خلاصة كتاب" الأزمة الدستورية في الأمة الإسلامية"

''

المشرف: محمد نبيل كاظم

قوانين المنتدى
''
أضف رد جديد
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

خلاصة كتاب" الأزمة الدستورية في الأمة الإسلامية"

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

بسم الله الرحمن الرحيممختصر كتاب" الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" د. محمد المختار الشنقيطي.
وسبب هذه الأزمة يرجع إلى الفراغ السياسي في جزيرة العرب، قبل الإسلام، فكان التطبيق للكنوز التشريعية بعد نزول الرسالة فيها هشاً مبسطاً، لم يرسخ معانيها في ثقافة الناس، مع سمو التطبيق الأول لها أخلاقياً، والأمر الثاني: تأثير الاستبداد الأمبراطوري المحيط بالجزيرة العربية، في كل دوله، فضغط ذلك على ثقافة الأفراد في قبول صوراً منه في التطبيق الإسلامي يبعد عن الأصل قليلاً أو كثيراً، ونرد على الزاعمين بأن الإسلام خلو من النظام السياسي، بأن هناك تغييب للنص وليس غياب، فهو موجود بأعلى درجات الشفافية والكمال، وإنما عطل نشرها وعطلت إلزاميتها القانونية، تأثراً بالظروف وحركة التاريخ والمتغيرات والمحيط العالمي آنذاك.وإن خروج الأمة من أزمتها الدستورية المتجذرة في تاريخها، سيؤهلها للمشاركة في إنعاش الحضارة الإنسانية عامة، وسيفيد المسلمين وغير المسلمين، إذا استطاعت أن تحل هذه الأزمة بروح النصوص الأصلية، وروح التطبيق المثالي الذي وفق له في عهوده الأولى النبوية والراشدية.
مدخل الكتاب:وذكر مؤرخ الملل والنحل "الشهرستاني"، فقال:" وأعظم خلاف وقع في الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان"، وأرجع "الكواكبي" تفرق المسلمين في الدين لتفرقهم في السياسة، وأصبحت ديار الإسلام في أيامنا الحالية، هي ذاتها ديار الحرب بينهم، لغياب السياسة الشرعية المحقة بحق وشورى، مع أن ديار الإسلام المفروض أنها دار السلام، حسب الشرع الحنيف، وأرجع المفكر "مالك بن نبي" سبب انهيار الحضارة الإسلامية، إلى أزمتها السياسية الدستورية المزمنة، التي بدأت منذ الفتنة الكبرى، التي كسرت عمق ضمير المسلم المندفع لبذل أقصى ما يستطيع أن يبدع فيه لخدمة دينه والإنسانية.
وجسد التراث السياسي الإسلامي صراعاً بين أربع نماذج هي: النموذج التعاقدي الإسلامي بالاختيار. ونموذج البداوة القبلية المتمرد على فكرة الخضوع لدولة، ونموذج الحكم الفارسي المقدِّس للحاكم، والنموذج الديمقراطي اليوناني القائم على حرية المواطن الأصلي، أما النموذج اليوناني فقد تلاشى فبيل الإسلام، ولم يكن منه الأثر المعتبر، وبقي الصراع في حضارتنا بين القيم السياسية الإسلامية، وقيم البداوة القبلية المتمردة على فكرة الخضوع للدولة، فتزاحمت اثنتين من أهم القيم السياسية هما: أهمية وحدة الأمة، وأهمية شرعية السلطة، ولما وصل الإسلام أرض فارس عبر العباسيين، استعار المسلمون من التراث الساساني مسوغات تقديس الحاكم، والغض عن تحقق شرعيته، لصالح تحقق الوحدة الإسلامية، وجمع الكلمة.روى جرير بن عبد الله حواراً بينه وبين ذي عمرو (أحد حكماء اليمن) فقال: " ...إني مخبرك خبراً: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضا الملوك". وفي رواية: تآمرتم، وشرحهما السيوطي فقال:" بالمد: تشاورتم، وبالهمزة: أقمتم أميراً بينكم على رضا".
