إنصاف الكوثري شيخ مشيخة إسطنبول
مرسل: الجمعة يوليو 08, 2022 5:40 am
بسم الله الرحمن الرحيم
أن تسمع الشخص خير من أن تسمع عنه
كانت قريش توقن أن من يستمع للنبي صلى الله عليه وسلم ويحدثه سيكون مآله الرضوخ للحق، والتعرف إلى ما هم عليه من الباطل، ولهذا حاولت كل السبل لمنع الناس من الاستماع للنبي والإنصات لحديثه الشيق، المملوء بالحقائق والخير والجمال والأدب، وهذا الأسلوب التحذيري ينفع مع كثير من المغفلين وقليلي الوعي والإدراك والمعرفة، ولهذا استخدمت قريش أساليب الترهيب والترغيب لصرف الناس عن الاستماع إليه، وحتى مجالسته ، وممن وقع عليه تأثير التحذير من الاستماع للنبي زعيم قبيلة دوس " الطفيل بن عمرو" وكان سيد قبيلة دوس في الجاهلية وشريف من أشراف العرب المرموقين، وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، يطعم الجائع ويؤمن الخائف ويُجير المستجير، وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب وشاعر مرهف الحس رقيق الشعور، بصير بحلو البيان ومره، حيث تفعل فيه الكلمة فعل السحر.
فلما قدم مكة السنة السابعة للبعثة، قال له زعماء الشرك والوثنية: " يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنّ منه شيئا، فما زالوا به حتى حشى أذنيه كرسفا، فَرقا من أن يبلغه شيء منه، فلما ذهب للطواف حول الكعبة فإذا رسول الله يصلي عند الكعبة، فقام منه قريبا فلما رجع النبي إلى بيته لحقه وقال: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا فو الله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك، فتلا عليه النبي شيئا من القرآن فقال: والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلم ورجع إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا كلهم، وهاجر معه منهم 80 بيتا، ودعا له الرسول .
واليوم في عصرنا المتهافت، تتكرر المسألة من قبل أدعياء الصلاح والحق، وهم لا صلاح إلا في مخيلاتهم، ولا حق لديهم إلا فيما اخترعوه من منهج تكفيري وخارجي، يدعى السلفية، وهم أكثر الناس مخالفة للسلف الصالح، والسلفية الحقيقية، زعموا العودة إلى نقاء الإسلام والتوحيد، من خلال تجاوز الفقه التشريعي المتراكم عبر الأجيال والعصور، منذ أن زكى النبي بعض أصحابه في كونهم فقهاء للأمة، يؤخذ الدين عنهم، وتؤخذ الفتاوى عن فهمهم، لما تميزوا به من فصاحة وبلاغة، وصدق إيمان، وطول صحبة للرسول ، وتزكية منه لهم وترخيص اعتماد نبوي بأنهم من أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم واستفتائهم في شرع الله، قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهم الخلفاء الراشدين، والعبادلة الأربعة، وصحابة آخرون ذكرهم النبي ، وأمر الأمة باتباعهم، وهم الجسر العلمي لفهم الخطاب الرباني، لفهم واتباع الكتاب والسنة، تلقف التابعون فقههم في الأمصار الإسلامية، وخاصة مكة والمدينة والكوفة وبغداد والشام ومصر، وتكون من ذلك الفقه الإسلامي كعلم من العلوم الشرعية، في زمن توسع الدولة الإسلامية، وانتشار الإسلام، إلى جانب علوم شرعية ولغوية وطبيعية في كل مناحي الحياة، لكن أبرز هذه العلوم كانت العلوم الشرعية، وعلى رأسها الفقه والحديث وعلوم القرآن والتفسير وأصول الفقه والتوحيد، وأصبح التشريع الإسلامي اعجوبة النظام العالمي للعلاقات الإنسانية، والتعبد الصحيح لله .
