعنة والمستبدين]، قال تعالى يمدح كثرة المؤمنين: (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم..) 86/الأعراف، وقد ذكر القرآن الترجيح بالكثرة في قوله: ( قل لا يستوي الخبيث والطيب، ولو أعجبك كثرة الخبيث) حكاه ابن عرفة التونسي، عن ابن المنير الاسكندري، (التحرير والتنوير: 7/64)، وذكر قول النبي لثناء المسلمين على جنازة فقال وجبت وجبت، فاستنبط منها أن كثرة الشهادة بالصلاح معتبرة عند الله، وأمر الدنيا أهون من الشهادة لوجوب الجنة لمسلم، ويستشهد بالقرآن الذي ذكر فيه إصرار ملكة سبأ على عدم الانفراد برأيها فيما يمس مصلحة شعبها، ( ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون) 32/النمل، وقال الشاطبي: " لم يرد في القرآن ما يرد قولها أو يبطله، إذا كان باطلاً، (الموافقات: 3/353)، والأمر الثاني الذي يشهد لصحة شوراها وتصرفها، هو إسلامها واستجابتها للحق، بتزكية قرآنية: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) 44/النمل، والشهادة الثالثة من القرآن، أن ينطبق عليها قوله تعالى: ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) 193/ آل عمران، وعلق القرطبي على فعلها في مشاورة قومها بالاستحسان، فقال: " وهي محاورة حسنة من الجميع" والشهادة الرابعة للشورى، تعليق ابن عباس على قوله تعالى مؤيداً كلامها: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، ) و (وكذلك يفعلون) أنه من الله معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلـم وأمته، بذلك ومخبراً به" (تفسير القرطبي: 13/ 195)، وقال عن ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي: " تصديق الله قولها، والتزامها بمشورة قومها، مثالاً يحتذى.
2): في السيرة النبوية:
أ- في غزوة بدر: لم يطمئن رسول الله لخوض مواجهة قريش يوم بدر، وهو يقول: أشيروا علي أيها الناس، حتى تكلم الأنصار بالموافقة وقالوا: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل: ذلك أنهم عدد الناس، (أي الأكثرية)، ولما انتصروا فيها وأسروا عدداً من المشركين، فاستشار النبي فيهم مرة أخرى، ولم يكن قد نزل فيهم شيء من القرآن، فأشار أبوبكر عليه بالفداء، وغالبية الصحابة، وأشار عمر بقتلهم، فنزل القرآن يعاتبهم على فرحهم بالفداء، وأنه من عرض الدنيا، وطبق النبي راي الأغلبية، بعد أن أباح الله لهم ذلك، في آخر النص: ( فكلوا مما غنتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم)، وهذا العتاب لمن استحكمت رغبة الدنيا فيه وليس للجميع، (تربية ربانية عظيمة).
ب- غزوة أحد: لما تجهزت قريش لغزو المدينة، ثأراً لهزيمتهم يوم بدر، استشار النبي الصحابة لكيفية مواجهتهم، فكان رأي الغالبية الخروج لملاقاتهم خارج المدينة، حماساً ومعنويات، خاصة من الشباب والذين لم يشاركوا في بدر، وكان رأي النبي مواجهتهم لكثرتهم بالتحصن داخل المدينة، فلم ينصاعوا لهذه الرغبة النبوية، فنزل على رأي الأغلبية، ولما أرادوا التراجع عن رأيهم رفض النبي،
ج- غزوة الخندق (الأحزاب): لمواجهة تحالف قريش والقبائل واليهود والمنافقين، فتعلم النبي والمسلمون الدرس من أحد، فحفروا الخندق بمشورة سلمان، ولما طال الحصار عليهم، أراد النبي فك تحالف قبيلة غطفان مع الأحزاب، بإغرائها بثلث تمور المدينة لموسم، واشترط استشارة وموافقة السعود الأربعة (وكانوا زعماء أهل المدينة): سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن خيثمة، ولما علم هؤلاء أن الأمر شفقة عليهم وليس وحياً، رفضوه وقال النبي لهم: أنتم وذاك، وترك النبي اقتراحه، لعزيمتهم وصبرهم.
8- مقام النبوة وخصوصيته:
أ- فوق الشورى ونتائجها، لأن تأييد الله له وعصمته، تغنيه عن كل ما نظنه من خطأ أو صواب، لكن ما يفعله من مشورات كثيرة ومؤكدة، تجعل أي شخص غيره من الحكام والأمراء هو أولى بان لا يستغني عنها، لأنه لا عصمة له ولا وحي يتنزل عليه، ولا مقام له يدانيه أو يقاربه في شيء، فإذا أمضى بعض الأمور وأصر عليها دون شورى، فكيف لا يكون له ذلك وهو المعصوم المؤيد؟ فلا حجة لمن يريد أن يبعد وجوب الشورى للرقي بحياة المسلمين، وحسن إدارتهم لشؤونهم الخاصة والعامة.
ب- الترجيح بالأكثرية عند العلماء: حتى لا يظن أحد أن اعتبار الأكثرية منتج ديمقراطي غربي فحسب، وهي أمر عرفه المحدثون والفقهاء والأصوليون، والقضاة المسلون، وأشار أبو بكر بن العربي، أن العامي عليه أن يستفتي من يقع عليه اتفاق أكثر الناس في الشهادة له بعلمه" (أحكام القرآن: 2/225)، وقال ابو إسحق الشيرازي: " القول الذي عليه أكثر الصحابة هو الذي يقدم ويتبع، لقول النبي: " عليكم بالسواد الأعظم" (شرح اللمع: 2/751)، وقال ابن القيم: " فإن كان الأربعة الراشدين في شق، فلا شك أنه صواب" (أعلام الموقعين: 4/122)، وقال الحسن البصري: " يبعد أن يكون الأقل راجحاً" وهذا لا يعني عدم خطأ الأكثرية، وصواب الأقلية والواحد، لكن هذا نادر، لأن الغالب هو العكس، خاصة إذا كان الأمر وجهة نظر ورأي الواحد لا دليل معه.
الفصل الثالث: التجربة الشورية الإسلامية بين عهدها التأسيسي ومآلها التاريخي
بين يدي الفصل: [ شكلت الشورى أحد أهم عناصر قوة المجتمع المسلم الأول بعد التوحيد، باعتباره ناظماً للحياة المجتمعية، والتوحيد ناظماً للحياة الفردية، وكلاهما يتحدا في تنظيم الاعتقاد والفكر، والسلوك والأخلاق، ونحن اليوم أحوج إلى التطلع لهذا النموذج النبوي الراشدي لاستلهامه في تسديد خطانا نحو الإصلاح والتجديد لاقتباس هذا العنصر الرئيس الذي شكل قوة جيل الرعيل الأول، دون أن ننسى اننا في عصر لا يمكن إغفال متطلباته الحاجية والضرورية، لنكون من أبنائه البررة، دون أن نعق سلفنا الصالح، بأن نكون الخلف الذي ضيع وقصرَّ وفرَط وأفرط، بل نكون خير خلف لخير سلف، وهذا ما سيتحدث عنه المؤلف جزاه الله خيراً.] م. ن.
9- التجربة الشورية الأولى: بداهة الفطرة تؤكد أصالة قيمة الشورى في عقل الإنسان العاقل، وهذا ما بينته الآية الأولى المكية حيث وصفت المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم) ولا يحتاج إدراك أهميتها لشيء من خارج عقل الإنسان، لأمره بها وفرضها عليه، ولئلا يقصِّر فيها أحد، أو يهملها صاحب غرض، نزلت الآية الثانية في الشورى في العهد المدني، بقوله: ( وشاورهم في الأمر) فاجتمع لها وصفين، الأول: الوصف الفطري الذي لا يغيب عن العقلاء والحكماء، والثاني: الوصف التكليفي، الذي يقتضي ليس فقط الوجوب، بل تطوير الآليات العملية لتطبيقها في كافة الظروف، وتحسين استثمارها في تنظيم وقوة الدولة والمجتمع والجماعة، قال الطرطوشي: هي مما تعده الحكمة من أساس المملكة وقواعد السلطنة، ويفتقر إليها الرئيس والمرؤوس" (سراج الملوك: 63)، وقالها بعينها " ابن جماعة"، (تحرير الأحكام: 169)، وكان تطبيق النبي والخلفاء الراشدون لها من بعده، تقوم على البساطة واليسر والسماحة، دون نظام صارم يرضي أو يغضب، بل كانت المشاورات تجرى في جو من الحرية والأمن والجرأة، والمساواة، وفهمها الصحابة والخلفاء الراشدون بهذا الوضوح:
أ- بيعة الصدِّيق: بعد وفاة رسول الله ص لم يكن للمسلمين نظام للأمرة والأمارة، ولكن الإدارة النبوية كانت تقوم على الشورى وقواعد حسن اختيار الرجال للمهام المنوطة بهم، ولهذا سارع الأنصار وهم سكان المدينة، - وهم أقرب للشام من مكة، ولديهم احتكاك بها عبر التجارة – لاختيار أمير منهم لأنهم أهل البلد، على رغم عروبتهم التي لا تعرف نظام الرضوخ لملك، حيث كانوا في حالة القبلية وأعرافها، ولديهم زعامات يمثلون قبائلهم، لكن أن يكون لهم أمير يمثل الجميع، فهذه أخذوها حديثاً من شريعة الإسلام وثقافته، لأنهم انصاعوا لرسول الله، فتعلموا أن يكون لهم من يخلفه لهذا الانصياع للاستمرار في تبليغ رسالة الإسلام، إلا أنهم لم يفطنوا إلى المتغيرات الجديدة التي جعلت الجزيرة العربية بأسرها واليمن، دولة الإسلام وهذا يهم جميع قبائل العرب، وليس قبيلتي الأوس والخزرج فحسب، ولهذا تدارك الأمر عمر وأبو بكر وآخرون فسارعوا إلى سقيفة بني ساعدة، التي اجتمع بها الأنصار، فتكلموا فيهم بأن العرب لا تعرف هذا الأمر – في زمن البعثة على الأقل – إلا لهذا الحي من قريش، فاقتنعوا بالأمر، خاصة بعد أن اقترح عليهم عمر قرين وصديق النبي صلى الله عليه وسلـم في حله وترحاله وغاره وسيرته، الذي لا يعدله أحد من صحابته والناس، وبتزكيات متعددة من رسول الله، فكان هو خليفة المسلمين الأول.
ب- استخلاف عمر: عندما اشتد المرض بأبي بكر، بدأ يفكر ويستشير الناس فيمن يمكن ان يخلفه عليهم، فاستشار عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهم كثير من المهاجرين والأنصار، (تاريخ الخلفاء للسيوطي: 70)، وعبر البعض لإبي بكر عن تخوفهم من غلظته، فرد عليهم، وأمرهم أن يبلغوا من وراءهم برده وحجته، وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة: " لما ثقل مرض أبي بكر اشرف على الناس من كوة فقال: " أيها الناس، إني عهدت عهداً أفترضون به؟ فقالوا رضينا، فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر" (تهذيب تاريخ الخلفاء: 71).
ج- بيعة عثمان: لما طعن عمر وشعر بدنو أجله، طلب منه الناس أن يستخلف، فأبى، اقتداءً بفعل الرسول ص، وعلم ابنه عبد الله من أمه، بنية والده في عدم تعيين شخص ما يخلفه، فحلف أن يكلمه، فدخل عليه وروى له قصة راعٍ ترك قطيعه في البرية، ودخل المدينة، وسأله إن كان يقبل فعل هذا الراعي، فأجاب عمر لا، لكنه في اليوم التالي، اجتهد في أمر جديد، وهو توكيل ستة رجال قادة مخلصين، يعرفهم الصحابة والناس، توفي رسول الله ص وهو عنهم راضٍ، واقترح أن يختاروا بعد التشاور مع الناس أحدهم، فوقع الاختيار أخيراً على عثمان رضي الله عنه.
10- التشاور حول الأراضي المفتوحة: وهذه قضية فقهية ذات أبعاد سياسية، وعسكرية، واقتصادية، عرضت زمن عمر، بعد أن افاء الله على المسلمين فتح العراق والشام، فوزعت الغنائم المنقولة على المقاتلين، حسب أعراف ذلك العصر، وكان من بينها أراضٍ شاسعة فتحت عنوة، فطالب المقاتلون بتوزيعها عليهم كباقي الغنائم، وبينما هو يقلب الأمر في كيفية توزيعها عليهم، وقد وصل إلى الجابية بالشام، ورأى بعينيه هذه الأراضين الزراعية، اعترض على ذلك معاذ بن جبل، وقال له: إذن ليكون ما تكره، إنك إن قسمتها، صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، أو المرأة، ثم يأتي قوم يسدون من الإسلام مسداً، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم، ولهذا بدأ عمر باستشارة كبار الصحابة، علي وعثمان وطلحة وابن عوف، وأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج، وبين لهم أنه لا يريد منهم أن يوافقوه بقدر ما يريد منهم أن يشيروا عليه بالحق، الذي لا يظلم فيه أحد من المسلمين، المعاصرين والأجيال القادمة، واقترح عليهم وقفها وإبقاءها بيد أهلها، على أن يأخذ منهم الخراج والجزية، فتكون تمويلاً ورواتب للجيوش والثغور ومصالح المسلمين، فأيدوه في اقتراحه [ وأظنه استشهد بقوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)] م. ن.
11- المآل التاريخي للممارسة الشورية: انتقال الحكم من الخلافة الراشدة إلى الملك الوراثي، أصاب الأمة الإسلامية بسهم دامي ينزف في جسد الأمة إلى يومنا هذا، لكن هذا لا يغمض عيوننا عن حالات استثنائية لخلفاء وأمراء مارسوا الشورى كما هي في القرآن والخلافة الراشدة، ومن ذلك عهد عمر بن عبد العزيز، وقبل عهده عندما صار أميراً على المدينة، فجمع عشرة من كبار فقهائها، وعرض عليهم ثلاثة أمور: 1- مشاركته الرأي في إدارة المدينة، 2- إخباره عن أي مظالم للناس فيها، 3- التبليغ عن العمال والموظفين إذا قصروا أو ظلموا.
والمثال الآخر: ما فعله أمراء وحكام دولة المرابطين في المغرب العربي القرن الخامس، من التزام بالشريعة والشورى، ومنهم علي بن يوسف، حتى سميت دولة الفقهاء، وما عدا ذلك لم يعد للشورى مكان في الدولة الإسلامية، سوى ما يمكن للحاكم وأسرته السيطرة والاستبداد والانفراد بالحكم، وأكبر دليل على ذلك إغفال كتب الفقه والشريعة وعلم الكلام التفصيل والاستنباط لمسألة الشورى وما يتعلق بها من أحكام السياسة الشرعية، سوى شيء باهت خفيف لا غناء فيه ولا تأكيد، سوى تجميل بعض الكتب بشذرات من هذه المسائل، لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى أن الفقيه الجليل الطرطوشي كتب " سراج الملوك" وذكر في مقدمته، وصايا وحكم للأمير تغنيه حتى عن استشارة وزرائه، فأصبحت الحكم السلطانية، ترف أدبي، وليس واجب عملي للأمة وحكامها.
12- الدولة الإسلامية بين التطور التنظيمي والتراجع الشوري: كثيرة هي التطويرات التي حدثت في هيكلية الدولة الإسلامية منذ العهد النبوي والراشدي، إلى الدولة الأموية والعباسية وما تفرع عنهما من دول ودويلات، في الأمور القضائية والمالية والعسكرية والتعليمية، متأثرين بأنظمة الدول المجاورة والتي فتحها الإسلام وهيمن عليها كفارس والروم، من ذلك الخطط التي تتعلق بما ذكرنا ومنها، خطة الحسبة، وخطة العدالة (التوثيق)، وخطة الفتوى، والأوقاف، والمستشفيات، والشرطة الكبرى، والوسطى، والصغرى، وصاحب السوق، وصاحب المدينة، ورد المظالم، كل هذا وأكثر منه، عدا ما يتعلق بالشورى ونظام الحكم، فبقي تطوره إلى الأسوأ وليس إلى الأصلح، حيث أصبح الفقهاء يفتون بانعقاد بيعة الواحد، وبيعة الاثنين، حتى أن خلافة العهد أصبحت تسند إلى أطفال وصغار وحتى رضع، ولم نجد من فقيه يتصدى لهذه المهازل التي قضت على دولة الإسلام في النهاية، وعد ابن الخطيب في كتاب سماه " إعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام،" وصل عددهم إلى 48 أميراً وخليفة، ولم ينتقدها، وإنما أشار إلى أن من غلط من الفقهاء بإجازة ذلك، يقول: فنحن راضون لمشاركتهم في الغلط" ، ولم يعد من الحكم سوى التغلب.