لكن الذي حدث فيما بعد هو انشطار الذات في صفين: وبيَّن المفكر "مالك ابن نبي" أن مرحلة الدولة النبوية والخلافة الراشدة، كانت مرحلة تخلق دستوري، طبقت عملياً القيم القرآنية في الحكم التشاوري الراشد، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت معركة صفين حداً فاصلاً بين الراشدية والملكية، وهي محطة انكسار في منحى الصعود السريع في انتشار الإسلام وتمدده، وأن الانتفاضات والثورات الحاصلة بعدها كانت صدى لعدم قبول الضمير الإسلامي لهذا الانكسار وهذا التغير الحاصل، وإن لم تنجح في إرجاع الأمور إلى نصابها الراشدي، فحلت الثقافة الكسروية في طاعة الحاكم المطلقة، مع إنكار القلب على الدوام هذه الطاعة العمياء.ومعادلة الموازنة بين الوحدة والشرعية: وصراعهما الثقافي، بين مذهب التبرير، ومذهب التغيير، ومع الأسف حظ الأمة الإسلامية إلى اليوم هو انتصار المذهب الأول التبريري، ويمثله فقه السياسة الشرعية، على الثاني الذي يمثله الشرعية السياسية، والأول فحواه تكيف المبادئ مع الواقع القاهر، أما الثاني فحواه يستلزم تكييف الواقع مع متطلبات المبادئ، وعلماؤنا لم يفعلوا ذلك بسوء نية، بل بحسن نية، للمحافظة على وحدة الأمة، ولكنه على المدى البعيد، كان دون ريب رهاناً خاسراً، لأنه ساهم في ضياعهما معاً الشرعية والوحدة، لأن قضية الوحدة، لا تنفك عن الشرعية التي شرطها: (الشورى- والعقد- والبيعة)، يمكن للوحدة أن تتحقق بالاستبداد، لكنها لن تدوم طويلاً، وهذا ما أدركه: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
النص والتاريخ المُلْهِم: كم هائل من النصوص السياسية القرآنية والنبوية، تحفل بها المصادر الإسلامية والسيرة، ومع ذلك أهملت عن عمد، لأنها لم تطبق إلا فترة وجيزة عابرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلـم وخلفائه الراشدين، لمدة لا تتجاوز أربعين سنة، مقابل ألف وأربعمائة سنة كان للفقه نصوص أخرى استثنائية، أصبحت هي الأصل في الثقافة والاجتهاد، مع النصوص الأولى التي بقيت ملهمة للأمة على مدى تاريخها الطويل، إلى يومنا هذا، وهي لا يمكن محوها من ذاكرة الأمة،ثغرة في الطريق المسدود: كان الإسلام وسيظل مصدر الشرعية للسلطة ومعارضيها على السواء في بلاد الغالبية المسلمة، وسيظل النص والتاريخ الإسلاميين، ملهمين لضمائر أهل الإسلام، للخروج من أزمتهم الدستورية المستعصية، وأدرك " جان جاك روسو" التناغم في مصطلح التوحيد، لا بالمعنى الكلامي، بل بالمعنى اللغوي الشامل لوحدة الخليقة ووحدة الحياة تحت سلطان الخالق، وهذا ما أدركه " مالك بن نبي" في استعداد العالم الإسلامي أن يكون مواطنه (مواطن عالمي) بسبب توفر الشروط النفسية للإنسان الجديد لديه في العالم المعاصر، شرط أن تحل مشكلة الأزمة الدستورية في بلادنا الإسلامية، وسيؤدي ذلك إلى التصالح مع الذات والتصالح مع البشرية قاطبة.