لكن هذا لم يمر دون منغصات في زمانهم من قبل المنافقين، والزنادقة، والشعوبيين، وأعداء الإسلام من الملل الأخرى، والطوائف المنحرفة، من خلال التشكيك بكل هذا الإسلام والوحي المنزل قرآناً وسنة، وبعضاً من الحاسدين على تفوق وتميز الصحابة والتابعين، وأئمة السلف المجتهدين، من خلال الطعن بأئمة الهدى والتقوى والصلاح، فلم يسلم أحد من هؤلاء من ترصد الأخطاء البشرية الصغيرة، في بعض أمور الاجتهاد أو السلوك، مع أن مرتبة هؤلاء هي مرتبة الصديقين والصالحين والمجاهدين والمخلصين، لأن الكمال البشري ليس لأحد، والكمال لله وحده، والعصمة للنبي وحده، وخلال العصور المتتابعة رأينا بعض الناس والفقهاء يطعنوا في بعض، لكن الاحترام والتقدير والتبجيل هو الغالب على الأمة، ولهذا وضع الله لهؤلاء الأئمة القبول في الأرض، وهم الأئمة الفقهاء الأربعة، - أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والإمام محمد بن ادريس الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وآخرون في مستواهم الاجتهادي والفقهي والورع، وانتشرت علومهم وفقههم، وأصبحوا مدارس متبعة، يخدمها ويطور علومها، آلاف من العلماء في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن هذا لم يثن من كان في نفسه نقص خُلُق، أن يتحول إلى نقص في الدين، فيطعن في الأئمة ويدعي أن الدين يؤخذ من مصادره، لا من رجالاته، وهذا وهم يكذبه الواقع البشري، ويكذبه العلم الصحيح، فالطب يؤخذ عن الأطباء، والصيدلة تؤخذ من الصيادلة، واللغة تؤخذ عن اللغويين والأدباء، والجغرافيا تؤخذ من الرحالة والجغرافيين، وكل علم يؤخذ من أربابه، لكن من في نفسه مرض، يقفز على هذه الحقائق والقواعد ليخترع علماً من غير علماء، وشريعة من غير مجتهدين، ودين من غير مصادر تلقي حقيقي، تحت شعار زائف " السلف والسلفية" وهم يتجاوزون هؤلاء السلف من العلماء والمجتهدين، ليهدموا في القرن الحادي والعشرين، ما بناه علماء الأمة في أربعة عشر قرناً، تقليدا لما نشأ في الديانة النصرانية التي أنتجت تمرداً على تسلط الكنيسة البابوية، في فهمها الغامض للمسيحية، لما فيها من تناقضات، زادوا من عمائها بالتحريف والفساد والاستبداد، ومنع الحوار، فنشأ مذهباً يدعوا إلى فهم الكتاب المقدس لديهم دون وساطة القسس والرهبان، يدعى " البروتستانتية".
ولهذا نشأ لدينا في الإسلام ما يشابه هذه الدعوة، لما تحالف الغرب والشرق على هدم الخلافة الإسلامية، والاستعانة بالفاسدين من المسلمين، المنهزمين نفسياً، فأوحوا إليهم بطرق خفية، أن يصنعوا ما صنعه أشباههم من البروتستانت، لتجاوز علماء الأمة من خلال دعوة كاذبة " العودة للكتاب والسنة" ولو كانت هذه الدعوة حقيقية، لما تجاوز أصحابها فقه الأمة لأربعة عشر قرناً، ولما حصروا دعوتهم المزيفة في بند واحد من الإسلام، ألا وهو مسائل الاعتقاد فحسب، وتكفير المسلمين، لا في سلوكهم غير المجدي لنصرة عزة الأمة وسيادتها واستقلالها، وإنما في مسائل تصورية، أغلبها في القلب لا يراه ولا يسمع به إلا من ينبش عن حفريات النفس البشرية، خاصة في حالة التخلف المزري الذي وصل إليه المسلمون بالتخلي عن سيادتهم وعزهم وكرامتهم، فكان هذا الأسلوب وسيلة لزيادة انقسام الأمة المنقسمة أصلاً بسايكس وبيكو، في جميع أقطار العالم الإسلامي بعد إسقاط الخلافة العثمانية، التي كانت الخيط والحبل الباقي من تماسك المسلمين كأمة، أمام جميع أعدائها من كل الملل الكافرة والمشركة، فلم يتوجه هذا الشذوذ في تخطي فقه الأئمة إلى توحيد صفوفها، والبناء على ما وصل إليه التشريع الإسلامي من تفوق، فاق الخيال، حتى أن عباقرة الغرب في السياسة