الاستثناء القضائي: لعل أحسن تطبيق للشورى استمر في تاريخنا كان في النظام القضائي، فهذا عثمان الخليفة، يحضر أربعة من كبار الفقهاء، حين يقضي، ويستشرهم، وما يحكمون به يقضي به، وكان عمر يستشير علياً وغيره فيما يرفع إليه من أمور المسلمين، وتطور القضاء في المغرب العربي، فيما عرف ( بالمستشارين) يختارهم القاضي من الفقهاء، وانتشرت هذه الخطة في الأندلس كذلك، وللقضاء في الدولة الإسلامية صفحات مشرقة في الاستقامة والعدالة والمساواة، حتى مع بعض الأمراء والخلفاء، والسبب تأثير استمساك الناس بالشريعة، التي كانت السلطات لا تقربها إلا من أجل تحقيق الحظوة والتأييد من عامة الناس لهم على أنهم مستمسكين بتطبيق الشريعة، عدا ما يتعلق بالحكم والمال والشورى، لأن المرجعية الوحيدة التي كانت مهيمنة هي الشريعة الإسلامية.
الفصل الرابع: الشورى اليوم: كيف نبنيها وكيف نبني بها؟
13- نحو إعادة البناء واستكمال البناء: ظهرت حديثاً دراسات متعددة تتعلق بإعادة الاعتبار للشورى وما يتعلق بها من الحكم الإسلامي الرشيد، ونحن بحاجة إلى مزيد من هذه الدراسات حتى يتسنى للأمة تطبيقات مناسبة لها في عصورنا الحالية، للخلاص من التشرذم والضعف والاستبداد وما يتبعه من فساد في جميع الأصعدة، والشورى ليست أكثر من طاعة الله تعالى في وصفه للمؤمنين: ( يستمعون القول فيتبعون أحسنه) 18/الزمر، وقوله: ( والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم)، ومن يأباها من الظالمين يقع في مشابهة الله، الذي لا راد لحكمه، وهذا عين الشرك والعياذ بالله، وحذر ابن خلدون من خراب العمران بسبب الظلم، المتسبب عن هضم حقوق الناس المادية والمعنوية، ومثله حذر كذلك الكواكبي في كتابه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
أ- نحو تنظيم الشورى ومأسستها: أكبر ثغرة في تاريخ المسلمين أدت إلى كثير من المصائب الطامة، وإسالة الدماء في ربوعهم، هو غياب الشورى من حياتهم السياسية، ولذا لا تجد تنظيم فقهي وأصولي مفصل يقنن تطبيق الشورى في حياتهم، عدا النور المتلألئ منها في العهد النبوي والراشدي، والذي طبق عملياً، اتباعاً للنصوص، وفهماً للقرآن والسنة، بشكل ناسب حياتهم الأمية والفطرية والقبلية، ذكر البخاري: " كان القراء أصحاب مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شباناً" ثم انطفأ انطفاء شبه كلي عن حياتهم السياسية والثقافية، بينما تأصلت مؤسسات كثيرة وأخذها عنهم الغرب، في تنظيم الوقف، والتعليم، والفقه والتشريع، والشرطة، والقضاء، عدا تنظيم الشورى، الذي ترك غيابها فراغاً تنظيمياً وفقهياً، فتحكمت القوة والشوكة في حياة المسلمين، واستُبْعِدَتْ الشورى والحكمة والشريعة من التدخل في تنظيم شؤونهم وحياتهم السياسية، فوقعت الطامات الكبرى، وكانت بما كسبت أيدي المسلمين: قال تعالى: ( ولا يظلم ربك أحداً) 49/ الكهف، ويشير إلى ذلك ما أخرجه مسلم قال: " ...مر رسول الله ص بمسجد بني معاوية – في المدينة – دخل فركع ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلـم: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة – الجفاف – فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق – الأعاصير المدمرة – فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" أجاب الله دعاء النبي في أن لا يهلك أمته بقدر الجفاف، ولا بقدر الطوفان، وهما أمران قدريان، لكن الله لم يجبه بالدعوة الثالثة، أن يجنب أمته الصراعات الداخلية، والبأس بينهم، لأنها كسبية ولها مسبباتها، ويمكنهم اجتنابها بالفهم والعمل والالتزام، والحرص على مقتضيات الأخوة والمحبة والتناصر والتعاون، وهم لم يفعلوه حين فرطوا بالشورى ومستلزماتها السياسية والفكرية، فهدموا كل مقتضيات الأخوة باستبعادها، وهذا بيان صريح بالنتائج من الله والرسول في هذا الحديث العظيم.
ب- حديث مسلم والبخاري عن الفتنة: التي تموج كموج البحر، وسؤال عمر حذيفة عنها، وقوله أن بابها بينه وبينها يكسر، فقال عمر: أحرى أن لا يغلق" وسببها استبدال الشورى بالقوة والغلبة، ومأسسة الشورى وتنظيم أمورها بالقفل والمفتاح والباب، والفتح والغلق الشرعيان يحل كل المشكلات، ويجعل لكل منها مفتاحه الشرعي، [ حتى الجنة دخولها له مفتاح، وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن كما قال أحد العارفين الصالحين: مفتاح الجنة له أسنان، هي الالتزامات الشرعية، فإذا لم تلتزم، المفتاح هنا أيضا لا يفتح، ] م. ن، والله لم يفصل ثوباً خاصاً لكل واجب إسلامي، سوى العبادات، لأن ذلك متروك لكسبهم وجهدهم واجتهادهم، وتطور الزمن معهم وبهم، يفصلوها على حسب احتياجاتهم، كما فعلوا مع العلم، الذي أوصلوه إلى مراقي عالمية، آثارها ظاهرة بارزة إلى يومنا هذا،
وهذا ما نحتاجه مع الشورى كذلك:
14- تُحدَث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور: قالها عمر بن عبد العزيز، وكانت معروفة قبله وبعده، ولهذا قرر الفقهاء تضمين الصناع، خلافاً لأصل البراءة، وأن عملهم أمانة، لكن ضمنوا استحساناً لئلا يتهربوا من المسؤولية بالتقصير والطمع، ولهذا قال عمر لمن يتحين فرصة وفاته: " فيبايع أحدهم يفرضه كأمر واقع على المسلمين، فلتة كفلتة مبايعة أبي بكر على زعمه " فقال عمر: " من بايع أحداً عن غير مشورة للمسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه،" بل هدده بالقتل إن فعل، ولهذا قال ابن عطية: " من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب"، ومنها :
أ- قاعدة سد الذرائع: منع المباح والمشروع إذا كان يؤدي إلى ضرر مؤكد، لا لحرمته وهو حلال مباح، ولكن لأنه يؤدي إلى ضرر وأذى، والرسول ص يقول: " لا ضرر ولا ضرار" وهذا المنع يستخرج منه قاعدة تسمى " سد الذرائع" ومن تطبيقاتها: ان النبي منع قتل المنافقين، معلومي النفاق، سداً لذريعة تخوف الناس من دخول الإسلام، ومثله: منع إقامة الحدود في الغزو وجبهات القتال، لئلا يفضي إلى استفادة العدو من ذلك، ومنع عمر بعض الولاة من زواج الكتابيات، خوفاً على مصالح الأمة، وفتنة المسلمات، واستبعد ابن عمه سعيد بن زيد من ستة الشورى مع أنه من المبشرين بالجنة، سداً لذريعة توريث الخلافة، واستخدمت هذه الذريعة في كثير من الأبواب والأحكام الفقهية، إلا في الأحكام السياسية، والشورية، وقد استخدمت في القضاء في دولة الموحدين، حيث حددوا سنتين للقاضي فقط، لئلا يتخذ الأقران والأخدان في عمله، فينقصه الإخلاص والنزاهة.
ب- المصالح المرسلة: قال ابن القيم الشريعة أساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.." (أعلام الموقعين: 3/3)، وقد أشبعت المصالح المرسلة دراسة وبحثاً، لدى الفقهاء والإمام الشاطبي، واشترط لها: 1- الملاءمة لمقاصد الشرع ولا تعارض أدلته، 2- أن تكون مما يعقل ومناسبته معقولة، 3- وأن تحقق مقاصد شرعية من الوسائل.
بهذه القاعدة : جمع المصحف ونسخه، وبها عمل التاريخ الهجري، وبها دونت الدواوين، وبها فرضت الرواتب للجند، والعلماء، والمعلمين، إلا أن نصيب الشورى من هذه القاعدة يكاد أن لا يذكر، ولهذا ينبغي أن ينظم أمرها، وتحدد الطرق والوسائل لإعمالها، وتأسيس هيئات شورية محكمة في شتى الاختصاصات؛ لتكون المعلم الذي ينهض بالأمة من كل ما سببه غيابها عن واقع المسلمين، وحياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية.
15- الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير: علمنا القرآن أن نقتبس ونتعلم من الآخرين والطبيعة والحيوان، وذلك في قصة الهدهد وسليمان، والغراب وقابيل، والأمم الأخرى المندثرة، والهالكة، عظة وعبرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلـم لم يحجم عن الاستفادة من الآخرين، في قصة ما أشار به سلمان من حفر الخندق يوم الأحزاب، وكذلك صناعة منبر ليجلس عليه ويخطب، بإشارة امرأة كان عندها غلام نجار، وصوغ خاتم لختم الرسائل المرسلة للملوك، وصلاته إلى بيت المقدس جهة تعبد النصارى أول أمره، لأنهم أهل دين سماوي بالجملة، وحديث المستورد القرشي، عند عمرو ابن العاص، وقول النبي: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول: قال: سمعته من رسول الله، قال: لئن قلت ذلك، فإن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك" (ر. مسلم)، واستخرج القاضي عياض من حديث أم زرع الذي روته عائشة رضي الله عنها: جواز الحديث عن الأمم الخالية، والاستفادة من تجاربهم، وهذا فعله الرسول وخلفاؤه الراشدون دون حرج.
16- الشورى في معركة الإصلاح والبناء: قبل عقود من الآن كانت الأقطار العربية والإسلامية تعج بالأفكار الثورية من كل نوع، وإلى اليوم لم يتغير شيء، بل ازدادت الأمور سوءً، لكن التفكير الثوري اليوم تغير من التنظير إلى الفعل، وهذا الفعل على المستوى الفردي والجماعي، بدأ بمقاربات فكرية إصلاحية عملية، على المستوى الفردي، في التنمية البشرية ومستلزماتها، وعلى المستوى الجماعي، النقد الإيجابي البناء، القائم على الاستفادة من الأمم الأخرى، والتجارب الناجحة، والشورى تعتبر القاعدة الرئيس في ولوج ساحة التغيير والإصلاح، دون فقد الهوية والثقافة الإسلامية، وهذا يحتاج إلى آليات للنهضة المنشودة الشاملة.
17- ثقافة الشورى: كانت حاضرة بكثافة في العهد النبوي والراشدي، ثم ضمر استخدامها بعد ذلك، نظرياً وعملياً، ونحن اليوم بحاجة إلى دراسات وبحوث ومحاضرات وندوات، بحيث تصبح هاجس عند جميع شرائح ومؤسسات المجتمع، وإعادة الروح إليها حتى تصبح منهج حياة الناس، ومنهج تفكيرهم وعلاقاتهم، وهو منهج يرشد العلاقات الأسرية والاجتماعية والوظيفية، والحكومية، والدعاة أحوج إليها، لنشرها بين الناس: 1- عموم المسلمين، 2- تربية الوعاظ والدعاة والطلاب عليها، 3- إقامتها في المؤسسات والجمعيات والأحزاب، والنقابات، والبلديات والقرى، حتى تتأصل في سلوكيات الأفراد والجماعات، 4- ومن ثم تصل إلى أعلى مستوى في الدولة والمجتمع وهو الحكم والحاكم، وقال صلى الله عليه وسلـم: " من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم" (أبو داود-والترمذي)، وحديث: " لعن رسول الله ص من أم قوماً وهم له كارهون" (الترمذي)، وهذا يدفعنا إلى نشر ثقافة إدارة الحي لمسجده شورياً، ومن ذلك المجمعات الفقهية الجماعية عالمياً وإقليمياً، تصب في هذا الاتجاه الشوري، وكلما زادت جرعة الشورى والثقافة الشورية الجدية، كلما خفتت الاختراقات الفردية والتخريبية التي تستغل فراغ الساحة من الشورى فتملأ فراغها بانحرافات ودسائس ما أنزل الله بها من سلطان، فالحل هو الشورى والشورى، وليس غير تعميم الشورى.
18- تنظيم الممارسة الشورية: كما نظمت العبادات بتفصيل دقيق، ينبغي أن يكون للشورى تنظيم دقيق كذلك، وقد ربط القرآن بين استجابة المؤمنين لربهم وإقامتهم الصلاة، والشورى بينهم، في آية واحدة، (38/الشورى)، مما يعطي دلالة أن الله تكفل بتفصيل أمر الصلاة وإقامتها على أحسن صورة، وان على المؤمنين أيضاً أن يتكفلوا بتفصيل أمر الشورى وتطبيقها بينهم على احسن صورة كذلك، لأنها من أمور دنياهم، فإن الترتيب القرآني لآياته وكلماته ليست سوى تشريع مباشر وغير مباشر، وهذا ما ينبغي فعله تماماً فهماً واستنباطاً، قال تعالى: (قد جعل الله لكل شيء قدراً)، ولدينا من المنهج النبوي والراشدي أفضل دلائل لتطوير وتأصيل وتفصيل الشورى، بما يناسب حاجاتنا وعصرنا، والخبرات العالمية اليوم فيها غناء كبير من خلال دراسة قانونية عالمية تسمى القانون الدستوري، نأخذ منها ما يناسبنا ويناسب ظروفنا وحاجاتنا.
والقرآن استخدم للتعبير عن أدق الموازين لتحقيق العدل، وهو ميزان روماني، أو كلمة رومانية، ( القسطاس) ، ونقل ابن حجر عن القاضي عياض: " القسطاس أعدل الموازين" وهو كلمة رومانية، كأنه إشارة قرآنية ترمز لوجود هذه القيمة " العدالة " عند الرومان، فنطقها القرآن بلغتها، ليصار إلى اقتباس ما يتعلق بها من تطبيق، وهذا ما فهمه الصحابي العبقري العظيم، داهية العرب وأرطبونها- عمرو بن العاص- في وصف الروم، ولهذا نرى اقتباس ما يتعلق بالشورى من ديمقراطية الغرب، لا يمنعه الشرع، على أن ننزله على قالب هويتنا واحتياجاتنا، طالما ان القرآن نفسه اقتبس هذه المفردة لهذه الدلالة الإيجابية، ولا مانع شرعي من ذلك، إذ العكس هو الذي يوحي به وإليه القرآن، والعلماء يقولون لا مشاحة في الاصطلاح، قال ابن القيم: " إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل واسفر صبحه باي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره" (اعلام الموقعين: 4/373)، ولسنا مضطرين لأخذ النظم الديمقراطية،- وهي تختلف بين بلد وآخر وفترة وأخرى – كاملة على علاتها، وإنما هي كالقماش الذي يفصل من جديد على مقاس لا بسه، [ ونحن نستورد الكثير من الغذاء والدواء والسلاح والالبسة، وكلها ليست صناعتنا، فلم لا نعيد تدوير وصناعة الديمقراطية الشورية من جديد في بلادنا، إلا إذا أصر المستبدون على أننا لسنا أهل لهذا ، كما قال غاندي يوماً: " إن الديمقراطية فراء لا يصلح أن يلبسه سوى الغربيون" وهذا ما يحاولون فعله معنا، وبتصفيق من أغبيائنا او سادتنا الظلمة قاتلهم الله. ]م. ن.