الفصل الأول: قيم البناء السياسي: قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: " إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم". وقال قدامة بن جعفر، في كتاب الخراج وصناعة الكتابة: " الرئاسة إنما هي رئاسة عفو الطاعة، لا رئاسة الاستكراه والقهر، والمملكة مملكة الرضا والمحبة، لا مملكة التسلط والقهر"حصر القيم السياسية وترتيبها: قام به عدد كبير من المؤلفين المعاصرين ذكرهم باحث ياباني " حسن كوناكاتا " فذكر 25 مؤلفاً منهم كبار الفقهاء، ( عبد الرزاق السنهوري- ومحمد أبو زهرة- ومحمد المبارك- وعبد الوهاب خلاف- ووهبة الزحيلي )، وهي بإيجاز ست عشرة قاعدة، وهي: الشورى- والعدل- والمساواة- والحرية- والطاعة- والأخوة- والبيعة- والوحدة- والمسؤولية- والمحاسبة- وسيادة الشرع- وسيادة الأمة- والحقوق الإنسانية- والتكافل الاجتماعي- والتكامل بين الشؤون الدينية والدنيوية- والاستعانة بالأقوياء الأمناء)، ويضاف إليها: ( الرد إلى الله والرسول- ومال الله- وقيام الناس بالقسط- ولزوم الجماعة وإمامها- ورفق الراعي بالرعية)، ورأى عبد الرحمن الحاج، أن القيمة السياسية العليا هي "المساواة" ونحن نميل إلى أنها" العدل" وتعود القيم الأخرى إليها، لأنها هي التي تأمر بها ليتحقق العدل، ويرتفع الظلم، وهي قيمة كلية إنسانية مطلقة ، قال ابن تيمية: " إن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم" وقال: " إن العدل واجب لكل أحد، على كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقاً، لا يباح قطُّ بحال". وإذا أردنا أن نحدد القيمة السياسة الأساس، نجد أنها " الشورى" لأنها تجعل الإرادة العامة للمجتمع مصدر الشرعية السياسية، وهي تنقسم إلى قيم البناء السياسي، وقيم الأداء السياسي.
أولاً- هدم الوثنية السياسية: فلسفة نظرية القيم السياسية الإسلامية، النابعة أصلاً من التوحيد، عدم إضفاء قدسية على الحاكم، وهذا يتم أساساً من خلال تطبيق الشورى، على قاعدة التعاقد على المساواة والتراضي والمساءلة، وجاء الحديث صريحاً: " لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل" في مسند أحمد 32/199، قال عنه شعيب الأرنؤوط وآخرون "صحيح"، وفي حديث آخر:" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثُه...رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله" رواه مسلم، 3/1688قلب الهرميَّة الفرعونية: قال ألبرت أنشتاين: " الدولة يجب أن تكون خادمة لنا، لا أن نكون نحن عبيداً لها" (ألبرت أنشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة) وهذا ما فعله الإسلام حقيقة على أرض الواقع، أن الحاكم أجير لدى الأمة وخادم لها، ولهذا كرر ذكر قصة فرعون وموسى في القرآن، وكيف انتهى مصير فرعون بالغرق، وقد ذكر القرآن عناصر الطغيان الخمسة في قصته، فرعون الأعلى (التأله)، وهامان (النخبة السياسية المعاونة له)، وقارون ( النخبة المالية)، تعيش على الفساد، والسحرة ( النخبة الثقافية الإعلامية) الداعمة، فقراء الضمير بأجر، والجنود ( الجلادون والقوة العسكرية) مقابل الشعب المستعبد، وبنو إسرائيل في قاع الهرم، وجاء الإسلام ليقلب الأمر رأساً على عقب، فتصبح الأمة هي الأعلى والحاكم أجير عندها، يطاع بمقدار طاعته لها ولمصالحها بحسب شريعة الله، ووصف "الجويني" ذلك فقال: " المسلمون هم المخاطبون، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام" في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم) ولهذا رفض خيار الصحابة التوريث في الحكم، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " جئتم بها هِرَقْلية، وفوقية تبايعون لأبنائكم! " في تاريخ دمشق، ومعجم الصحابة للبغوي، وصحيح البخاري، وذكر التيجاني عبد القادر من أن " الرسل هم أول من جاء بفكرة الدولة، وبمفهوم الاحتكام إلى قانون غير شخصي" في كتابه أصول الفكر السياسي 96، وقال فوكوياما: " اعتمدت حُرمة القانون تاريخياً على الأصول الدينية للقانون" في كتابه أصول النظام السياسي 1/574، ولم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلـم، إلا لرفضه الخضوع لغير قانون السماء ومنهجه.