والقوانين، سطوا على فقه أئمتنا فاستنسخوه في تشريعاتهم الحديثة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، ودعاة الكتاب والسنة والسلف، كان همهم الأكبر تنقية التوحيد، مع أن الأمر العملي الذي طبقوه ليس الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة للوصول إلى هذا الغرض النبيل، وإنما استخدموا فيه أسوأ الوسائل من خلال دعوة " محمد بن عبد الوهاب" بفرضه على جهلة قبائل نجد والجزيرة العربية، بالتحالف مع السلطة السياسية، وقتل كل من يخالفهم في هذا السلوك المنحرف، مع الإصرار على تبديع الأئمة الكبار بالفقه، من خلال مقولة غبية: " الصحابة لم يكن لديهم مذاهب!" والعمل على الرجوع مئات السنين للبدء في الفهم الشرعي من جديد دون هؤلاء الأئمة، ودون فهم الصحابة الذين نقلوا أفهامهم للكتاب والسنة إلى هؤلاء الأئمة عبر القرن الثاني قرن التابعين، ثم بدؤا في تخطئة الأئمة، ثم تخطئة الصحابة، وتجاوز القرآن القائل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ويكفي أن أضرب مثالاً واحداً على هذا الخلل: من خلال الهجمة الشرسة من قبل أدعياء التسلف على علم كبير من أعلام الأمة الإسلامية في زمن إسقاط منصب الخلافة الإسلامية عن الدولة العثمانية، وكان يشغل منصب رئيس المشيخة الإسلامية، وكبير فقهائها في إسطنبول، فتعرض للأذى والحرب، والاغتيال، فما كان منه إلا الهرب إلى الشام ثم مصر واستقر الحال به لا جئاً من بطش الكمالية التركية، وهو الشيخ " محمد زاهد الكوثري" فحاربه العلمانيون، وحاربه إسلاميوا الكتاب والسنة، بدعوى صوفيته تارة، وبدعوى محاربته السنة أخرى، وبدعوى تأييده البدع ثالثة، وباتفاق جميع أنصار السلفية المعاصرة في الهجوم على شخصه، بل على الشعب التركي بالكامل، وتكفيره، وإباحة قتل جنوده في بلاد الحجاز وحائل ونجد والإحساء لصالح الإنجليز الذين كانوا يوزعون الرشاوي المالية على شيوخ بعض قبائل نجد للانضمام إلى الحلف الذي أسسوه في بلاد الجزيرة العربية لإعلان ما يسمى " الثورة العربية الكبرى" لإسقاط الخلافة وتقسيم واستعمار العالم الإسلامي من قبل الصليبية والصهيونية العالمية، مما دفعني إلى رسم صورة ذهنية سلبية عن هذا العلم الإسلامي الفذ، فلم أقرأ له أو عنه أي كتاب، إلى أن سمعت بالمصادفة بعض العلماء الثقات يطرونه ويمتدحوا علمه الغزير، ودينه وتقواه، فوقعت عيني في الانترنت على كتاب له بعنوان " مقالات الكوثري".
وفوجئت - بعد تنزيلي الكتاب من الانترنت، وهو مطبوع في مصر، ومدون فيها حين استوطنها، وهو حوالي أكثر من خمسمائة صفحة - بان الرجل أعجوبة الفقه والفهم والحفظ والدين والتقوى، من خلال ردوده على المجلات الحديثة التي بدأت برحلة تطوير الإسلام والفقه الإسلامي، بمعنى تحريفه ومحاربة ثوابته، وتغيير مسار الاجتهاد الذي كان عليه زمن الفترة الذهبية للتشريع الإسلامي، وكثير من هؤلاء الحاملين لراية الإسلام العصري، والإسلام المتطور، هم في الحقيقة تلاميذ مستشرقين غربيين، لهدم الإسلام من داخل حصونه، وبأيدي أبنائه، وبعض هؤلاء كانوا تلاميذ طوائف غير إسلامية، كالإسماعيلية والقاديانية، والإمامية الشيعية، وشارك هؤلاء في حملة الهجوم على هذا العالم الفقيه الفذ كذلك، من يدعون: " أنصار السنة" مع الأسف الشديد، وتصدى لهم هذا العالم الجليل البطل، لا يخشى في الله لومة لائم، ويرد عليهم واحداً تلو الآخر بمقالات تنشر في المجلات الإسلامية والأهرام والأزهر، والرسالة، لكن الردود التي كان يدلي فيها بآرائه واجتهاداته، لا تعدو أن تكون هي اجتهادات الأئمة الأربعة والخمسة والستة، وأقوال الصحابة المجتهدين الكبار، مدللاً