19- الديمقراطية أحد أنظمة علم الإدارة: في السياسة، صحيح ما يقال أن الديمقراطية اليوم تعاني من تسلط رأس المال عليها، وكبريات المؤسسات الاقتصادية، ويتبعها الأحزاب الممولة منها، ووسائل إعلام جبارة توجه الرأي العام وتحقق ما تريد من هذه اللعبة الانتخابية، فتوصل أقلية للحكم عن طريق الغالبية، التي ليس لديها الوعي والإمكانات التي تحررها من هذه السيطرة المدروسة بإحكام، ومن ورائها القوة والتخطيط والمال، لكن لا مشكلة من غير حل، فالديمقراطية المطعمة بالشورى الإسلامية تستطيع بالجهد والوعي، أن توصل مخلصين أبطال يحققوا أهداف الأمة في الحرية والكرامة والاستقلال، ويمكن تفعيل أحكام المحاسبة المالية، وكيفية الاعتدال في الانفاق، لمنع تأثير المال إلا في الحق والعدل، ودعوى أن الديمقراطية تلغي بالتدريج الأحكام الإسلامية، غير صحيح، لأن هذا الإلغاء يتم الآن بالتسلط والقهر وغياب الديمقراطية، بينما يمكننا أن نستخدم هذا السلاح لنصرة الشريعة كما فعلت تركيا حالياً بعد تسلط قهر عسكر أتاتورك، وبسلاحه نفسه الصندوق والديمقراطية، ولم تتاح فرصة حرية التعبير في بلد إسلامي إلا اختار الإسلام والشريعة، ولهذا قال أحد الغربيين، إن مزيداً من الحرية والديمقراطية في بلد مسلم، معناها مزيداً من الإسلام، وبنص واحد في الدستور يحدد أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس والوحيد للتشريع والقانون، يمنع أي اختراق لهوية الأمة، والأمر الثاني الأهم، هو أن اتباع الدين الحقيقي ما كان عن إيمان وصدق، وليس عن نفاق وكذب، ولهذا قال تعالى: ( لا إكراه في الدين) فما فائدة دين بالإكراه، يضعف مع الإيام، ثم يزول، لهذا الأجدى هو القناعة والدعوة المخلصة، وكما انتصر الإسلام في عهوده الأولى بالإخلاص والنزاهة، فاليوم وغداً كما بشر رسول الله ستعود الأمة على منهج النبوة، لهذا لا عذر لمن يريد إيقاف عجلة الإصلاح والصلاح، بحجج واهية رخيصة كسولة، وكثير منها من تلفيقات أعداء الإسلام وخصومه.
20- الخاتمة: ليس بالشورى وحدها:
الدول التي فاقت غيرها بتقدمها وتحضرها، لم يكن ذلك بمجرد تطبيق الشورى، وإنما بتخليق نهضة مواتية لأهداف حضارية متكاملة في السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام والقيم والأخلاق العامة والخاصة، عبر مخاض طويل، ولد في النهاية هذا المولود المتجانس المسمى نهضة وأمن واستقرار وتقدم وتحضر، ونحن لسنا وحدنا سكان هذه الكرة، ويحكمنا ما يحكم غيرنا كذلك، وسنن الله لا تحابي الكسالى والنائمين والمتقاعسين، ولهذا ينبغي أن نستخدم الشورى الصح، في البيئة الصح، والظروف الصح، والأهداف الصح، وهذا لا يثمر دون جهد وجهاد، بالكلمة والفعل، والتخلق، والبذل والعطاء المادي والمعنوي، إن تربية فرد مستقيم يؤدي إلى أسرة مستقيمة، وأسر مستقيمة تؤدي إلى مجتمع مستقيم، وكل هذا لا يتحقق من غير ثمن، ولا يظن ظان أن الشورى المجردة لا تنتج صراعات وعنصريات وأضرار، لأن فرعون كان يشاور، وإخوة يوسف تشاوروا وتآمروا، فالشورى الصالحة، يمارسها قوم صالحون، وبنوايا صالحة، مع حرية ضمير، وحرية تفكير، وحرية تعبير وإخلاص في العمل وإيمان بالله وشريعته، فيتحقق بها معجزات فوق الوصف والإمكان، لأن الله ينصر من ينصره، ورسول الله كان فرداً وبإيمانه وأصحابه صنع أمة تحكمت بالعالم قروناً، ولما زاغ خلفهم تخلى الله عنا وعنهم، والتناصح – وهي فحوى الشورى- من بنود عقد البيعة مع رسول الله المتضمنة للصلاة والزكاة، فعن جرير قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" ( ر. مسلم).
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(13): خلاصة كتاب " سيكولوجية الجماهير" ل. "غوستاف لوبون"
1- مقدمة: إلى علم النفس الاجتماعي، وهو علم جديد يردف العلوم الإنسانية الجديدة في حياتنا المعاصرة، وهو يدرس الصراع الناشئ بين الفرد والمجتمع، في تمرد الفرد الجمعي (الجماهير) على المجتمع الظالم، وفي بعض جوانبه تحدث عنه ابن خلدون قبل قرون، في نظريته في العمران، وقيام الدول وانهيارها، وتكون العصبية المؤثرة في مسيرة المجتمع وقيام وتكون الدول، وتأثير الايديولوجيات الدينية والسياسية على الجماهير، واليوم بدأت دراسة كيفية تجييش الجماهير لصالح فكرة أو جماعة، أو حزب، والمؤلف عاش (1841- 1931م) في فرنسا، وكتب عن حضارة العرب، وحضارة الهند وغيرهما، وسيكولوجية الاشتراكية ، والعقائد، والثورة الفرنسية، وخمسين كتاباً، أجملها "حياة الحقائق" 1914م، وأشهرها هذا الكتاب الذي نختصره ونقدمه لكم.
الكتاب الأول: روح الجماهير
الفصل الأول: الخصائص العامة للجماهير: والقانون النفسي لوحدتها الذهنية
2- روح الجماهير: تكتل بشري في ظرف ما يشكل روح جماعية مؤقتة تطمس خصائص أفرادها في خصائص جماعية فكرية وعاطفية بما يمكن تسميته سيكولوجية الجمهور وروحه، فتذوب الشخصية الواعية للأفراد في اتجاه التوحد الغامض، بسبب حدث كبير يثيرهم ويستقطبهم، على رغم اختلاف شرائح هذه الجماهير وتنوعها، وحسب قوة المحرضين لها تتوجه مشاعر الجميع باتجاه ما يمكننا تسميته: " القانون النفسي للوحدة الذهنية للجماهير"، وأيا ما تكن شرائحهم يزودهم الانفعال والإثارة بروح جماعية، كالجسد الذي يحرك ملايين الخلايا باتجاه فعل واحد، والأفعال التي تقوم بها الجماهير لا يقودها الوعي إلا بنسبة ضئيلة إلى جانب المحرك اللاواعي في نشاطها، الذي يشكل جزء كبير منه التأثيرات الموروثة عن الأسلاف، المشكلة للهوية ودوافعها المخبوءة المجهولة، وخاصة التوحد في التراث والمزاج العقائدي، الذي يوحد بين الأمير والغفير، ويذوب المختلف في المؤتلف بينهم، وهذا ما يجعل الجماهير تجمع التفاهة، أكثر مما تجمع النباهة والذكاء، لهذه الأسباب.
صحيح أن الفرد الضعيف يكتسب بالتجمع قوة من جماهيره، لكن السبب الثاني: لهذا الاندماج؛ هو العدوى الذهنية التي تجعل الفرد تحت تأثير التنويم المغناطيسي للجماعة، إلى درجة التضحية بمصالحه الخاصة، والشعور بالبطولة الفارغة، والسبب الثالث: ظهور صفات معاكسة لخصوصية الفرد، تنتج كاثر عن الحالة التحريضية، كأفعال المنوَّم مغناطسياً، فيغيب وعيه عن تصرفاته، إلا في حالات الشخصية القوية جداً فيقاوم الانجراف مع التيار، لكنه لا يستطيع إيقافه.
3- مواصفات الفرد الجماهيري: 1- تلاشي الشخصية الواعية. 2- هيمنة الشخصية اللاواعية. 3- بالتحريض والعدوى يتجه الجميع على خط المجموع. 4- تحول الأفكار إلى أفعال آلية غير اختيارية. 5- يتدنى مستوى الفرد الجماهيري حضارياً، إلى مستوى انقياد غريزي همجي. 6- حتى البرلمانات الجماهيرية تصيبها لوثات الجماهيرية بالانخراط الجماعي، في غير تصرفاتهم الانفرادية، ويمكن في مثل هذه الحالات أن يتحول البخيل إلى كريم، والشكاك إلى مؤمن، والشريف إلى مجرم، والجبان إلى بطل، وهذا حدث يوم 4/8/ 1789م في الثورة الفرنسية، لأن الجمهور أدنى من مرتبة الإنسان المنفرد عقلياً وفكرياً، ولكن في الناحية العاطفية أقوى وأكثر جرأة، وهذا ما قاد الجماهير إلى الحروب الصليبية دون خبز ولا سلاح، لتخليص قبر المسيح في المشرق.
الفصل الثاني: عواطف الجماهير وأخلاقياتها
4- عواطف الجماهير:
1): سرعة الانفعال والخفة والنزق: يتحكم فيها النخاع الشوكي، وليس العقل، بينما في حالة الفرد العادي يتدخل عقله فيبين له تحمل مسؤوليته الفردية، فلا ينصاع لتأثير الآخرين، لكنه في حالته الجماهيرية ينقاد لتأثيرها التحريضي، سلباً أو إيجاباً، إلى درجات عالية من البطولة أو الإجرام. (قاد نابليون مائة ألف مستعدين للموت)، ولولا الضرورات الحياتية العاجلة (كميزان خفي) لما استطاعت الأنظمة الديمقراطية أن تستمر، وكذلك سرعة تقلب الجماهير وعجزها عن الإرادة الدائمة في تفكير منظم، فيكون أقرب إلى الهمجية المدمرة، في حال الانخراط مع المجموع، لأنه يكتسب قوة مضاعفة هائلة لا يمتلكها فردياً، وتأثير ثقافة الجماهير وعرقيته ملاحظ في هذه الحالات، والاختلاف بارز بين شعب وآخر، من هذه الناحية، فشل في (لانغسون) أطاح بالحكومة الفرنسية، وفشل كبير لحملة إنكليزية في الخرطوم، لم ينتج سوى انزعاج خفيف في حكومتها.
2): سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها: لأي اقتراح يطرحه المحرض الرئيس عليهم، وينخرط الجميع في تبني المقترح، بغض النظر عن وجاهته، يحركهم اللاشعور المستعد لتلقي الاقتراح الذي يخرجهم من حالة السكون إلى حالة الفعل، لتنفيس المشاعر المضغوطة، التي لا تعرف المستحيل في لحظات الهيجان، بسبب تضخم حالة التخيل والخيال لدى الجماهير، وتبدأ الأسطورة من أحدهم لتنتشر بين الجميع بأكثر مما رويت، وتأخذ صورة الهلوسة المقبولة من الجاهل والعالم معاً في مثل هذه الحالات.
3):عواطف الجماهير: تضخيمها وتبسيطها: لدى الجماهير، سواءً كانت طيبة أو شريرة، نتيجة المغالاة المدعَّمة بالكثرة وسرعة الانتشار، بطريقة بدائية في التصديق، دون تحليل دقيق، عكس ما لدى الفرد العادي من تريث وواقعية وتدقيق، وضخامة الجمهور تعدم شعورهم بالمسؤولية، فيتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بالدونية الكافَّة للفاعلية، فيندفع بقوة التجييش والتحريض، ليفعل الفظائع، ومن يحرضها بذكاء، يدفعها لأعمال متفانية في البطولة المتهورة، وهذا يحتاج إلى عواطف متطرفة، وخطيب مندفع غير عقلاني، كما يحدث في المسارح التمثيلية، ولهذا يمكن للجماهير أن تقوم بأعمال بطولية سامية، كما أنها قادرة على القيام بأبشع الجرائم والسفالات.
4): تعصب الجماهير واستبدادها ونزعتها المحافظة: تجعلها تقبل بالأفكار جملة، أو ترفضها جملة، كحق أو باطل، وهذا ما يظهر في الانتماءات الدينية، ولهذا يظهر استبداده بحجم تعصبه، ولهذا إذا صدر ما هو مرفوض من خطيب، اعترضوا بقوة وعنف على موقفه، وهنا تظهر ثقافة العرق، كما هي الحدة في العرق اللاتيني، عكس الاستقلالية المتطورة لدى العرق الأنغلوساكسون، وهذا ما يفسر تمرد الجماهير على السلطة الضعيفة، والانحناء للسلطة القوية، بهيئة " القيصر".
5): أخلاقية الجماهير: غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية، إلا إذا عنينا بها صفات التفاني والإخلاص والتضحية والعدالة، فإنها قادرة على أرفع الأنواع الأخلاقية فيها، والانحطاط المعروف عنها يتبلور في صورة هيجان الانفلات من تحمل المسؤولية الفردية المكبوتة عبر السنين، في إطار الانخراط الجماهيري الكبير، الذي لا يخشى عواقب أفعاله، والعمال المضربون عن العمل، يضحون من أجل المجموع وكرامة العمال؛ أكثر من كونهم يفعلوا ذلك من أجل زيادة الرواتب فحسب، حتى الأوغاد يتحلوا بأخلاقيات صارمة حين ينخرطوا في ثورات الجماهير، ولهذا قام الثوار الذين هاجموا قصر تويلري 1848م فإنهم لم يسرقوا أي تحفة ثمينة من مقتنياته، وهذا يؤكد تحلي الجماهير أحياناً بدرجة عالية من الفضائل، لا يتحلى بها أعظم الفلاسفة والحكماء، ولو أن الجماهير حكمت مصالحها الفردية، لما بقي على سطح الأرض حضارة أو تاريخ.
الفصل الثالث: أفكار، محاجات عقلية، في مخيلة الجماهير
5- أفكار الجماهير: تطور الشعوب هو تطور أفكارها، الفئة الأولى: منها، ما تقدمه البيئة والتراث والدين، والفئة الثانية: الأفكار العابرة الطارئة التي تنتجها المتغيرات، ولا تصبح مؤثرة إلا بشرط تبسيطها للجمهور بشكل صور رمزية معبرة، الثابت منها هو الموروث، واللحظي منها هو الطارئ، والمثقف قد يجمع بينهما من غير مبررات منطقية، كالهندي الدارس في جامعات الغرب، ولا تتحرك الجماهير بها، إلا إذا لبست ثوب التبسيط والتسطيح، فالأفكار الديمقراطية والمسيحية والاجتماعية، بائسة كفاية، ومع ذلك دورها كبير في حياة المجتمعات، خاصة بعد دخولها منطقة اللاوعي لدى الجماهير، وبشكل عاطفي متبلور، يستدعي البواعث العميقة لهويتنا الأصلية، وانغراس فكرة ما في روح الجماهير يأخذ وقتاً طويلاً حتى تستقر في وعيه الجماهيري، بحيث يحطم كل القيود المعيقة لها، ولو أدى ذلك إلى سيل من الدماء والتضحيات، كما حدث في أوروبا عصر الثورات، [ وفي بلادنا العربية عصر الربيع العربي] بالتجييش والتعبئة الثورية، أكثر مما حصل أيام تيمورلنك وجنكيز خان.
6- المحاجات العقلية للجماهير: ممكنة ولكنها في أدنى مستوى عقلي، وأوهن ترابط نسقي، يوحي بالاستنتاجات السطحية للإنسان البدائي، وهذا ما يمكن خطباء الجماهير من التأثير الانفعالي عليها، الموهم بالعقلانية، مع أنها سطحية جداً، وتأثير الأفكار في الجماهير هو تأثير الفوقية عليها، أكثر من تأثير المحاكمة العقلية المجردة، شرط ملامسة هذه الأفكار تطلعاتهم وخيالاتهم، خيال الجماهير عادة شبيه بخيالات الحالم وأحلام يقظة، فإذا فكر بعمق تبخرت أحلامه، لكنه لن يفعل، حتى يبقى خياله محركاً له وللآخرين حوله، مما يتعلق بشخصية، أو حدث، أو مطلب، مهما كان مستحيلاً أو أسطورياً، على أن تكون الفكرة بشكل صورة جذابة، باعثة على الفعل والتغيير، ولهذا يستخدم الخبز والدرهم والمحسوسات في المسرحيات المؤثرة، التي يختلط فيها الواقعي باللاواقعي، وهذا التأثير هو عنصر الحشد الجماهيري الذي استخدم في البوذية والمسيحية والإسلام والإصلاح اللوثري والثورة الفرنسية، و[ الربيع العربي]، وهذا ما تلون به نابليون حسب الحاجة إلى جماهير مختلفة لها لون مختلف، ومن عباراته: لم استطع الاستقرار في مصر، إلا بعد تظاهري بالإسلام، ولو أتيح لي حكم اليهود، لأعدت من جديد معبد سليمان، والجماهير تتأثر بالأمور والأحداث الكبيرة، أكثر من مئات وآلاف الأمور الصغيرة المتكررة، لأنها تحرك مخيلة الجماهير، ليست الوقائع هي التي تحرك الجماهير بمقدار ما يحركها طريقة عرضها والهالة التي تحاط بها الأحداث والوقائع.