وقال ابن تيمية: " ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها" وقال: " إن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة" وسائر ما أوجبه الإسلام، وقال ابن جماعة: " يجب نصب إمام لحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين....لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم" في كتاب (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام).ثانياً- الأساس الإجماعي: هو إجماع الصحابة بعد عهد النبوة على استمرار ما فعله رسول الله من تنظيم الدولة، وكان هو صلى الله عليه وسلم على رأسها، ينظم الأمور ويخاطب الملوك والأمراء، فانتخبوا أبوبكر بعده ليكون خليفة له وأميراً على المسلمين، يمثل سلطة اجتماع الكلمة عليه، مع أنهم قبل الإسلام كانت كل قبيلة منفردة بنفسها، فجاء الإسلام فتحول الجميع إلى دولة، وذكر ذلك أبو بكر لأعرابية سألته: " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس"( رواه: البخاري 5/41).
وقال الجويني: " إن نصب الأئمة واجب بإجماع " وقول ابن الأزرق: " الملة لا بد فيها من القائم بها عند غيبة نبيها، يكون فيها كالخليفة عنه، في حملهم على ما جاء به من الأحكام والشرائع" من كتاب (بدائع السلك ص 109).وسأل الصحابي سعد بن تميم النبي" قلتُ يا رسول الله ما للخليفة من بعدك؟ قال: مثل الذي لي إذا عدل في الحُكم، وقسط في القِسط، ورحِم ذا الرحم فخفَّف، فمن فعل غير ذلك، فليس مني ولستُ منه " (البخاري في التاريخ الكبير، صححه الألباني، والأرناؤوط في سنن أبي داود)، وكان من آخر ما أوصى به عمر وهو على فراش الموت: " إني قد تركتُ فيكم ثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القَسْم" (سنن البيهقي: 10/277)، ونقل ابن تيمية قول: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة" (الفتاوى:28/164)، ومثله في حديث صحيح ( رواه ابن ماجة: 5/296).
ثالثاً-إهدار المراتب الاجتماعية: فالعدل السياسي لا يكون من غير مساواة بين الناس، قال ابن تيمية: " إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد "(السياسة الشرعية/132)، وأرجعت الباحثة " لويز مارلو" روح المساواة  في التراث الإسلامي، إلى ما تضمنته عقيدة التوحيد من المساواة، والروح العشائرية العربية التي تأبى الهرمية السلطوية" (كتاب أجنبي) وحديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة" (البخاري: 9/62)، وعن أم الحصين في حجة النبي سمعته يقول: " إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّعٌ –حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم:2/944).سئل النبي: " من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمراً، تجدوه قوياً أميناً لا يخاف بالله لومة لائم، وإن تؤمروا علياً – ولا أراكم فاعلين – تجدوه مهدياً يأخذ بكم إلى الطريق المستقيم" ( مسند أحمد: ابن حجر: إسناده جيد)، ضعفه الأرناؤوط، ولما أخبر النبي إشارة إلى اختيار أبي بكر، قال: " ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر" فأرجع الاختيار إلى الأمة" المؤمنون" وذكرُ اللهِ ذِكْرُ قدر، ونبأ إعجازي، (صحيح مسلم: 4/1856)، وتمسك الخلفاء الراشدون بالشورى، وكثر الحديث عنها عن عمر: " من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه" (ابن حبان: صححه الأرناؤوط).
رابعاً-وجوب التمثيل السياسي: لجميع المسلمين، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، ويتعذر تحقيقها مباشرة من كل الناس، ولهذا سنَّ الإسلام مبدأ النيابة عن الأمة، كما حدث في اختيار اثني عشر نقيباً في بيعة العقبة الثانية، وجعل على رأسهم نقيب النقباء " أسعد بن زرارة" ومثل كل قبيلة بعدد مكافئ، (الطبقات الكبرى: 3/620)، ووردت تسمية أخرى " العرفاء" في قصة سبي هوازن عقب معركة حنين. (البخاري: 9/71)، فأصبح هؤلاء النقباء والعرفاء، بمثابة النواب عن الأمة في اختيار الحاكم فيما بعد، وأضيف إليهم مشاورة قادة الجند، وجمهور الحجاج، عند اختيار عثمان، فتوسعت قاعدة الشورى كلما أمكن ذلك، وحصر الاختيار في دار الخلافة أمر عملي لا أمر نصي، لتعذر غيره ببعد الشقة وخوف الفراغ السياسي.خامساً- عقد البيعة السياسية: تطبيق قاعدة الشورى في اختيار الأمير والحاكم يتم بمفهوم البيعة، ويمثل الطبيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، ما يمنحه الشرعية لتحمل المسؤولية، وهي تمثل تنازلاً من الأفراد عن طريقة حصولهم على حقوقهم بذواتهم، إلى طريقة أكثر انضباطاً من خلال من يمثلهم وهو الحاكم، ومن شروط البيعة: حرية الاختيار، والرضا القلبي: (الإخلاص)، وعدم التضليل أو التدليس، ويجوز فسخ العقد، ويجوز تقييده بمدة زمنية، وشروط معينة تمثل مصالح الأمة.