على أقواله بأحاديث نبوية بأسانيدها، مع تعريف منه بأي راوٍ تحدث عنه المحدثون الكبار جرحاً أو تعديلاً، دون أن يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالإسناد والتوثيق، إلا ويذكره مع المصدر الذي أخذه منه، وتعجبت من حافظته الحديدية التي تطال السنة بأسرها والفقه وأئمته، وتلاميذ أئمته، حتى خيل لي أن هذا الرجل لا يمكن إلا أن يكون في مقام السلف الصالح الأول في قوة حفظه للسنة، وبيان حال الرواة في أسانيدها، والموضوع الذي يتكلم فيه لا يخلوا من عشرات الإسنادات الحديثية والفقهية، دون أن يكون متعصباً لمذهب كما زعم المشاغبون المنفرون للأمة من اتباع علماء أجلاء كهذا العالم المجاهد الصالح التقي الورع، ومع أنه حنفي المذهب كما زعم المتكلمون فيه، لم أجده كما قالوا بتاتاً، وإنما هو عالم عالمي إسلامي شامل للأئمة من السلف والخلف، ويأخذ بالحكم والفتوى الأصوب والأليق بزمنه وما يتوافق مع الأدلة الشرعية، دون أن يتحيز لغير الحق والصواب والدليل والبرهان، ولقد حزنت حزناً شديداً أن بلغت هذا السن السبعيني، وأنا لم أتعرف على هذا العالم الذي لو كان مثله في الدول غير الإسلامية، لجعلوا له مؤتمرات سنوية، ولسموا باسمه جامعاتهم، وساحات بلدانهم، ولصنعوا له تمثالا في متاحفهم العلمية والتراثية، ونحن مع الأسف، ما يسمى دعاة السلفية المعاصرة مجمعون على غمطه حقه من الإنصاف، وعدم الدعاية له، لا لشيء سوى أن علمه يفوق غالبية علم علمائهم، إن كان عندهم علماء بهذا المستوى، وأنا أشهد أني سمعت كثير من أحاديثهم في القنوات والفيديوهات، وكتب لبعض هؤلاء، فلم أجد لأحد منهم ما وجدته في هذا الرجل الذي أقل ما يمكن أن يوصف به أنه بحر من العلم والعزة والكرامة، والإخلاص، قريب الشبه بعلماء الأئمة الكبار الأوائل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله أعلم.
بقلم: محمد نبيل كاظم.
أن تسمع الشخص خير من أن تسمع عنه
كانت قريش توقن أن من يستمع للنبي صلى الله عليه وسلم ويحدثه سيكون مآله الرضوخ للحق، والتعرف إلى ما هم عليه من الباطل، ولهذا حاولت كل السبل لمنع الناس من الاستماع للنبي والإنصات لحديثه الشيق، المملوء بالحقائق والخير والجمال والأدب، وهذا الأسلوب التحذيري ينفع مع كثير من المغفلين وقليلي الوعي والإدراك والمعرفة، ولهذا استخدمت قريش أساليب الترهيب والترغيب لصرف الناس عن الاستماع إليه، وحتى مجالسته ، وممن وقع عليه تأثير التحذير من الاستماع للنبي زعيم قبيلة دوس " الطفيل بن عمرو" وكان سيد قبيلة دوس في الجاهلية وشريف من أشراف العرب المرموقين، وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، يطعم الجائع ويؤمن الخائف ويُجير المستجير، وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب وشاعر مرهف الحس رقيق الشعور، بصير بحلو البيان ومره، حيث تفعل فيه الكلمة فعل السحر.
فلما قدم مكة السنة السابعة للبعثة، قال له زعماء الشرك والوثنية: " يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنّ منه شيئا، فما زالوا به حتى حشى أذنيه كرسفا، فَرقا من أن يبلغه شيء منه، فلما ذهب للطواف حول الكعبة فإذا رسول الله يصلي عند الكعبة، فقام منه قريبا فلما رجع النبي إلى بيته لحقه وقال: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا فو الله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك، فتلا عليه النبي شيئا من القرآن فقال: والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلم ورجع إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا كلهم، وهاجر معه منهم 80 بيتا، ودعا له الرسول .