الفصل الرابع: الأشكال الدينية التي تتخذها كل قناعات الجماهير
7- الجماهير تحول ما تؤمن به إلى ما يشبه العبادة: والنفور من شيء يتحول إلى حقد، ويتحول حال الجماهير سلوكياً إلى ما يشبه العاطفة الدينية، بخصائص: الاتجاه إلى إنسان خارق لتقديسه. 2- والخوف منه كذلك.3- والخضوع الأعمى لأوامره. 4- استحالة مناقشة طروحاته. 5- والرغبة في نشرها. 6- اعتبار من يرفضها عدو. كل ذلك يتحول إلى ما يشبه الجوهر الديني، المليء بالأسرار، وكل ذلك بتعصب شديد، كما فعل (اليعاقبة في الثورة الفرنسية- والكاثوليك في محاكم التفتيش الوحشية) فعبادة نابليون الذي زج بالملايين إلى الموت، لم يشبهه سوى هتلر، وذكر " كولانج": الأمبراطورية الرومانية لم تستمر خمسة قرون إلا لأن الأمبراطور جسد في أذهان الرومان عظمة الإله إلى درجة العبادة، من الممالقون وغيرهم معاً، الناس لا تقاد وتخضع بالعقل وحده، بل هو صراع بين العقل والعاطفة أبدي، وإذا لم يعد الناس يتقبلوا الأصنام وعبادتها، والإله والدين، فإنهم استبدلوهم بعبادة البطل، ورفع صورته في كل مكان.
الكتاب الثاني: آراء الجماهير وعقائدها
8- آراء الجماهير وعقائدها تشكلها عوامل بعيدة وأخرى قريبة: القناعات القديمة هي التي تمهد الطريق لتبني الجديد، وتؤدي إلى تمرد شعبي، وتبديل حكومة بأخرى، وهذا ما حدث مع الثورة الفرنسية، بنقد الكتاب والمفكرين للنظام، وذكر تجاوزاته، فجيش الشعب ضده، ولما قاوم النظام إصلاحات زهيدة ومطالب شعبية ثار الناس عليه فاقتلعوه من جذوره، والعوامل البعيدة هي:
1): العرق: وهو ما يعتبر هوية شعب ما، بكل مكوناته التاريخية، اللغوية والدينية والثقافية، وظروفه اللحظية.
2): التقاليد الموروثة: هي أفكار وعواطف الماضي، كالجينات للكائن الحالي، ولا يمكن لقائد أن يغير من شعبه إلا باستدعاء تقاليد ماضي هذا الشعب لينجح، بعد ترميمه وإصلاحه بإضافات وتطويرات جديدة.
3): الزمن: قالوا: " إن النملة تستطيع أن تزيل الجبل الأبيض، لو امتلكت الزمن الكافي" والعقائد تتطور وتموت، على نار بطيئة، وعندما تزهر يكون الزمن قد هيأ المجال لتفتحها من جديد، بشروط جديدة.
4):المؤسسات السياسية والاجتماعية: فكرة أن تقدم الشعوب ناتج عن اكتمال دساتير وقوانين حكوماتها، استندت إليه الثورة الفرنسية، ولكن فيها كثير من الوهم، لأن المغير الحقيقي للواقع هو الشعب وليس الحكومة أو القوانين.
5): التعليم والتربية: التعليم أكبر وسيلة لتحسين أوضاع البشر واصلاحها، لكن التركيز على الحفظ والاستظهار والإيمان بمعصومية الأستاذ، يعطل التفكير العقلي النقدي المفيد، ويجعل الطفل يتقزز من بيئته، وينفر المهنيون من مهنهم، وبدل تحضير رجال المستقبل بهذا التعليم، لمواجهة الحياة، فإنه يحضرهم للوظائف العامة لخدمة الدولة.
وهذا يدفعنا إلى المطالبة بتغيير كتبنا المدرسية الغبية، والإكثار من التعليم المهني الذي يعيد الشبيبة إلى الحقول والمصانع والشركات الاستعمارية المهجورة اليوم ( الكاتب أوربي في زمن الاستعمار)، وتعليمنا يخرج ناقمين وفوضويين وفاشلين.
الفصل الثاني: العوامل المباشرة التي تساهم في تشكيل آراء الجماهير
9- عوامل تشكيل آراء الجماهير:
1): الصور، والكلمات، والشعارات التي تبهر الجماهير: مستقلة عن معانيها الحقيقية، مثل: ديمقراطية- اشتراكية- مساواة- حرية- مع ما فيها من غموض، هي في مخيلة الجماهير أشبه بطلاسم السحر والسحرة، والكلمة المناسبة هنا المعبرة عن هذه الطلاسم تمثل كبسة زر الإنارة في المناطق المظلمة، شرط أن تتنفس معانٍ جديدة، وحتى القوانين والدساتير الجديدة المطلوبة، ينبغي إلباس ما شابه القديم منها ثوباً جديداً، فكلمة ديمقراطية عند اللاتين غيرها في أمريكا تماماً، هناك تعني التحكم، وفي أمريكا تعني الحرية والمبادرة.
2): الأوهام: كثير من هياكل المعابد وعروش الملوك والثورة الفرنسية، قامت على أوهام وتشنجات سببت التحول إلى أوضاع حكومات وحضارات جديدة، ما لبثت عادت أدراجها إلى ما سبق بقوالب جديدة، تحت شعارات تحقيق سعادة الناس وتقدم الأجيال، ولو بلغة الكذب والتحايل والتآمر.
3): التجربة: واقع الثورة الفرنسية وتاريخها تجربة حية على ما يمكن توقعه في الثورات، وكذلك ما حدث في الحربين العالميتين، وغيرهما كثير، كل هذه تجارب حية قاسية، ومع ذلك لم نتعلم منها سوى القليل، وتبقى التجربة أكبر برهان.
4): العقل: دوره في التأثير على روح الجماهير سلبي، لأن الخطباء لا يحركون جماهيرهم بالمخاطبات العقلية، بقدر ما يخاطبونهم بعواطفهم، مع أن عقل المبدعين منهم هم الذين أسسوا لأعظم الإنجازات وهل يمكننا أن نتخيل عرب الصحراء (المسلمون) أن تحتل الجزء الأكبر من العالم اليوناني والروماني، وتؤسس امبراطورية أكبر من امبراطورية الإسكندر؟ فالعاطفة- هي التي قادت البشر إلى التفاني وحب المجد وكان الباعث لتشييد أعظم الحضارات.
الفصل الثالث: محركو الجماهير ووسائل الإقناع التي يمتلكونها
10- محركو الجماهير ووسائل الإقناع:
1):عليهم أن يعرفوا التكوين العقلي للجماهير: والدوافع التي تحركهم، والقائد في هذه الحالة من التجمهر يصبح النواة التي يلتفوا حولها، وليس شرطاً أن يكون من رجال الفكر، ولو كان كذلك لتعثر وتردد وتشكك، ولهذا ينبغي أن يكون نصف متعلم، شرط أن يكون مليء بالإيمان والعاطفة لفكرته، التي تمس مزاج الجماهير، وتجعلهم عبيداً لأحلامهم، بالإيمان الذي يزحزح الجبال، والأديان كلها انتصرت بالإيمان وليس بالمنطق، والقادة الحقيقين هم الذين لا تختلف عليهم حياتهم الخاصة والعامة، هم القادرين على الاستمرار في التأثير الدائم.
2): وسائل القادة التأكيد والتكرار: لتحريك الجماهير بمحرضات سريعة مكررة، مؤكدة دون برهنة، فيشكل رأي عام لا يمكن قبول غيره، والتقاليد الاجتماعية لدى الأمم والشعوب، ليست سوى تأكيدات وعدوى مكررة، ومن ذلك عالم الموضة لدى النساء، وأزياء الرجال.
3): الهيبة الشخصية: القوة المذكورة في الأفكار وقيادة الجماهير النصيب الأكبر منها هو هيبة الشخصية التي تطرحها، حتى بعد أن يغادروا الحياة، يبقى لشخصياتهم هذا التأثير والهيبة، وهي نوع من الجاذبية، تشل كل ملكاتنا النقدية، وتملأ أرواحنا بالاحترام، وهي نوعان: مكتسبة بالشهرة والثروة، وذاتية شخصية، والأنبياء والقادة العسكريون يفرضون أنفسهم بما يملكون من هيبة، شرط أن يستخدموا هذه الهيبة في إصرار وثقة ودون تردد، وهكذا قامت وانتصرت الأديان والحضارات والعقائد بفعل شخصيتاها المهيبة، والنجاح يقوي وجود الهيبة، وتختفي مع الفشل، وتضعف مع المجادلة، وينبغي إبقاء مسافة بين ذو الهيبة والآخرين.
الفصل الرابع: محدودية تغير كل من عقائد الجماهير وآرائها
11- محدودية آراء وعقائد الجماهير:
1):العقائد الثابتة: الخصائص التشريحية للكائنات منها ما هو ثابت ظاهر، ومنها ما هو مخفي تعدله البيئة والظروف، وكذلك الخصائص النفسية والأخلاقية لعرق بشري معين، والعقائد الكبرى يحكمها ما ذكرناه عن الخصائص، فمنه الثابت جداً، ومنه ما يعتبر أمراً عابراً يتبناه الجماهير فترة ثم تدعه وتمضي، وتبقى العقائد العامة لأنها الدعامات الضرورية للحضارات، توجه الأفكار وتلهم الإيمان والحس بالواجب.
2): الآراء المتحركة للجماهير: وهي فوق الثابتة وتكون سطحية ومؤقتة، تولد وتموت ويولد غيرها على الدوام، فهي مؤقتة بالمستجدات، وتحمل صفة العرق، فعلى اختلاف أحزاب فرنسا، تحمل بنية الذهنية اللاتينية الرومانية لعرقنا، في فترة الثورة (1790- 1820م) كانت الجماهير ملكية ثم ثورية، ثم إمبراطورية، ثم ملكية، وكاثوليك ثم إلحاد، ثم التأليهية، ثم تطرف كاثوليكي من جديد، جماهير وقادة على حد سواء، ثم خدم أذلاء لدى نابليون، ولهذا نجد كل الأفكار المضادة لعقائد العرق وعواطفه لا تعيش طويلاً، والتحول المؤقت يتم بفقدان بريق العقائد القديمة على نفوس الناشئة.
الكتاب الثالث: تصنيف الفئات المختلفة من الجماهير ودراستها
الكثرة غير المتجانسة بأعراق مختلفة تنصهر في بوتقة واحدة حول الزعيم القائد:
12- تصنيف الجماهير:
1): الجماهير غير المتجانسة: العواطف اللاواعية والعرق لهما الدور الأكبر في حماس الجماهير ومن خلفهما الثقافة العميقة لهذا التجانس الجماهيري، فالجمهور اللاتيني يعشق الوحدة المركزية للدولة، والاستبداد القيصري، أما الجمهور الإنجليزي والأمريكي على العكس، لا يعترف بالدولة، والفرنسيون متعلقون بفكرة المساواة، أما الإنجليز فمتعلقون بفكرة الحرية، فروح العرق تهيمن على روح الجمهور، فتخلصه من القوة المجنونة، وهمجية الهيجان، ولهذا يمكن الفصل بين الجماهير المغفلة – جماهير الشارع- والجماهير الفكرية المسؤولة، فنجعل الثانية تقود الأولى.
2): الجماهير المتجانسة: المتشكلة من الطوائف، والزمر، والطبقات: كالطوائف الدينية والسياسية، أما الزمرية: فهي أخص من سابقتها، كالعسكر مثلاً، والمهنيون، ورجال الدين، وأما الطبقة فلا يجمعهم طائفة ولا زمرة، ولكن يجمعهم اهتمامات واحدة، كالطبقة البرجوازية، والزراعية، والمعلمين، والعمال.
3): جرائم الجماهير في الثورات: ناتجة عن ضخامة التحريض، كما حدث في اقتحام سجن الباستيل، وهي نابعة من الاندفاع، والسذاجة، والخفة، والمبالغات، وظهر ذلك في مذبحة سجن (سانت برتيليمي) الشهير (1792م) الذي ذبح فيه كل المساجين على اختلاف قضاياهم، وكانوا بالآلاف (إثني عشر ألف) سجين، والقتلة حوالي 300 شخص مختلفي المشارب والمهن، وراحوا بعد المجزرة يطالبون السلطات الجديدة بمكافآتهم.
13- الجماهير الانتخابية:
1): تقاد بالعواطف والهيبة: تنطبق عليها الصفات التي ذكرناها للجماهير من أول بحثنا، والتأثير الذي يحدثه المرشح فيها هو الهيبة الشخصية، ولا يعاض عنها بغير الثروة والغنى، ولهذا تجد العمال والفلاحين لا يختارون واحداً منهم للمجلس النيابي، لفقدان تلك الهيبة المذكورة، ويحتاج الناخب أن يتملق المرشح رغباته وطموحاته، والمرشح المنافس، لا يحتاج إلى تفنيد الاتهامات، بمقدار ما يحتاج إلى هجوم مضاد فحسب، لأن الناخبين يحتاجون ملامسة أوهامهم وأمزجتهم فحسب، وفكرة تجمع الأكاديميين، يجعلهم يتساوون مع تجمع أدنى شريحة اجتماعية في مسألة العواطف الاجتماعية والسياسية، وربما زادت المشكلة بالطغيان الزمري الثقيل، بينما التصويت والانتخاب العام يحقق أحلام العرق، ودوامة الحاجات اليومية، وهذا ما يتحكم بمصائر الشعوب.
2):المجالس النيابة غير متجانسة: لكنها متشابهة في الحكومات والدول، ويعتريها خصائص الجماهير من ناحية التأثر بمن يقود الكتل، وعواطف الشعب عموماً، وأصبح البرلمان المثل الأعلى لكل الشعوب المتحضرة، وأخطاء البرلمانات وأخطاء الجماهير واحدة، وكثيراً ما تعتمد على اللجوء للمبادئ لحل المشكلات الاجتماعية، وأصحاب الهيبة، والقدرة الخطابية والتأثير والجاذبية، مهما كانت أفكارهم تافهة، شرط أن تلامس نفسية وروح الجماهير، وهذا أفضل للشعوب حالاً من الاستبداد، ويتحول الجمهور إلى شعب، عبر محاولات كثيرة تؤدي إلى الوصول للمثل الأعلى، سواء عبادة روما، أو قوة أثينا، أو انتصار الله (أي الإسلام)، يكفي لصهر أفراد العرق في وحدة الفكر والعاطفة، وعندها تولد الحضارة، من خلال ممارسة عمله الخلاق، وفي نهاية الحضارة ونموها، تتوقف عن النمو، وتدان بالانحطاط، وتدق ساعة شيخوختها، ويكون بسبب اضمحلال المثل الأعلى، فيعود جمهورها إلى خصائصه السلبية غير المتماسكة، لا تأثير لهم غير الكم المتناثر الذي ضرره أكثر من منافعه، ويفقد حلمهم الأصلي بريقه وقوته.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(14): خلاصة كتاب "شروط النهضة" مالك ابن نبي
مقدمة: جاهد أبطال التحرير الاستعمار، لا لشيء سوى استجابة لشرفهم الديني والإنساني الذي يأبى عليهم الانصياع لمستعمر حاقد، ولم يجاهدوا لحل المشكلات التي أدت إلى هذا الاستعمار، مع أن المشكلة في الأساس هي مشكلة حضارتنا المغيبة، التي أراد الفارس " عبد القادر الجزائري" استرداد حريته تجاهها، والانتماء القبلي، يساعده على ذلك، لكنه غير كافي لبناء واستعادة حضارة عريقة، ومثله فعل في المغرب " المجاهد عبد الكريم الخطابي" لا لشيء سوى كتابة صفحة الخلود، وأين دور قبائل أمريكا من الهنود الحمر؟ مع المستعمر الإنجليزي لأمريكا؟ ليس لديهم حضارة خالدة تدفعهم للمطالبة بها أو استردادها، كما يردد جمال الدين الأفغاني مع كل أذان فجر لإيقاظ أمة نائمة لكنها لا تموت.