سادساً- طاعة السلطة الشرعية: أمر الله الحكام بأداء الأمانة، والعدل بين الناس، وأمر الرعية بطاعة الحاكم، في إطار (طاعة الله، وطاعة رسوله) مما يعني في ضوء تطبيق القرآن والسنة، وفسر الزمخشري المراد بأولي الأمر منكم في القرآن: " أمراء الحق، لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، لأنهم لا يؤدون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يرُدون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم، وهم منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة" (الكشاف للزمخشري: 1/524)، والطاعة الملزِمَة المحرَّم الانخلاع منها؛ هي ما كانت عن اختيار دون إكراه بمدلول حديث: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطع إن استطاع" ( صحيح مسلم: 3/1472)، وهي طاعة مشروطة، قال الإمام الشافعي: " كل من كان حول مكة من العرب، لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمَّرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناة، فيما لهم وعليهم" ( الرسالة: 1/79).الفصل الثاني: قيم الأداء السياسي
1- الرد إلى الله ورسوله:" المسلمون هم المخاطبون، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحدٍ من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام" (غياث الأمم: للجويني)." السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب، حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لُبثٌ، ولا لأيامه صفوٌ، وكان سلطان قهرٍ، ومفسدة دهرٍ" (الماوردي: أدب الدنيا والدين).
قال الإمام الشافعي والزمخشري: " تنازع الأمراء والرعية يكون بالرد إلى الكتاب والسنة"، وهذا له مدلول دستوري، وهو المساواة بين الحاكم والمحكوم أمام القانون، بلغة الاصطلاح المعاصر، وإلا أذعن الحق للقوة، وبهذا تضيع كل المعايير الأخلاقية، وتصبح إرادة الطغاة قانوناً، كما قال ملك فرنسا " لويس الرابع عشر": " أنا الدولة"، وهذا ما قاله أنو السادات في خطاب أمام البرلمان المصري يوم 14/مايو/ 1971م: " أنا مسؤول أمام الله، لا أمامكم" مع أن المسؤولية في الإسلام ثنائية، أمام الله في الآخرة، وأمام أصحاب الحقوق في الدنيا.2- الأخذ على يد الظالم:إذا سن القرآن قانون المدافعة لمنع الفساد والظلم، فإن ظلم الحكام نال قسطاً وافراً من هذه المدافعة، بنص حديث عطاء بن يسار عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلـم: " سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده" (صحيح ابن حبان: 1/403- صححه الألباني)، وهذا واجب الناس والأمة، كما في حديث: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (مسند أحمد: 1/208 صحيح-وأبو داود: 6/394- صحيح)، وحديث: " إن الله لا يقدِّس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القويِّ وهو غيرُ متعتع" (صحيح الجامع الصغير: 1/379 - الألباني).