واليوم في عصرنا المتهافت، تتكرر المسألة من قبل أدعياء الصلاح والحق، وهم لا صلاح إلا في مخيلاتهم، ولا حق لديهم إلا فيما اخترعوه من منهج تكفيري وخارجي، يدعى السلفية، وهم أكثر الناس مخالفة للسلف الصالح، والسلفية الحقيقية، زعموا العودة إلى نقاء الإسلام والتوحيد، من خلال تجاوز الفقه التشريعي المتراكم عبر الأجيال والعصور، منذ أن زكى النبي بعض أصحابه في كونهم فقهاء للأمة، يؤخذ الدين عنهم، وتؤخذ الفتاوى عن فهمهم، لما تميزوا به من فصاحة وبلاغة، وصدق إيمان، وطول صحبة للرسول ، وتزكية منه لهم وترخيص اعتماد نبوي بأنهم من أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم واستفتائهم في شرع الله، قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهم الخلفاء الراشدين، والعبادلة الأربعة، وصحابة آخرون ذكرهم النبي ، وأمر الأمة باتباعهم، وهم الجسر العلمي لفهم الخطاب الرباني، لفهم واتباع الكتاب والسنة، تلقف التابعون فقههم في الأمصار الإسلامية، وخاصة مكة والمدينة والكوفة وبغداد والشام ومصر، وتكون من ذلك الفقه الإسلامي كعلم من العلوم الشرعية، في زمن توسع الدولة الإسلامية، وانتشار الإسلام، إلى جانب علوم شرعية ولغوية وطبيعية في كل مناحي الحياة، لكن أبرز هذه العلوم كانت العلوم الشرعية، وعلى رأسها الفقه والحديث وعلوم القرآن والتفسير وأصول الفقه والتوحيد، وأصبح التشريع الإسلامي اعجوبة النظام العالمي للعلاقات الإنسانية، والتعبد الصحيح لله .
لكن هذا لم يمر دون منغصات في زمانهم من قبل المنافقين، والزنادقة، والشعوبيين، وأعداء الإسلام من الملل الأخرى، والطوائف المنحرفة، من خلال التشكيك بكل هذا الإسلام والوحي المنزل قرآناً وسنة، وبعضاً من الحاسدين على تفوق وتميز الصحابة والتابعين، وأئمة السلف المجتهدين، من خلال الطعن بأئمة الهدى والتقوى والصلاح، فلم يسلم أحد من هؤلاء من ترصد الأخطاء البشرية الصغيرة، في بعض أمور الاجتهاد أو السلوك، مع أن مرتبة هؤلاء هي مرتبة الصديقين والصالحين والمجاهدين والمخلصين، لأن الكمال البشري ليس لأحد، والكمال لله وحده، والعصمة للنبي وحده، وخلال العصور المتتابعة رأينا بعض الناس والفقهاء يطعنوا في بعض، لكن الاحترام والتقدير والتبجيل هو الغالب على الأمة، ولهذا وضع الله لهؤلاء الأئمة القبول في الأرض، وهم الأئمة الفقهاء الأربعة، - أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والإمام محمد بن ادريس الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وآخرون في مستواهم الاجتهادي والفقهي والورع، وانتشرت علومهم وفقههم، وأصبحوا مدارس متبعة، يخدمها ويطور علومها، آلاف من العلماء في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن هذا لم يثن من كان في نفسه نقص خُلُق، أن يتحول إلى نقص في الدين، فيطعن في الأئمة ويدعي أن الدين يؤخذ من مصادره، لا من رجالاته، وهذا وهم يكذبه الواقع البشري، ويكذبه العلم الصحيح، فالطب يؤخذ عن الأطباء، والصيدلة تؤخذ من الصيادلة، واللغة تؤخذ عن اللغويين والأدباء، والجغرافيا تؤخذ من الرحالة والجغرافيين، وكل علم يؤخذ من أربابه، لكن من في نفسه مرض، يقفز على هذه الحقائق والقواعد ليخترع علماً من غير علماء، وشريعة من غير مجتهدين، ودين من غير مصادر تلقي حقيقي، تحت شعار زائف " السلف والسلفية" وهم يتجاوزون هؤلاء السلف من العلماء والمجتهدين، ليهدموا في القرن الحادي والعشرين، ما بناه علماء الأمة في أربعة عشر قرناً، تقليدا لما نشأ في الديانة النصرانية التي أنتجت تمرداً على تسلط الكنيسة البابوية، في فهمها الغامض للمسيحية، لما فيها من تناقضات، زادوا من عمائها بالتحريف والفساد والاستبداد، ومنع الحوار، فنشأ مذهباً يدعوا إلى فهم الكتاب المقدس لديهم دون وساطة القسس والرهبان، يدعى " البروتستانتية".