1): دور السياسة والفكرة: الكلمة الحية من روح القدس، تدخل القلوب فتحيي فيها إرادة التغيير والعودة، كما فعل جمال الدين الأفغاني في الشعوب العربية، وكانت الجزائر إلى سنة 1918م تحفة تاريخية في المتحف الفرنسي، إلى أن قام بعض المشايخ (صالح بن مهنة) و(عبد القادر المجاوي) بصرخة لقيت صداها في قلوب الناس، وتبعهم (ابن باديس) فاستيقظ الشعب الجزائري وبدأ الغليان ضد المستعمر الفرنسي، لكن بأساليب متنوعة، تأثر به (المنادين بالفرنسة) والمعادين لها (المنادين بالإسلامية) والسلف الصالح، لكن مسير العلماء في قافلة السفر إلى باريس للمطالبة بالحقوق، كان أول انحراف في بوصلة التغيير، لأن بوصلته في قلوب الرجال، وعقيدة الأمة، وليس في مكان آخر.
2): دور الوثنية السياسية: بفصل السياسة عن الإيمان والدين، قال غاندي: " إذا فصلت السياسة عن الدين فقدت معناها...لحاجتها إلى ضوء الإيمان الديني" والقرآن الكريم اطلق اسم الجاهلية على ما سبقه، ولم يشفع للعرب شعرهم الرائع وديباجتهم المشرقة، لأنها خالية من الفكر الخلاق الهادف، الذي يغرس أفكاراً لا أصناماً، وعندما تغرب الفكرة، يبزغ الصنم، والعكس، وهكذا كانت الجزائر بدروشتها في زوايا الدراويش، وخرافاتهم، إلى أن سطع نور الفكرة الإصلاحية والتحررية، بيوم افتتاح المؤتمر الجزائري عام 1936م، لكن العلماء – مع الأسف- مالؤا السياسيين، الذين ردوهم إلى لعبة الانتخابات بعد لعبة الصنميات والخرافات، فكانت زلة من العلماء مرة أخرى، بالسير وراء موكب السياسيين، بدل أن يسيروا أمامهم، في قيادة الجماهير، بنوايا ساذجة، فلم يتحقق لهم سوى ما يشبه السراب، وحقيقة استعمار بلادنا ليس هو من الألاعيب السياسية، وإنما هو من قابلية نفوس الناس له دون نكير، قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) قبول النفس للانحراف من عدمه، هو أساس التحرر أو الاستعمار، وقد يستبدل العدو الحروز والتمائم بوسائل مشابهة من الفن والسينما والوعود الكاذبة بالرفاه الموهوم، لتمرير الوقت، وتنويم الأفكار والناس، فالدروشة السياسية شبيهة بالدروشة الدينية، مع أن القرآن أوضحها صارخة: "غير نفسك يتغير التاريخ" ولو بوضع قشة في عش العصفور يبنيه ويقي فراخه، وتحول التغني بربيع الفكرة، لا ربيع الصنم، إلى صدى أذان تردده الحناجر في كل المآذن، في القرى والأرياف والمدن، وبدأ ذلك بإزالة المنكرات ومحاربتها، والرجوع إلى الأصالة والجدية والأخلاق، وحركة التعليم المدرسي، واستبدال منابر الحقوق بمنابر ومنصات الواجبات، هو الذي يصنع مستقبل أي أمة تريد النهوض، لكن مع الأسف عكس هذا الخيار بقول أحد الطلاب في مؤتمر: " إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا" فصفق الحاضرون لغبائه وغبائهم، فأصبحت الوثنية الجديدة بديلاً عن الوثنية الرجعية القديمة، فمشكلتنا عقلية، السير والرؤوس للأسفل.
الباب الثاني: المستقبل
1): من التكديس إلى البناء: ظل العالم الإسلامي دهراً خارج التاريخ، مستكينا متكيفاً مع أمراضه وأوجاعه، حتى ذكَّرَه بها المخلصون الجدد في بداية هذا العصر، وأن الاستشفاء طريق إلى نهضته، لكن يحتاج إلى تشخيص دقيق، ووصف للدواء المناسب بدقة عالية، لكن أغلب من تصدى لذلك، من العلماء، تصدوا إليه بمزاجهم، وليس بعلم، لمعالجة قبولنا للاستعمار، والكساح العقلي، والأمية المتنوعة الأشكال، والناس تعالج أمراضها عند الصيدلي، وليس عند الطبيب، وهذا ليس سوى معالجة لبعض الأعراض، وليس جذر المرض وأسبابه، وبعضهم يطلب علاجه من صيدلية الغرب المستعمر، ولنا في اليابان والصين وغيرهما ممن حسموا أمر نهضتهم المادية، فوصلوا إلى نجاحات باهرة فيها، خلال فترة وجيزة، ونحن (مكانك راوح)، باستعمال المسكنات، والتمائم، وإذا استورد الآخرون حضارتهم من الغرب، فإننا لا يمكننا ذلك، لأننا نريد استعادة حضارتنا الضاربة الجذور في قلوبنا وترابنا، لكن دون أن نبني سد ذو القرنين بيننا وبين الآخرين، وإنما نحسن الاختيار، ونصنع نموذجنا الخاص بحضارتنا الإسلامية.
الكيف الحضاري المستورد، جسد لا روح فيه، لأن ذوق الاستعمال خاص بالمستهلك وليس بالمصنع، والكم الحضاري المستورد، يصنع لنا تكديس الشيئية، ولا يصنع لنا حضارة مستقلة، لأن هذا هدف خاص إذا خططنا له بعناية، وبالتحليل كل ناتج حضاري= إنسان+ تراب+ وقت، وهذا التحليل يعطينا بيان للمشكلة الحضارية، وهي أنها: معالجة مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت.
2): الدورة الخالدة: أن يعيد التاريخ نفسه، لأن له دورة تسلسلية، في النهوض ثم الانحطاط، ولكل من هاتين المرحلتين عوالهما وسننهما، وهذه وتلك تخص كل أمة على حدة، ولا تستورد، ولا تصدر، مشاكلنا تنبع من عام 1367هـ ، وليس من عام 1948م، ففي كل سفر، لا بد من تحديد الوجهة، وتحديد الزاد، والوصول بتحقيق شرطين:
الشرط الأول: مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني: كدورة الشمس الدائمة، وعوامل الحضارة الثلاث: الإنسان+ التراب+ الوقت، والدين يمزج بين هذه العناصر بتوازن وانسجام، لأن الحضارة لا تنبعث من غير دين، بشكل من الاشكال، لأنه ينقل المسلم إلا ما وراء حياته الأرضية، وبدأ هذا بوحي كلمة اقرأ في الإسلام، وفي غيره مع " في البدء كانت الكلمة، أو الروح" وهذا لم يحوِج العرب حينها إلى فلاسفة وسياسيين ليظهر شأنهم على مسرح التاريخ، وهذه الانطلاقة كانت في صفاء كامل إلى سنة 38هـ يوم صفين، حيث تحولت الحياة القائمة على الروح والإيمان، إلى حياة قائمة على العقل والسيطرة، وبعد سطوعها بفضل الروح المخزونة، بدا الأفول فيها بذبول عالم الروح، وبروز عالم المادة والغرائز، في إطار سياسة الغلبة والملك والسيطرة، وحتى الشيوعية كانت صورة من أزمة العالم المسيحي، فالإيمان مهد السبيل لقيام الحضارات، وهذا حدث مع أوروبا من استلهام الإيمان المسيحي، إلى التوسع الفكري العقلي مع ديكارت، ثم اكتشاف أمريكا مع (كرستوف كولمب)، ومشاكل الحضارات واحدة في التحول من الإيمان إلى العقل، ومن العقل إلى الغرائز والانهيار.
الشرط الثاني: إمكانية تطبيق المبادئ القرآنية: في مقولة والد محمد إقبال لابنه: " اقرأ القرآن يا بني كأنه يتنزل عليك"، وجوهر الدين هو إقامة الحضارة، بالسمو الروحي الدافع للرقي الإنساني، وهو وحده يشحن الطاقة الوجدانية فيه للبذل والعطاء.
3): العدة الدائمة: هي الإنسان الفطري الطموح بروح الإيمان، فيحول التراب والوقت إلى حضارة، أما منتجات الحضارة هي آثارها وليست هي عدتها، لأن العدة هي الإنسان وقيمه.
4): أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة: أخطأ التفسير الماركسي حينما ربط بين الحتمية المادية ونشوء الحضارة، وهذا وحده غير صحيح، لأن بعض الحضارات تسقط وتنهار بسبب هذا التراكم المادي غير المرشَّد، والرُّشْد لا يقوم إلا على القيم والأخلاق والدين، إذا أحسن التطبيق لها، فتبدأ بطور الانطلاقة، ثم الأوج والتوقف، ثم الأفول النازل، في المرحلة الأولى يصعَّد دور الروح، وفي الثانية دور العقل، وفي الثالثة الغرائز، وهذه الأخيرة تبطل مفعول فاعلية الفكرة الدينية، ومن ثم تهبط بمستوى العقل في التحكم والسيطرة على الجوارح والغرائز، وبهذا تفقد الحضارة معطياتها المنطقية، وتتحول إلى ما بعد الحضارة، ويمكن تشبيه الإنسان بهذه الأدوار، بقطرات الماء المتجهة إلى السد، فهي قبله (فطرة) وطاقة كامنة، وحين دخول توربينة التحول في جسم السد، تولد الكهرباء (الحضارة) وبعد عبورها بعيداً عن السد والتوربين، تعود بجريان غير مؤثر، حتى تصل أرض زراعية فتثمر، أو سد آخر فتنتج كهرباء مرة أخرى.
العنصر الأول: الإنسان
مشاكل العالم مختلفة حسب كل بيئة وطورها الحضاري، فالتسارع الانتاجي مشكلة أوروبية، بينما التباطؤ الانتاجي مشكلة عربية وإسلامية، هم بحاجة إلى مؤسسات وجدانية، ونحن بحاجة إلى رجال يتحولون من الركود إلى الانتاج والفاعلية، ففي الجزائر مشكلة أهل المدن عالة على الدولة، يعيش بالقليل، وأبن البادية متأقلم مع العدم، الأول منهزم نفسياً، لا يملك سوى نصف فكرة، ونصف تطور، ونصف هدف، لا يوصله لشيء، ولا يتحمس لانطلاق حضاري، بفكره أو عمله أو ماله.
1): فكرة التوجيه: هي توافق في السير، ووحدة في الهدف، وتوفير في الجهد والوقت، لحشد آلاف وملايين العقول والسواعد باتجاه انتاجية معينة ومناسبة لهؤلاء جميعاً، بدوافع دينية، تجعل منهم جماعة وأمة تمثل معنى الكفاح (الجهاد)، في سبيل الهدف المنشود.
2): تعريف الثقافة: في المنعطف التاريخي لنهضة العالم الإسلامي، في ضوء حالتنا الراهنة، ومصيرنا المنشود، لتجاوز التخلف والتدهور، إلى النهضة، والمستقبل، وذلك بتصفية عاداتنا وتقاليدنا المعيقة، لإحياء المفيد والداعي إلى الحياة والنهوض، بالتخلي عن السلبي من الماضي، وتحريك الإيجابي النافع للحاضر والمستقبل، واختصر تحديدها القرآن الكريم، ب (تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر)، من خلال: 1- الدستور الأخلاقي، 2- الذوق الجمالي، 3- المنطق العملي، 4- الصناعة. فالثقافة في الغرب ما يتعلق بفلسفة الإنسان، وفي الماركسية هي: فلسفة المجتمع، والحقيقة اختلاف سلوك الناس نابع من الثقافة وليس من العلم، ولهذا تكون الثقافة: " المحيط والبيئة التي يشكل فيها الفرد طباعه"، وهي تشمل فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة معاً في المفهوم الحضاري.
3): الحِرَفيَّة في الثقافة: ارتبطت بعالم القلة دون تعلق بالهدف الأسمى للأمة، كنا نعاني من الأمية، واليوم نعاني من التعالم، بامتلاك الشهادات المبروظة، في مقابل صاحب المرقعات من الدراويش، لأن علمه اقتناه ليكون آلة للعيش، وسلماً للمناصب، وهذا جهل حجَّرَتْه الحروف الأبجدية المزيفة، ولهذا غدت مشكلة الثقافة في مجتمعنا عويصة الحل، لأنها مرتبطة بمجتمع نائم غافل عن التحضر والحضارة الحافظة لكرامته ودينه وأمته.
4): معنى الثقافة في التاريخ: فقدان الثقافة يعني فقدان التاريخ، وهو فكرة دينية أنزلت مع الإنسان الأول آدم عليه السلام، لترافق كل أبنائه بدأً من الراعي والمزارع والصياد والحداد والمعلم والمفكر والقائد والفنان والشاعر والمؤرخ، والطبيب والمهندس، وهي تتضمن ما يعطي الحضارة سمتها، على يد ابن خلدون أو حجة الإسلام الغزالي، أو الناشط ابن تيمية، أو الصادع بالحق العز بن عبد السلام.
5): معنى الثقافة في التربية: هي دستور قيم وتوجهات تتطلبها الحياة العامة للمجتمع بكل شرائحه، وهي جسره المعنوي للعبور إلى التمدن والنهضة والحضارة، وهي تجمع فيها راعي الغنم وراعي الأمم، وهي تمس توجيه القيادة، وتوجيه الجماهير في المجتمع، وهي كالدم في شرايين الإنسان تغذي كل أعضائه بما يناسبه، وهي ذات مركب اجتماعي من هذه الناحية تتضمن:
1- عنصر الأخلاق والعلاقات الاجتماعية.
2- عنصر الجمال المكون للذوق العام.
3- أنظمة تحديد أشكال النشاط العام.
4- الفنون والصناعات التطبيقية لكل المهن.
6): التوجيه الأخلاقي: من الناحية الاجتماعية، الذي يحدد قوة التماسك بين أفراده، لتكون جماعة وأمة، بعد أن كانت عشيرة وقبيلة ومدينة وشعب، وهي روح الدِّين الموَّلِد للحضارة، قال تعالى: (وألف بين قلوبهم...) ومعنى الدين باللاتينية (الربط والجمع)، ومن أغلاط المثقفين عندنا نظرتهم إلى الغرب على أنه شيء جديد، مع أنه تاريخهم القديم بصورة مختلفة، ومخترعاتهم هي تعاون مفكرين ومبدعين ذوي خلفية مسيحية غربية واحدة.
وروح الإسلام هي التي وحدت الأوس والخزرج (الأنصار) مع(المهاجرين) من قريش وغيرها، ثم وحدت جميع القبائل العربية، ومعها من دخل في الدين من الأمم الأخرى، وحد بينهم قيم وروح أخلاقية اجتماعية (عقيدة التوحيد) واحدة، نظرياً وعملياً.
7): التوجيه الجمالي: المجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، يظهر أثرها في أفكاره، وأعماله، ومساعيه، وأدرك علماء الأخلاق أمثال الغزالي، ضمانة مرتبة الإحسان للصور النفسية والسلوكية للجمال، فالذوق الجميل يطبِّع الفرد والجماعة على الإحسان وكريم العادات والأخلاق، والطفل المتسخ في ثيابه وبدنه، يعبر عن بؤس وفاقة جمالية، قبل أن يعبر عن قبح ما فرطنا في حقوقه في مجتمع غير متكافل، يقتله بصمته، عن أسماله المجرثمة الوسخة، وهو ينسحب على كل تصرفاتنا مع ألبستنا وأحذيتنا وبيوتنا وشوارعنا، وقد صدر في موسكو بتاريخ 3/8/1957م مرسوم يلزم السكان بالنظافة، مع غرامة البصق على الأرض (25- 100) روبل، أو إلقاء أعقاب سجاير على الرصيف، أو تعليق ملابس بإطلالة على الشارع، أو لصق إعلانات في الشوارع، ومن يركب السيارات العامة بملابس متسخة، وجواب العمدة سيكون: النظام، والطبيب: الصحة، والفنان: جمال المدينة، والإطار الحضاري ينحو باتجاه الجمال في أي عمل، والجمال وجه الوطن المطل على نفوسنا والعالم، فلنحفظ وجوهنا وكرامتنا.
8): المنطق العملي: هو العقل التطبيقي، وهو جوهر الإرادة المعبر عن تصرفاتنا في 24 ساعة من اليوم، وفي بلادنا نتكلم باسم القرآن، ولكن لا نعمل طبقاً لنموذجه، لغياب المنطق العملي الإسلامي، فالمسلم لا ينقصه الفكرة، بل ينقصه منطق العمل والمبادرة، فنحن حالمون كثيراً، لغزارة مفردات حضارتنا، لكن من أكسل الناس في تطبيقها عملياً، وتربية أبنائنا بين الصرامة والتفلت، مع غياب الحزم الحكيم.