ولهذا نشأ لدينا في الإسلام ما يشابه هذه الدعوة، لما تحالف الغرب والشرق على هدم الخلافة الإسلامية، والاستعانة بالفاسدين من المسلمين، المنهزمين نفسياً، فأوحوا إليهم بطرق خفية، أن يصنعوا ما صنعه أشباههم من البروتستانت، لتجاوز علماء الأمة من خلال دعوة كاذبة " العودة للكتاب والسنة" ولو كانت هذه الدعوة حقيقية، لما تجاوز أصحابها فقه الأمة لأربعة عشر قرناً، ولما حصروا دعوتهم المزيفة في بند واحد من الإسلام، ألا وهو مسائل الاعتقاد فحسب، وتكفير المسلمين، لا في سلوكهم غير المجدي لنصرة عزة الأمة وسيادتها واستقلالها، وإنما في مسائل تصورية، أغلبها في القلب لا يراه ولا يسمع به إلا من ينبش عن حفريات النفس البشرية، خاصة في حالة التخلف المزري الذي وصل إليه المسلمون بالتخلي عن سيادتهم وعزهم وكرامتهم، فكان هذا الأسلوب وسيلة لزيادة انقسام الأمة المنقسمة أصلاً بسايكس وبيكو، في جميع أقطار العالم الإسلامي بعد إسقاط الخلافة العثمانية، التي كانت الخيط والحبل الباقي من تماسك المسلمين كأمة، أمام جميع أعدائها من كل الملل الكافرة والمشركة، فلم يتوجه هذا الشذوذ في تخطي فقه الأئمة إلى توحيد صفوفها، والبناء على ما وصل إليه التشريع الإسلامي من تفوق، فاق الخيال، حتى أن عباقرة الغرب في السياسة والقوانين، سطوا على فقه أئمتنا فاستنسخوه في تشريعاتهم الحديثة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، ودعاة الكتاب والسنة والسلف، كان همهم الأكبر تنقية التوحيد، مع أن الأمر العملي الذي طبقوه ليس الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة للوصول إلى هذا الغرض النبيل، وإنما استخدموا فيه أسوأ الوسائل من خلال دعوة " محمد بن عبد الوهاب" بفرضه على جهلة قبائل نجد والجزيرة العربية، بالتحالف مع السلطة السياسية، وقتل كل من يخالفهم في هذا السلوك المنحرف، مع الإصرار على تبديع الأئمة الكبار بالفقه، من خلال مقولة غبية: " الصحابة لم يكن لديهم مذاهب!" والعمل على الرجوع مئات السنين للبدء في الفهم الشرعي من جديد دون هؤلاء الأئمة، ودون فهم الصحابة الذين نقلوا أفهامهم للكتاب والسنة إلى هؤلاء الأئمة عبر القرن الثاني قرن التابعين، ثم بدؤا في تخطئة الأئمة، ثم تخطئة الصحابة، وتجاوز القرآن القائل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ويكفي أن أضرب مثالاً واحداً على هذا الخلل: من خلال الهجمة الشرسة من قبل أدعياء التسلف على علم كبير من أعلام الأمة الإسلامية في زمن إسقاط منصب الخلافة الإسلامية عن الدولة العثمانية، وكان يشغل منصب رئيس المشيخة الإسلامية، وكبير فقهائها في إسطنبول، فتعرض للأذى والحرب، والاغتيال، فما كان منه إلا الهرب إلى الشام ثم مصر واستقر الحال به لا جئاً من بطش الكمالية التركية، وهو الشيخ " محمد زاهد الكوثري" فحاربه العلمانيون، وحاربه إسلاميوا الكتاب والسنة، بدعوى صوفيته تارة، وبدعوى محاربته السنة أخرى، وبدعوى تأييده البدع ثالثة، وباتفاق جميع أنصار السلفية المعاصرة في الهجوم على شخصه، بل على الشعب التركي بالكامل، وتكفيره، وإباحة قتل جنوده في بلاد الحجاز وحائل ونجد والإحساء لصالح الإنجليز الذين كانوا يوزعون الرشاوي المالية على شيوخ بعض قبائل نجد للانضمام إلى الحلف الذي أسسوه في بلاد الجزيرة العربية لإعلان ما يسمى " الثورة العربية الكبرى" لإسقاط الخلافة وتقسيم واستعمار العالم الإسلامي من قبل الصليبية والصهيونية العالمية، مما دفعني إلى رسم صورة ذهنية سلبية عن هذا العلم الإسلامي الفذ، فلم أقرأ له أو عنه أي كتاب، إلى أن سمعت بالمصادفة بعض العلماء الثقات يطرونه ويمتدحوا علمه الغزير، ودينه وتقواه، فوقعت عيني في الانترنت على كتاب له بعنوان " مقالات الكوثري".