9): الصناعة: لا نعني مفهومها المعروف، وإنما إنتاج كل الفنون، والمهن، والقدرات، والسلوكيات، ففي فرنسا مدرسة لتخريج الرعاة، والمقارنة لدينا تكشف الفرق، من هذه الناحية، والصناعة في جوهرها الحفاظ على كيان المجتمع واستمرار نموه، وهي لتكوين الفرد ليحمل رسالة الوطن والأمة في أي عمل يمارسه.
10): المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي في بناء الحضارة: حوار المرأة مع الرجل لإظهار شارة الجمال، وحوار الرجل معها لإظهار شارة القوة، وكلاهما جمال خاص بكل منهما، والفنون جميعاً تعبير عن تذوق جمالي، والمرأة في أدغال أفريقيا، أو الصين، تتجمل بشق شفتيها، أو بتصغير قدميها، وعلاقة الرجل بالمرأة، تعبير عن علاقة أخلاقية جمالية، وكل ذلك يظهر بعادات وتقاليد وثقافة المجتمع والأمم، في عصر أو مرحلة، والرابط قوي بين القيم الأخلاقية والجمالية، وكلما ساد الترابط أكثر بين قيم الأخلاق والجماليات، اتجه المجتمع باتجاه الحضارة، والاختلاف بين الحضارات هو تقديم الأخلاق على الجمال، كما في الإسلام، أو العكس لدى الغرب اليوناني، حيث سطر هؤلاء ذلك في الرسوم والنحت والموسيقى، أما الإسلام فقد سطر جمالياته الأنبياء، عبر الصدق والتعاون والرحمة والتآخي الإنساني، ومن قدَّم الجماليات من الأمم، انتهى بتدمير إنسانية الإنسان، ومن قدم الأخلاق، انتهى بأن تحجر وشذ وغلا في سلوكه، ومن جمع بينهما معاً نحا باتجاه التوازن والسعادة والانسجام كما في الإسلام.
11): توجيه العمل: حل مشاكل الإنسان بتكامل ثلاثة عناصر: توجيه الثقافة - وتوجيه العمل - وتوجيه رأس المال، ونحن نتحدث عن توجيه العمل في بلاد الإسلام، وهو غير موجود أصلاً، لأن التسكع سمة تخلفه وتقهقره، وغيابه ناتج عن غياب ثقافة العمل في مجتمعاتنا، والعمل نتاج عناصر الحضارة الثلاث: الإنسان + التراب + الوقت، وبدأ العمل أول يوم للدولة الإسلامية، ببناء المسجد، وهو يشمل كل سلوكياتنا الهادفة والعفوية، من التبسم في وجه الآخر، وغرس فسيلة، وإزالة غصن من الطريق، وإزاحة أذى منه، ومن ذلك (كسب العيش)، وعمل اليد ينتج حضارة، لطعامنا ولباسنا وصحتنا ودوائنا وسلاحنا.
12): توجيه رأس المال: بأن يكون آلة اجتماعية، أو آلة سياسية، والفرق بين الثروة، ورأس المال، واضح في أثر كل منهما في حياة المجتمع والدورة الاقتصادية، فرأس المال متحرك، وكان سبباً لظهور طبقة العمال، وحملات الاستعمار، فالمشكلة الرئيسة كيفية تحريك رأس المال لينتج؟ ويقارب بين الفقراء والأغنياء، ويعمل على تحويل الثروة إلى رأس مال متحرك، من خلال الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، بتوجيه الثقافة والعمل.
13): مشكلة المرأة: لا تنفصل عن مشكلة الفرد في المجتمع بغض النظر عن جنسه، وكثير من المقارنات بينهما محض افتراء وافتئات، وكلا المناصرين لها أو المعارضين، يصدرون عن دوافع جنسية، وهذا ما استبعده الرسول الكريم من تفكير الطرفين بقوله: " النساء شقائق الرجال" والقرآن بين: (خلقكم من نفس واحدة) فهما قطبا الإنسانية، وصانعي حضارتها، وإشراكهما في بنائه واجب عليهما معاً، حسب مؤهلات كل منهما، ووظائفه في الحياة، لخدمة المجتمع، المكون منهما معاً، والمرأة الغربية بمشكلاتها المعاصرة ليست النموذج المفيد لمجتمعها، حتى تقلَّد وتفيد مجتمع آخر، كانت المرأة الأوربية محتشمة وخجولة، وبعد فقدانها ذلك بالتعري، فقدت أنوثتها، وفقدت معها احترامها، فهي الآن بتحررها المزعوم غدت سلعة وأداة تسلية وتفريغ شهوات لا أكثر، وفي بلادنا غلو معاكس بتسترها وعزلها المغالى فيه (الزائد عن مفهوم الحجاب) الذي يفقدها التذوق الجمالي والسلوك الطبيعي، فتبدو مرتبكة في معركة الحياة؛ التي كانت تمارسها الصحابيات أيام الرسول صلى الله عليه وسلـم، والمرأة المسلمة اليوم ينبغي أن تناقش وتبحث عن دورها الطبيعي للرقي بالمجتمع، وكيفية مشاركتها في صنع الحضارة والنهضة والتغيير، ونحن لا نريد انعزال المرأة المسلمة، الذي يساعد المرأة الأجنبية على ملئ فراغه لدى شبابنا، كما لا نريد لمجتمعاتنا ولا لنسائنا الانسياق وراء الآخرين في اتباع حل مشكلاتهم الخاصة بهم.
14): مشكلة الزي: كانت العباءة لباس الجميع فيما مضى، الأمير والغفير، لكن اليوم ظهر عامل جديد لا تلائمه، وهو نوع العمل وصرامته، في المصانع والمزارع والمناجم والجيوش، وكما تخلى- الياباني بعد خسارته الحرب أمام الأمريكي – عن (الكيمونو) لصالح لباس المصانع الأزرق، وقد قيل: " القميص لا يصنع القسيس" ولكني أرى عكس ذلك، فإن القميص يصنعه، لأنه يضفي عليه طابع الأعمال والتصرفات التي تليق به، ولهذا للرياضي لباسه، وللجندي لباسه، وهذا ما أدركه أحد المستشرقين بقوله: " إن العرب كانوا يحبون إظهار عمائمهم في كل مكان.." لكن هذا كان في مرحلة قد تغيرت متطلباتها، ولا غرابة في تغيير لباسنا لصناعة مرحلة جديدة نحن بحاجة إليها، على أن لا نقلد أحداً، وإنما نختار بقيمنا الجمالية والأخلاقية ما يناسبنا، والعمل الذي يتطلبه الواجب منا اليوم.
15): الفنون الجميلة: إما داع إلى فضيلة، أو داع إلى رذيلة، فإذا ما حددت الأخلاق مثُلَها، فهي تحدد وسائلها لتحقيق أغراضها، للتأثير في النفس، أو التعبير عنها، والرقص عند اليونان خلط بالشعر، ويعبر عن التقرب من المرأة، لكنه اليوم يعبر عن الغريزة الجنسية، وسفاحها، وليس التقرب، وكثير من الاتيكيت تعبيرات جمالية للسلوك اللائق في المجتمع، أما الفنون العربية (المصرية) اليوم - كما في السينما- فهي لا تعبر عن شيء من المشاعر أو الأحاسيس، سوى مشاعر العدمية والفراغ، وقيم الهبوط، لغل الناس بقيود الانحلال ليس إلا! حتى صور الكتب المدرسية، وراءها قيم جدية أو عبثية لأطفالنا، ليس في فننا المعاصر أية مسحة عبقرية نقدمها للعالم عنا وعن حضارتنا، لأننا نعيش حياة الذل والقلة والكسل، الذي نضحك له، كأننا نضحك على أنفسنا، ويجب صقل المواهب بجهد صبور، وأهداف عليا للتوفيق بينهما، ولا ينبغي السماح لفنانينا بالابتذال لئلا يشوهوا الفن باسمه، وهو منهم براء.
العنصر الثاني: التراب
التراب من ناحية قيمته الاجتماعية في الأمة، هو ما يمثل قيمة مالكيه (السكان)، وعلى قدر انحطاطهم تكون قيمة وطنهم وترابه، فبتراجع التقدم يتقدم التصحر، وتتخلف الزراعة، ويتبعها تخلف المواشي، وهذه مأساة قبل أن تكون مشكلة، تؤدي إلى هجرة ابن الأرض، لأنه لم يعد له عمل يعمله، سوى الفرار، وقد مات فيه النبات والحيوان، واليوم أصبح بإمكاننا تفجير الذرة، لاستخدامها في تبخير مياه البحر، واستعمالها في حل مشكلة المياه والزراعة والسكان معاً، وزراعة وغرس الأشجار يعيد الحياة والقيمة إلى تراب أوطاننا، وقد صنعت شبيه ذلك فرنسا في منطقة مدينتي (بوردو- و- بياريتز)، وأصبح أغنى بلد لانتاج زيت (التريبنتين) ومثلها صنعت روسيا وهولندا، وأن نجعل من الشجرة رمزاً لبلادنا وما يستحقه ترابها، الذي تمشي عليه وتحارب للدفاع عنه شعوبنا، تحارب العدو والجهل والفقر والتخلف والكسل والقناعة الزائفة، ويكفينا قول نبينا صلى الله عليه وسلـم: " لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها" ، ليعبر الحديث الشريف: عن القيم الثلاث التي نتحدث عنها: الإنسان+ والتراب+ والوقت.
العنصر الثالث: الوقت
أثر عن الحسن البصري التابعي قوله: " ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.." ، الزمن يمر على كل مخلوقات الله في الكون، وعلى الإنسان، فيتحول إلى ثروة فيما ينجزه فيه من أعمال، أو موت وعدم إذا كان لتيسير نومه أو كسله، وفي حالات لا يقدَّر الوقت بثمن، مثل " ليلة القدر" إذا أحييت بصدق التغيير للتوبة والاتجاه نحو قرار الإقبال على الله، والعزم على تصحيح ما تبقى من العمر والعمل، (ليلة القدر خير من ألف شهر) وكذلك انتفاضة شعب في لحظة صحوة، باتجاه النهضة وتصحيح مسار وطن وأمة، لا يقدر بثمن كذلك، وتصبح الساعات القادمة من الزمن عملة ذهبية، ومنجزات بطولية للفرد أو الجماعة، ومع حالة التخلف لا قيمة للوقت في حسابات الأفراد والجماعات، وعلاقة الزمن بتولد الأفكار والمعاني الصائبة علاقة وثيقة، في حياتها أو موتها، ما نفعُ ماءٍ متسرب من ساقية خربة مخرومة، لزرع ينتظر أن يروي عطش أزهاره، لتنمو ثماره؟ والتربية الصحيحة النبوية والراشدية هي السبيل لمعرفة وإدراك قيمة الوقت، وقد فهما التابعي الجليل الحسن البصري، والأذكار النبوية تعلمنا لكل حدث يتعلق بزمن ذكره الخاص، لئلا يضيع الوقت وما ينجز فيه سدى، (أذكار الصباح والمساء)، وتدريب (نصف ساعة) لإنجاز عمل يناسب كل فرد من الأسرة، وتقييمه، يشعرهم بقيمة الوقت، قبل قيمة ما أنجزوه فيه، وعلاقة ذلك بالصلوات الخمس، جد كبيرة في هذا التعليم، والألمان الذين خرِّبتْ ودمِّرتْ بلدهم، عام 1948م واستعمروا من أربع دول، خلال عشر سنوات صنعوا المعجزات بفكرة قيمة الساعة من الزمن، فشاركوا بمعرض القاهرة عام 1957م، وفرضت الحكومة لتحقيق ذلك على كل ألماني العمل تطوعاً لساعتين مجاناً لخدمة الوطن، بالإضافة إلى العمل اليومي، من أجل الصالح العام، ولم يكونوا يملكون سوى: الإنسان + التراب+ الزمن.
الاستعمار والشعوب المستعمرة
1): المُعَاِمل الاستعماري: إن للفرد- لكونه العامل الأولي للحضارة- قيمتان: الأول: (الفرد الخام)، والثاني: (الفرد الصناعي)، بمعنى: الفرد الطبيعي، والفرد الاجتماعي، فالمسلم يملك كل المؤهلات الفطرية لنهضته، كما فعل في مرات عديدة، لكن المجتمع عليه أن يمده بما ينمي مواهبه الطبيعية، ليكون على مستوى متطلبات مجتمعه وعصره وأمته، وفي مثل هذه الحالة يكون الاستعمار المعيق الأكبر لعدم تحقيق الفرد لشخصيته الوطنية أو الإنسانية، فيغدو بتفكيك أوصاله، إلى ماسح أحذية للجندي المستعمر، أو وظيفة مهينة لخدمة المستبد لقاء لقمة العيش ليس أكثر، مما دفع أبناء الإسلام إلى التفكير بالخلاص من جور الاستعمار، عن طريق استعادة حضارتنا الإسلامية، التي أنعمت على ناكري الجميل الغربيين الذين حولتهم من قطاع طرق إلى بناة نهضة عالمية، لنا الفضل الأول في صناعتها، ولهذا نستحق المطالبة بحقوق النشر والاستعادة، لإعادة ملكيتنا الشرعية لها من جديد، لكن بالعمل والإبداع وليس بالتوارث، وعلى الفرد أن يفتش في أعماقه وأعماق تاريخ أمته، عن عناصر كرامته وقيمته الإنسانية الحقة، لاستعادة الدور المفقود، والنهار المنشود بعد طول نوم ورقاد.
2): مُعَاِمل القابلية للاستعمار: لدى الفرد المسلم، بعدمية تفعيل قواه التي وهبها الله له بالفطرة، أو وضعها في أضيق نطاق؛ لا يخدم فيها سوى مصالح المستعمر أو المستبد، فيطلق الغرب علينا تسميات بعيدة عن حقيقتنا ( الإنسان الشرقي) و ( إنسان شرق المتوسط) و ( العربي) و ( التركي)و (الإنسان الأسمر) و(البلاد النامية) للخداع ....الخ، فيجعل قياسنا جغرافي ضيق، لأنه يريد منا أن نكون مجرد يد عاملة لتحقيق أغراضه، فيحارب جمعيات علماء الإسلام، بشتى التهم، لينفر منهم في السينما والإعلام، ويشيع الرذيلة ويحارب فينا الفضيلة، ويزرع الأحقاد والفرقة والطائفية، لنكون مزقاً أمام وحدته ومصالحه، ولنا درس في يهود الجزائر لما حرمتهم فرنسا من التعليم، تطوع كل مثقفيهم لتعليم أبنائهم في البيوت سراً بالمجان، وساندوا بعضهم في تجاراتهم، وقد علموا أن القيام بالواجبات أقصر طريق للحصول على الحقوق، وعلينا معرفة الاستعمار أكثر مما هو يعرف عنَّا، حتى نتغلب عليه، وعلينا أن نتغلب عليه من داخل نفوسنا أولاً، كما علمنا القرآن.
3): مشكلة التكيف: تخضع لقوانين (رد الفعل) كما في الميكانيكا، و(التشبه بالقوى) في علم الاجتماع، وهذا نراه واضحاً في شبابنا وفتياتنا، في لباسهم وقصات شعورهم، ورطنهم باللغة الأجنبية، وغيرها من تقليد المستعمر، حتى في أغانيه ومأكولاته، ومشروباته، وذلك بسبب فقدان مجتمعنا لتوازنه التراثي، أو توازنه الحداثي الخاص، وردة فعل المتشبهين يقابلها ردة فعل سلفية للماضويين، دون النظر إلى أننا في عصر مختلف، وليس كل ماضي نافع اليوم، وهناك من يقيس النجاح بتحرر المرأة، وتحرره جنسياً، وهناك من لا يأبه بماضي ولا بحاضر، يأكل ويشرب ويدفع ضرائب ويغني ويرقص وينام، وهذا جعلنا ننزلق في تناقضات لا انسجام بينها ولا اتجاه، والطامة الأكبر فينا البحث عن الرجل البطل والقائد المخلِّص الخالد، وهذه وثنية جديدة قديمة، والتركيز على شيء وحيد من خدع سرك الإعلام والمستبد، وللعلم فإن السير إلى الحضارة الأصيلة، لا تصلح له الفوضى، ولا المظاهر الخادعة، ولا التناقضات المختلفة، لأن التوازن والانسجام والتنوع المرتب المحكم، يحقق لنا الصورة الناجحة لصناعة الحاضر والمستقبل المنشود، الذي نستحق العيش من أجله، والعبور إلى مرضاة الله وجنته عن طريقه.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الوهن والجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تلخيص كتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
تأليف الأمير " شكيب أرسلان" 1930م
المقدمة: بقلم محمد رشيد رضا: قال تعالى: ﴿إِنَّ للهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.11/الرعد، أصل الكتاب طلب من محمد بسيوني عمران إمام جزيرة سمبس برنيو (بجاوة ملايو) للكتابة في هذا الموضوع في مجلة المنار.
أسباب ارتقاء المسلمين الماضي:
عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت قد ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية فدانت بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي — رضي الله عنهما — لكانوا أكملوا فتح العالم، ولم يقف في وجههم أحد، ولم يستقلوا على الحقيقة إلا عندما جاءهم الإسلام.
أسباب تراجع المسلمين:
قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والقرآن لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: ﴿إِنَّ للهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ولو أيد الله مخلوقًا بدون عمل، لأيد محمدًا رسوله ولم يحوجه إلى القتال والنزال والنضال، واتباع سنن الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية، وإقامة دولة الإسلام.
فليقل لي قائل: أية أمة مسلمة اليوم تقدُمُ على ما أقدمَ عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس، وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم، في الحربين العالميتين، التي قتل فيها منهم ملايين من كل بلدانهم، حتى نعجب نحن لماذا آتاهم الله هذه النعمة والعظمة والثروة، وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟ ولقائل أن يقول: أن الأمة التركية فعلت مثل ذلك في حرب الاستقلال، وتبرع أهلها بالغالي والنفيس، أقول: نعم، ولهذا انتصروا، لكن غالب العالم الإسلامي اليوم يريد النصر والاستقلال، دون أن يدفع ضريبته وثمنه، فهيهات أن يتحقق لهم المراد، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾، إن الله لا يقبل دعاء الكسالى القاعدين عن تلبية أمر الله وطاعته، وإن السلطان في الأرض، أشبه بالحرث في الأرض، فبقدر ما تشتغل فيها تعطيك، ومثال على ذلك فلسطين، جمع اليهود في أيام مليون جنيه لاحتلالها، وعددهم 1% من المسلمين، وجمع المسلمون تبرعات 13 ألف جنيه، وهم يشكلون مائة ضعف عن اليهود، لمقاومة الاحتلال، فمن أسخى بالتضحية لوطنه ودينه؟ الإنجليزي لا يشتري إلا من إنجليزي مثله إذا توفر وجوده، لينفع ابن بلده، فهل نصنع مثلهم؟
وحين مدت مصر يد العون لمجاهدي طرابلس ليبيا، ثبت أمام ثلاثة آلاف إيطالي، مائة وخمسون مجاهداً في واقعة " الفويهات" على باب بنغازي، من الفجر إلى غروب الشمس، فقتل من الطليان نصفهم، حوالي ألف وخمسمائة إيطالي، وأصاب الجنون سبعة من ضباطهم، وتحقق فيهم وعد الله (وَۚإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ )، وفي الريف المغربي أباد المجاهدون في وقعة واحدة 26 ألف جندي أسباني، وغنموا 170 مدفعاً، مع فقرهم الشديد وضعف تسليحهم، لكن إيمانهم وتضحيتهم وإخلاصهم غلب، حتى ساند الأسبانَ الفرنسيون، ثم الطيرانُ الأمريكي كذلك، والعرب كانوا يسمعون وكأنهم آذان من غير قلوب، كل ما جمعوا لمساندتهم 1500 جنيه لا غير، فهل بعد هذا الخذلان من خذلان؟
خيانة بعض المسلمين لدينهم وأوطانهم:
ولولا الخيانة، والتسرع إلى مظاهرة الأجنبي على ابن الملة، لما استأسد الأجنبي وصار يتحكم في المسلمين هذا التحكم الفاحش، حتى جعلهم يخالفوا قواعد دينهم ومقتضى مصلحة دنياهم من أجل مصلحته، بل قام يحملهم على الموت لأجل مصالحه، وضد مصالحهم.
فإن الموت موتان: أحدهما: الموت لأجل الحياة والكرامة (شهادة)؛ وهو الموت الذي حثَّ عليه القرآنُ الكريم المؤمنينَ إذا مدَّ العدو يده إليهم، وهو الموت الذي قال عنه الشاعر العربي:
تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلمْ أجدْ لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما
وهو ما يفعله الفرنسي كذلك، لأجل حياة فرنسا، والألماني لأجل حياة ألمانيا، والإنكليزي في سبيل بريطانيا العظمى — وهلم جرّا — ويجده على نفسه واجبًا لا يتأخر عن أدائه طرفة عين.
وأما الموت الثاني: فهو موت الخيانة، لأجل خدمة الأعداء، وهو الموت الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم؛ وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها، كما يموت المغربي مثلًا حتى تنتصر فرنسا على ألمانيا، ويموت الهندي حتى تتغلب إنكلترا على أي عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر روسيا، والحال أنه بانتصار فرنسا على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم؛ وذلك كما حصل بعد الحرب العامة؛ إذ ازداد طمع الفرنسيين في أهل المغرب، وحدثوا أنفسهم بتنصير البربر؛ ليدمجوهم في الشعب الفرنسي، ويأمنوا على مستقبل المغرب الذي صاروا يطلقون عليه لقب " إفريقية الإفرنسية "، وبالاختصار يموت المغربي على ضفاف الرين أو في سورية حتى يزداد موتًا في بلده، وذلاً ومهانة في أهله، ولو انحصرت هذه الأمور في العوام والجهلاء لعذرناهم بجهلهم، وقلنا: إنهم لا يدرون الكتاب ولا السنة ولا السياسة الدنيوية، ولا الأحوال العصرية، وإنهم إنما يساقون كما تساق بهيمة الأنعام إلى الذبح.
ولكن الأنكى هو خيانة الخواص، مثال ذلك الوزير المقري الذي هو أشد تعصبًا لقضية رفع الشريعة الإسلامية من بين البربر من الفرنسيس أنفسهم، ومثله البغدادي باشا فاس الذي طرح نحو مئة شخص من شبان فاس وجلدهم بالسياط؛ لكونهم اجتمعوا في جامع القرويين وأخذوا يرددون دعاء يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر" ومفتي فاس الخائن الذي أفتى بأن إلغاء الشرع الإسلامي من بين البربر ليس بإخراج للبربر من الإسلام، وهلم جرّا.
وفي سوريا حدث من بعض المعممين مثل ذلك في التعامل وخدمة فرنسا، ولهذا حق فينا قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون، وإن المسلم إذا أراد أن يخدم ملته أو وطنه قد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه، المتعاون مع أعداء الإسلام بالوشاية، وجميع أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق، ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم بسيوفهم، فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم، وهذا ليس على إطلاقه، فإن الأمة الأفغانية مثلًا لا يمكن لأحد أن يخطب فيها في حب الأجانب علنًا ويبقى حيٍّا، والنجديون لا يوجد فيهم من يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه، [ حتى أفسدهم اللاشريف حسين ملك الحجاز، ومحمد ابن سعود أمير نجد، فحرضوهم على قتال أخوانهم الأتراك، الحامية التركية في الجزيرة العربية، والخروج على خليفة المسلمين، لصالح بريطانيا، واليهود، والغرب الصليبي، بسبب أطماع شخصية] (المختزل)، والمصريون قد ارتقت تربيتهم السياسية كثيرًا عن ذي قبل؛ فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي، أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا عليه، فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصيان (لصالح) عدو دينه وبلده فلا يخشى شرٍّا، ولا يحاذر قلقًا ولا أرقًا. [وما ذكرته في الجملة السابقة مصداقاً لما قاله المؤلف].
أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأرَضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَۚعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾؟! حاشا لله أن ينصر هؤلاء!
الموازنة بين المسلمين والنصارى في البذل لنشر الدين:
لو قيل للنصارى الكاثوليك، نريد أن ننصر البربر فهيا للتبرع لهم، لبناء مدارس وكنائس ومستشفيات، فسيجمعوا الملايين بفترة وجيزة، ولو قيل للبروتستانت هيا مدوا لنا يد العون في تنصيرهم، لجمعوا أكثر من الكاثوليك، وبفترة أسرع، أما إذا قيل للمسلمين: إن أخوانكم البربر يكادوا أن يمرقوا من الإسلام لفقرهم وجهلهم، ونريد أن نرسل لهم علماء وكتب ووعاظ، لتثبيتهم على الإسلام، فكم سيجمع المسلمون لهذه المسألة الخطيرة، مقابل ما جمع من النصارى للتبشير والتنصير؟! سننصدم بالحقيقة المرة، مع أن المسلمين فيهم من التجار والأثرياء لو دفع الزكاة بصدق، لانتشل كل فقراء المسلمين في العالم، ومع هذا يوصف المسلمون بالتعصب، مع أن هذا المثال في التبرع لصالح كل ملة، يبين أن التعصب الحقيقي، في جانب النصارى، وكرم بذل المال فيهم، وليس بجانب المسلمين، ومع ذلك ينخدع بعض المخدوعين من المسلمين، فيصدقوا أن أوروبا رفست الدين، ولا تبالي به.
ملاحظة:
1- ورد أن – الملك ابن سعود- في محفل حافل بحجاج الأقطار - وقد طالبه مصري أزهري بمحاربة )الإنكليز والفرنسيس المعتدين على المسلمين ذاكرًا عداوتهم للإسلام ) قال: " الإنكليز والفرنسيس معذورون إذا عادونا؛ لأنه لا يجمعنا بهم جنس ولا دين ولا لغة ولا مصلحة، ولكن المصيبة التي لا عذر لأحد فيها أن المسلمين أصبحوا أعداء أنفسهم، وأنا والله لا أخاف الأجانب، وإنما أخاف المسلمين، فلو حاربت الإنكليز لما حاربوني إلا بجيش من المسلمين" [ والسؤال من كان يحارب مدة ثلاثين سنة في الجزيرة العربية؟ لم يكن يحارب سوى أهل الإسلام والقبائل، وأمراء آل الرشيد، وأمراء الحجاز، والحاميات التركية، بحجة القبور والشرك، بل وحارب أخوانه الوهابية الذين ساندوه، حينما أرادوا العمل بوصية الأزهري المصري في حرب الإنجليز بالكويت والعراق، فقاتلهم بمساندة الإنكليز وطيرانهم ودعمهم].
2- شاع أن المنبوذين من الهنود يريدون فراق مذهب الهنادك، وأن منهم من )شرح الله صدره للإسلام، فأرسل الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر وفدًا من علماء الشريعة إلى الهند؛ ليتحقق هل ثمة أمل في هداية المنبوذين هؤلاء، أم ذاك نفخ في غير ضرم، وعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها خبر إرسال هذه البعثة الأزهرية إلى الهند، ولم تتحرك همة واحد منهم إلى تخصيص ما يوازي القطمير، لأجل هداية هؤلاء المنبوذين الذين يزيد عددهم على ستين مليونًا، هذا بينما المبالغ التي يجمعها المسيحيون في كل عام لأجل تغذية التبشير المسيحي في آسيا وأفريقية تقدر بعشرين إلى ثلاثين مليون جنيه، فهل تطمع هذه الأمة المسلمة أن تجاري تلك الأمة المسيحية، وبينهما كل هذا الفرق؟! (ش).
أهم أسباب تأخر المسلمين:
1- الجهل، والعلم الناقص:
من أعظم أسباب تأخر المسلمين الجهل، الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلمة، ولا يعرف أن يرد عليها، ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.
2- فساد الأخلاق:
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.....فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء : إلا من رحم ربك، أن الأمة خلقت لهم، يفعلون بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادَّة بطشوا به؛ عبرة لغيره.
3- العلماء المتزلفون للأمراء الفاسدين:
المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة، وغاب العلماء الزهاد المخلصون، بعد أن كانوا حصن الأمة، ولا يخافون في الله لومة لائم.
4- الوهن، والجبن، والهلع:
مع أن هذا يتناقض مع الإسلام، وشجاعة المسلم، وحبه الموت شهادة، في الدفاع عن ديار الإسلام وبيضته، ولا يأخذوا العبرة من أعدائهم الفرنجة، الذين يقاتلون من أجل أوطانهم ودنياهم.
5- اليأس والقنوط من رحمة الله ونصره:
الخوف من الفرنجة، والظن أنهم لا يغلبون ولو كانوا قلة، عكس ما كان عليه السلف، حتى أصبح الخور فلسفة حياة، فقال الشاعر:
يرى الجبناءُ أن الجُبنَ حَزمٌ.......وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيمِ
- شبهات الجهلاء الجبناء وردها:
قولهم: أن الفرنجة صنعوا ما لا قبل للمسلمين به من الأسلحة الفتاكة، وهذه حجة واهية، لأن لكل عصر أسلحته، ثم أن قوة السلاح إنما هي بقوة عزيمة حامله، فإذا كان لدى المسلم العزيمة المناسبة، لأخذ السلاح من يد عدوه، وصنَّع مثله، أو المضاد له، كذلك، أو اشتراه ممن يبيعه، فإن السلاح يشترى، أو يصنع، أو يؤخذ من يد الجبان، بقوة عزيمة الشجاع، فهذه حجة لا تثبت قديماً ولا حديثاً، والنصر بيد الله، إذا صدقت العزائم، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقٍّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وحال المسلمين اليوم أنهم تحولوا من مسلمين، إلى مستسلمين، وشتان بين المعنيين! ونسوا أن اليأس هو الكفر بعينه، والبخل في مناصرتهم أخوانهم، يُحِل فيهم الفقر بعدها فلا يجدوا من يساندهم، على قاعدة: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، يقول الشاعر:
هيهات لا خير في مال وفي نعم......قد احتفظتم بها إن أنفكم جدعا.
ويقول المتنبي: فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالهُ .....ولا مال في الدنيا لمن قلَّ مجدهُ.
وحديث القصعة " يوشك أن تداعى عليكم الأمم..." يفسر حالنا اليوم تماماً، ومخالفتنا صريح القرآن في نصرة دين الله، ثم نتأمل منه سبحانه أن ينصرنا، هيهات هيهات!
6- ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين:
أضاع الإسلام جاحد: يرى أعداءه الغرب هم قدوته، فيسعى إلى فرنجة المسلمين، فيلبس قميصاً ليس على مقاسه، ولا يليق بقيمه ومبادئه، مع أن الأمم جميعاً تفخر بماضيها وتتمسك بهويتها، إلا ما ثبت بيقين ضرره، وانتهاء مدة صلاحيته، والدليل محافظة كل من الشعوب الغربية على هوياتها الخاصة، حتى في الدولة الواحدة تجد أعراق وقوميات لا تتخلى عن كيانها المعنوي الثقافي الخاص بها، (الإيرلنديين في بريطانيا- والبريتون في فرنسا- والفلمنك في بلجيكا- وفي سويسرا ثلاثة قوميات محافظة- وفي الدنمارك – وهولاندا- والتشيك – والمجر- وبولونيا التي حكمها الروس ثلاث مائة سنة، فلم يذوبوا فيها- والليتوانيين – والكروات- والصرب- والبلغار )، وهذا كله في أوروبا فقط، وأضاع الإسلام جامد: على كل قديم دون تمحيص مناسبته لعصره وظروف قومه، ويأبى أي تغيير ينفع في إعادة مجد أمته، زاعماً أن الاقتداء بالكفار كفر على إطلاقه، حتى لو كان في استرداد ما سرقوه من حضارتنا وإسلامنا وقيمنا.
- اليابانيون عبرة للعرب:
من رسالة صحفي غربي في جريدة " جرنال دوجنيف" بتاريخ 20/ أكتوبر/ 1931م: إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء، وإن رأيته ساعيًا في كسب المال فلأجل أن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحسن والجمال، وقد انتقش في صفحة نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة ستين سنة فقط، صارت من طور أمة في القرون الوسطى إقطاعية الحكم، إلى أمة عظيمة من أعظم الأمم الصناعية، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم في سياسة اليابان (ليتأمل القارئ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف بكل ما تركه القدماء للخلف، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه ومع التمسك الشديد بقوميته، غير مجيب نداء التفرنج الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ( (Occidentalism، وما هو ضروري له لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح، ولا شك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق الأقصى.