وفوجئت - بعد تنزيلي الكتاب من الانترنت، وهو مطبوع في مصر، ومدون فيها حين استوطنها، وهو حوالي أكثر من خمسمائة صفحة - بان الرجل أعجوبة الفقه والفهم والحفظ والدين والتقوى، من خلال ردوده على المجلات الحديثة التي بدأت برحلة تطوير الإسلام والفقه الإسلامي، بمعنى تحريفه ومحاربة ثوابته، وتغيير مسار الاجتهاد الذي كان عليه زمن الفترة الذهبية للتشريع الإسلامي، وكثير من هؤلاء الحاملين لراية الإسلام العصري، والإسلام المتطور، هم في الحقيقة تلاميذ مستشرقين غربيين، لهدم الإسلام من داخل حصونه، وبأيدي أبنائه، وبعض هؤلاء كانوا تلاميذ طوائف غير إسلامية، كالإسماعيلية والقاديانية، والإمامية الشيعية، وشارك هؤلاء في حملة الهجوم على هذا العالم الفقيه الفذ كذلك، من يدعون: " أنصار السنة" مع الأسف الشديد، وتصدى لهم هذا العالم الجليل البطل، لا يخشى في الله لومة لائم، ويرد عليهم واحداً تلو الآخر بمقالات تنشر في المجلات الإسلامية والأهرام والأزهر، والرسالة، لكن الردود التي كان يدلي فيها بآرائه واجتهاداته، لا تعدو أن تكون هي اجتهادات الأئمة الأربعة والخمسة والستة، وأقوال الصحابة المجتهدين الكبار، مدللاً على أقواله بأحاديث نبوية بأسانيدها، مع تعريف منه بأي راوٍ تحدث عنه المحدثون الكبار جرحاً أو تعديلاً، دون أن يترك شاردة ولا واردة تتعلق بالإسناد والتوثيق، إلا ويذكره مع المصدر الذي أخذه منه، وتعجبت من حافظته الحديدية التي تطال السنة بأسرها والفقه وأئمته، وتلاميذ أئمته، حتى خيل لي أن هذا الرجل لا يمكن إلا أن يكون في مقام السلف الصالح الأول في قوة حفظه للسنة، وبيان حال الرواة في أسانيدها، والموضوع الذي يتكلم فيه لا يخلوا من عشرات الإسنادات الحديثية والفقهية، دون أن يكون متعصباً لمذهب كما زعم المشاغبون المنفرون للأمة من اتباع علماء أجلاء كهذا العالم المجاهد الصالح التقي الورع، ومع أنه حنفي المذهب كما زعم المتكلمون فيه، لم أجده كما قالوا بتاتاً، وإنما هو عالم عالمي إسلامي شامل للأئمة من السلف والخلف، ويأخذ بالحكم والفتوى الأصوب والأليق بزمنه وما يتوافق مع الأدلة الشرعية، دون أن يتحيز لغير الحق والصواب والدليل والبرهان، ولقد حزنت حزناً شديداً أن بلغت هذا السن السبعيني، وأنا لم أتعرف على هذا العالم الذي لو كان مثله في الدول غير الإسلامية، لجعلوا له مؤتمرات سنوية، ولسموا باسمه جامعاتهم، وساحات بلدانهم، ولصنعوا له تمثالا في متاحفهم العلمية والتراثية، ونحن مع الأسف، ما يسمى دعاة السلفية المعاصرة مجمعون على غمطه حقه من الإنصاف، وعدم الدعاية له، لا لشيء سوى أن علمه يفوق غالبية علم علمائهم، إن كان عندهم علماء بهذا المستوى، وأنا أشهد أني سمعت كثير من أحاديثهم في القنوات والفيديوهات، وكتب لبعض هؤلاء، فلم أجد لأحد منهم ما وجدته في هذا الرجل الذي أقل ما يمكن أن يوصف به أنه بحر من العلم والعزة والكرامة، والإخلاص، قريب الشبه بعلماء الأئمة الكبار الأوائل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله أعلم.
بقلم: محمد نبيل كاظم.