وهناك هياكل دينية معظمة مخدومة بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون، والحق أن هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي أقام عندهم حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة.
مر زمن في المغرب، ينال فيه اليهودي من الميزانية العامة، ما يساوي نيل أربعين مسلماً من أهلها، وينال الفرنسي في الجزائر ما يناله ستون مسلماً جزائرياً، مع أنها أموال المسلمين، فهل في هذا ذرة من العزة والكرامة؟! وما يؤخذ من أموال العرب يذهب قسط كبير منه إلى القسس والرهبان النصارى لتنصيرهم وتنصير أخوانهم في أفريقيا وآسيا، والخلاصة: أن المسلمين كلما آثروا السلامة ازدادوا موتاً وضعة، وكلما احتقروا الحياة الذليلة ازدادوا رفعة وحياة وعزة.
لماذا لا نسمي اليابان وأوروبا رجعية بتدينهما؟
على رغم تقدم اليابان، لم تتخلى عن عقائدها الدينية الضاربة في القدم ألفي سنة، ولا نقول عنها أنها رجعية، ومثل ذلك التزام إنكلترا وتمسكها بالكنيسة الإنكليكانية، ولا يقال عنها رجعية، والقارة الأوروبية مسيحية ومفتخرة بمسيحيتها، وكنائسها بالآلاف، ولا يقال عنها رجعية، وحتى اليهود في كل بقاع الدنيا يفتخرون بيهوديتهم، ويناصرون ديانتهم، وتوراتهم القديم، حتى أن النصارى يشاركوهم في هذا الاحترام لمقدساتهم، وإحياء لغتهم العبرية التي اندثرت منذ زمن بعيد، وجعلوا شباب يهود فلسطين المحتلة يتحدثون بها، ويزعم " وايزمان" أنها لغة الأنبياء، وكل شعوب الأرض تتمسك بتراثها، ويراد من المسلم أن يتخلى حتى عن جلده وثوبه ولسانه! مع أن بريطانيا العظمى في تطورها وديمقراطيتها وقوتها، بقيت سنوات في مجالس لورداتها وقساوستها ونبلائها تناقش مسألة تحول الخبز والخمر في العشاء الرباني والتناول في الكنائس إلى دم الرب المسيح وجسده، ولم يستحيوا من هذا على عادة زعماء دولنا العربية والإسلامية، في الاستحياء من دينهم ومقدساتهم التي هي حق مطلق منزل من الله بيقين الخبر، ويقين المخبر، وهؤلاء الأوربيون يستمسكوا بمعتقداتهم الخرافية، ويطالبوننا بالتخلي عن معتقدات ديننا الحق العظيم، ولو في تستر المرأة المسلمة العفيفة من خلال حجابها الجميل، الذي يعرفوه جيداً على رأس أعظم امرأة في دينهم وتاريخهم: " مريم ابنة عمران الطاهرة البتول"، فهم لا يطالبون راهباتهم بنزع الحجاب، لكنهم يطالبون المرأة المسلمة بنزع كامل ثيابها، وتعريتها لجعلها أضحوكة لهم ولشعوبهم.
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين:
المسلم الجامد: مهد الطريق بجهله وتخلفه للمسلم الجاحد، وأعداء الأمة، أن يتحكموا بالبلاد والعباد، بسبب زهده المزعوم المبتور، مع أن هذا مخالف لصريح القرآن في قوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾، وبهذا أصاب ملته وإسلامه بالبوار وحط منزلتهما عن التمكن في الأرض، وبخاصة ابتعاده عن اتقان العلوم الطبيعية، التي تمكن للدين والمسلمين، فصاروا أفقر الناس، وأجهل الناس، وأذل الناس، وأضعف الناس، متعللاً بالقضاء والقدر، وهو تعلل ظاهر البطلان، حتى ظن الغربيون أن المسلمين جبريون ودراويش، وآيات القرآن في نفي الكسل والجبر كثيرة جداً، وساق المؤلف أربعين آية في الحض على العمل والكسب والتفكر والاجتهاد، وصحابة رسول الله – أعلم الناس بالإسلام – فتحوا نصف العالم والكرة الأرضية في خمسين سنة فقط، ولو استمر أتباعهم من المسلمين على نهجهم لفتحوا العالم بأسره، لكنه الكسل والجمود المتسلل إلى العقول والنفوس.
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه:
أصل الإسلام ثورة على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح، وقطع للعلائق مع غير الحقائق، ولهذا رفض إبراهيم معتقدات أبيه وقومه، ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أمُّةٍ، وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ﴾ 32/ الزخرف، وعلى هذا فالمسلم الحق، من يتأقلم مع كل جديد وتجديد ما لم يتعارض مع المسلمات من الحقائق والدين، مما ينفع العباد ويعمِّر البلاد، ولم يتأخر المسلمون إلا عندما فصلوا علوم الدين عن علوم الدنيا، وهي في القرآن الكريم مقترنة معاً، وتقترن السياسة في العبادة والتعبد، والجامدون فصلوا كل هذا عن الدين جهلاً وجموداً وعنجهية، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾، وهذا يشمل كل أنواع الأسلحة المادية، والمعنوية، والتنظيمية.
مدنية الإسلام:
الإسلام والمدنية قرينان بنصوص القرآن، ولكن ضعف تأثير الدين قد يكون بسبب فساد أخلاق الناس، وضعف تأثير الدين فيهم، وخفوت روحانيته، قد يكون بسبب تأخر المسلمين عن ركب التقدم، فينبهروا بمنجزات الآخرين، والملحدين، والدين ليس هو السبب، بل فساد فهم المسلمين لدينهم، وكذلك فقد الحماس الروحي الأصيل، والانغماس بالتوافه من زخارف الدنيا، وإهمال جوهر الحياة الإنسانية القائم على الأخلاق، والعلم، والتطور، والعمل، ويحيط بهذا كله الرقي الإنساني، والشعور بالعزة والكرامة، ومن ذلك الضعف غياب الشعور بالانتساب إلى جليس الملائكة أبونا آدم عليه السلام، والغرب بكل لغاته لديه تآليف لا تحصى في الاقرار بعظمة مدنية الإسلام، وأكبر دليل أن المدن الإسلامية من بغداد إلى دمشق والقاهرة، وحلب وسمرقند وأصفهان، والقيروان، وقرطبة، وتلمسان، وفاس، وغيرها كانت قبلة العالم وشعوب الأرض.
الرد على حساد المدنية الإسلامية المكابرين
مفكري الغرب المنصفين أقروا بأن مدنية المسلمين نبعت من القرآن، وتفجرت من عقيدة التوحيد، وكانت الفتوحات الروحية والعقلية والمادية في العالم الإسلامي كالشمس للبشرية استضاءت بها، وهذا ما دفع نابليون بونابرت إلى القول: " إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن لا غير"، وتراجع المسلمين كان بسبب رجوعهم إلى القبلية، وانتهاج طريقة حكم استبدادي وراثي، وتقليد الكسروية والقيصرية في الحكم، وجمود التفكير الاجتهادي لدى العلماء والنخبة، ومع تقدم الزمن، ضعفت أحوالهم في جميع المجالات، وكان ذلك من كسب أيديهم، حتى وقعوا في حبائل الاستعمار لأغلب بلدانهم.
اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها:
وضع اليونانيون قبل تنصرهم أسس الفلسفة، ولواء الآداب والمعرفة، فنبغ فيهم حكماء كثر، وفتح الإسكندر المقدوني أكثر دول العالم، من الغرب إلى الشرق، وبعد تنصر اليونان بدأ التراجع والتردي والانحطاط، حتى حكمتهم السلطنة العثمانية، وحقيقة انهيارهم لا علاقة للنصرانية به، بمقدار علاقة انحطاط الأخلاق، وانتشار الخلاعة والخنا، وشيوع الإلحاد، وهجوم البرابرة عليهم وهذه حالهم، قضى على ما تبقى فيهم.
وكذلك انقضاض الفرنجة الصليبيون، والمغول المدمرون، على مدن الإسلام التي أنهكها الاقتتال الداخلي والانقسامات بين حكامها، وتقاعس المسلمون عن الرقي إلى مستوى الأحداث التي أخذت تعصف بالعالم نتيجة كسلهم، وانغماسهم بالشهوات، وتركهم العلم والجهاد، فغلب باطل أعدائهم، حقهم الذي لم يراعوه حق رعايته، بعد أن كان الغربي يتباهى إذا تتلمذ على يد عالم عربي أو مسلم.
سبب تأخر أوروبا الماضي ونهضتها الحاضرة:
كانت أوروبا في القرون الوسطى ألف سنة تغط في ظلام دامس، وهي مستمسكة بنصرانيتها، ويتراشق الكاثوليك والبروتستانت المسؤولية عن ذلك، لكن المفكر الفرنسي فولتير قال عن " لوثير، وكلفين، وهما أبطال التنوير في أوروبا، كلاهما لا يصلح أن يكون حذاءً لمحمد" وهذا يجعل الدين ليس سبباً للتقدم أو التخلف، بمجرد مبادئه ووصاياه، وإنما طريقة تناوله واستثماره، بغض النظر عن صلاحيته، فإذا كان حقاً وصدقاً فيزيد في فرصة نجاح الناس بسببه، ولا يصح جعل الأديان معيار تقدم الأمم أو تخلفها، فهذه اليابان الوثنية تقدمت على رغم وثنيتها، لهذا فالإسلام مجرداً عن فهمه وتطبيقه بشكل سليم، لا يعتبر معياراً للتقدم، ولا معياراً للتخلف، ولكن الإسلام من أكبر عوامل التحضر والتقدم إذا فُهِم على الحقيقة كما فهمه جيل الرعيل الأول، ومن تلاهم، اسماً ورسماً وعملاً وفعلاً، بل ذكر علماء الغرب وحكمائه أن الإسلام كان سبباً لنهضة الغرب، وإعماله للعقل في فهم حقائق الحياة والدين، وهذا ما سبق إليه الإسلامُ وأهلهُ الغربَ بألف عام، ثم تراخوا فيه وأهملوه، فكان سبباً لتخلفهم.
حث القرآن على العلم:
إذا قرر المسلمون النهوض، فإن عشرات الآيات القرآنية تحثهم على العلم والكشف والإبداع، وحصر العلم في قال الله، وقال الرسول، مغالطة كبيرة، لأن الله أمر بتسخير الكون كله، والإعداد للقوة، والتعلم على إطلاقه، وحصره بالعلوم الشرعية جهل مركب من قائله، لأن العلوم الشرعية أدخلت الحساب، وأدخلت الطب، وأدخلت الفلك، والتعدين، في كثير من آيات وقصص القرآن، وإهمالها، تحريف للقرآن وإنكار لأقواله، وهذا كبيرة من الكبائر اعتقاداً وعبادة وسلوكاً، وليس هناك دولة تنهض دون أن يكون لها روح دينية تساعدها على النهوض، حتى لو كانت وثنية، فكيف إذا كان دين الله الحق المنزل المحفوظ، والقول بالنهضة الوطنية أو القومية المقصود به نهضة الأمة: عقيدة، وجغرافيا، وثقافة، وأخلاق، يُستَبسَل في سبيلها.
أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير:
1- انعدام الثقة بالنفس: لأن أكبر عوامل الشفاء إرادة الشفاء، فالإعجاب المبالغ فيه بالغربي، يقتل روح العزة الحقيقية للمسلم، والظن بأن قوة الغرب ثابتة باللوح المحفوظ هراء، لأن الدنيا دوارة، على من أخذ بأسباب النهوض فيها، بغض النظر أنه من الشرق أو الغرب، ويضرب الكاتب مثالاً على ذلك، حين عزم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتمديد خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة ومكة، في الحجاز، وكيف قاوم إنشاءه الإنجليز والفرنسيون وأتباعهم من العرب، وبطلت جميع حججهم المصطنعة المكذوبة، وتحقق ذلك على أحسن حال، ولما احتلت فلسطين وسوريا خرب المستعمر هذا الخط، لتقطيع أواصر العلاقات بين البلدان والأمصار العربية، حتى أشاعوا أن لا نجاح لمشروع زراعي أو اقتصادي أو تجاري، إلا إذا كان بإدارة يهودي أو أحد الفرنجة، وهذا اعتقاد فاسد، حتى يخلوا ميدان الاستغلال لبلادنا لأعدائنا، وقد خطط طلعت باشا في مصر عشرات المشاريع الناجحة، حتى أصبحت قبلة للغربيين في سياحتهم وتنقلاتهم من أوروبا إلى مصر وغيرها، وبدأت الثقة تعود بالتدريج إلى الأمة بهذه المشاريع وأمثالها، بعد أن كان التفكير بها محض خيال.
2- الفوضى العارمة والتخلف: توالت على الحجاز وبلاده المقدسة فوضى عارمة، حتى أصبحت مضرب المثل للأوربيين بأن أقدس بلاد المسلمين لا حضارة فيها ولا مدنية ولا استقرار، مع أن هذا كان بسبب فساد أمرائه، ومتاجرتهم بالنسب القرشي الشريف، وليس بسبب إسلامه، ولقد ورد حديث: " ألا إن بعض آل بيتي يرون أنفسهم أولى الناس بي؛ وليس الأمر كذلك، إنما أوليائي المتقون؛ من كانوا وحيث كانوا، ألا إني لا أجيز لأهل بيتي أن يفسدوا ما أصلحت" (معناه معقول، وتخريجه مجهول) وهذا ما دفع أحد أمراء مماليك مصر أن ينذر أحد أمراء مكة حين فسدت سياسته بكتاب قال فيه: " اعلم أن الحسنة في نفسها حسنة؛ وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة؛ وهي من بيت النبوة أسوأ، وقد بلغنا أنك بدلت حرم الأمن بالخيفة، وأتيت ما يحمرُّ له الوجه وتسودُّ الصحيفة، فإن وقفت عند حدك؛ وإلا أغمدنا فيك سيف جدِّك" .
خلاصة الجواب
بقلم شكيب أرسلان: لوزان 11 نوفمبر 1930م
لا نجاح لأمة الإسلام من غير تضحية، بالمال والعمل والنفس، لتطبيق علومها وما تتعلمه لنهضتها، قال لي حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني: " إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهلاء، فإذا مرض ابنه اختار له أحذق الأطباء" فهذا يبين ضرورة العلم لأجهل الناس، ولهذا فبإمكان المسلمين إذا عزموا على النهوض، يمكنهم أن يبلغوا مبالغ الأوربيين، والأمريكيين، واليابانيون، بالعلم والرقي، بل ويتفوقوا عليهم، مع تمسكهم بإسلامهم، وليس هناك أضر من التشاؤم واليأس على أهل الإسلام، لأن العلم والعمل والإيمان شروط الفلاح، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَۚإِنَّ للهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ 69/ العنكبوت، والإحسان أعلى درجة في الإتقان.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الوهن والجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

ما سبق خلاصات للكتب التالية:
(1):خلاصة كتاب" الأزمة الدستورية في العالم الإسلامي" د. محمد مختار الشنقيطي.
(2): خلاصة كتاب " النظام السياسي الإسلامي لأ. د. منير حميد البياتي.
(3): خلاصة كتاب حقوق الإنسان في الإسلام لد. عبد الله الحامد.
(4): خلاصة كتاب " تطور الفكر السياسي السني" خير الدين يوجه سوي.
(5): خلاصة كتاب " غياث الأمم " للجويني (419-478هـ).
(6): خلاصة كتاب " البرهان على قوامة الأمة على السلطان" د. عبد الله الحامد.
(7): خلاصة كتاب " نظام الحكم في الإسلام" محمد أسد (ليبولد فايس).
(8): خلاصة كتاب " السياسة الشرعية د. عبد الله النفيسي.
(9): خلاصة كتاب " عندما يحكم الإسلام" د. عبد الله النفيسي.
(10): خلاصة كتاب " سلفية العدل عديل الصلاة" د. عبد الله الحامد.
(11): خلاصة كتاب الأمة هي الأصل د. أحمد الريسوني.
(12): خلاصة كتاب " الشورى في معركة البناء" ل "الريسوني".
(13): خلاصة كتاب " سيكولوجية الجماهير" ل. "غوستاف لوبون".
(14): خلاصة كتاب " شروط النهضة " مالك ابن نبي.
(15): خلاصة كتاب " لماذا تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم" - شكيب أرسلان.
أضف رد جديد

العودة إلى ”الحوار والفكر التنويري“