3- منع الغلول والرشوة: والغل: تموُّل غير شرعي ناتج عن سوء استغلال المنصب العام، أو اختلاس قسط من المال العام بعيداً عن أوجه الصرف الشرعية، سواء كان من غنيمة حرب، أو من مال الدولة، من الحاكم أو المحكوم، وحذر النبي من ذلك بقوله: " من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" (أبو داود: 4/565 صحيح - ومسلم)،4- القوة أو الكفاءة العملية: ورد في النصوص الشرعية مصطلح القوة مرادف لمعنى الكفاءة والخبرة في عصرنا الحالي، واقترن بالأمانة في كثير من النصوص، قال تعالى على لسان ابنة الرجل الصالح من مدين لأبيها: (إن خير من استأجرتَ القويُّ الأمين) 26/ القصص، والأمانة التي أقرت بها العرب بعد الإسلام هي الدين والتقوى، وقبله لم تكن تعرفها، لأنها لم تكن تقر بسلطة أحد على أحد، ولهذا لما حاول عثمان بن الحويرث الشاعر القرشي الداهية، أن يقنع ملك الروم القيصر، أن ينصبه ملكاً على أهل مكة قبل الإسلام، فأقر له ذلك، ولما أخبر قومه " قريش" بذلك وخوَّفهم من قطع تجارتهم في بلاده الشام، كادوا أن يقبلوا منه ذلك على غير عادتهم في الأنفة من أن يملكهم أحد، فصاح ابن عمه الأسود بن المطلب على مسمع قومه: يا لعباد الله! ملك بتهامة؟! فانحاشوا عنه وانفضت قريش عن هذا الأمر فلم يتم، والسبب في ذلك كما نعلم ثقافة العرب حينها المبنية على الاعتزاز بالنفس، والحرية الفردية، وعدم قبول سيادة أحد على أحد، إلا في المكارم، وهذه هي البداوة الأصلية للعرب.
ملاحظة: م. ن. م. ن، وأورد روايات اتهام معاوية بالتخطيط المحكم للاستيلاء على السلطة وتوريث ولده لها، بروايات حديثية صحيحة الإسناد.
5- القوة في وجه الأمانة: أنصف المؤلف في هذه الفقرة معاوية رضي الله عنه، مع تحامله عليه منهجياً، فقال: حرب صفين هي انتصار القوة على الأمانة، والقدرة العملية على العظمة الأخلاقية، وإن معاوية رجلاً من بناة الدول، لديه القدرة السياسية، والدهاء، والعطاء، والخبرة، والتجربة، ولا مجال لمقارنته ببعض من خلفوه، ومن عرف قدره هذا قديماً الذهبي: " حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان، على إقليم فيضبطه ويقوم به أتمَّ قيام، ويُرضي الناسَ بسخائه وحِلمه، ....فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد، وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد، وترك الأمة من اختياره لهم" ( الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/132).وحاول ابن مروان أن يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية من أهل المدينة، وقال عن ذلك: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: " سنة هرقل وقيصر" ( صححه الألباني)، وزاد ابن رجب الحنبلي الأمر توضيحاً فقال: " الإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده" (فتح الباري شرح صحيح البخاري).
الفرق بين الخلافة والملك
أولاً- رؤية ابن تيمية: ورفضه الملك المحض في الإسلام، وقال: " الفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى إلا على الطغام" (منهاج السنة: 1/556)، وان الخلط بين الخلافة والملك غير جائز في شريعة الإسلام، وأن المُلك كلياً أو جزئياً من البدع المحدثات في الدين، وفي رواية أبي بكرة عن رؤيا رجل لرسول الله ميزان دلي من السماء، فرجح بالرسول ثم بأبي بكر ثم بعمر، فاستاء النبي للرؤيا وقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله المُلك من يشاء" (مسند أحمد: 34/94 حسَّنه الأرناؤوط)، ويرى المفكر الهندي "محمد إقبال" أن الرسالة الخاتمة جاءت بأمرين مختلفين عن الشرائع السابقة، وهي: إبطال الاستبداد الديني، وإبطال الاستبداد السياسي، فأبطل الرهبنة، وأبطل المُلك، وهذا موافق لرأي ابن تيمية، واعتبر المُلك رخصة استثنائية للضرورة تقدر بقدرها، وعلاقة ابن تيمية بملوك عصره كان للضرورة العملية، وضميره الأخلاقي يرفضه تمسكاً بالنصوص.ثانياً- مزاحمة عهد أردشير الفارسي لقيم الإسلام: كما اتخذ الغربيون كتاب " الأمير لميكيافلي" دليلاً لسياسييهم، اتخذ سلاطين العباسيين " عهد أردشير" الفارسي، هادياً لهم كذلك، وكان يعتبره وزير المعتضد والمكتفي " القاسم بن عبيد الله" أهم من القرآن، وهذا يبين عمق الاختراق الساساني للثقافة السياسية الإسلامية، ونقل أبو العباس المبرد أن الخليفة المأمون (170-218هـ) أمر معلم الواثق بالله، أن يعلمه كتاب الله القرآن، وأن يُقرئه عهد أردشير، ويحفظه كتاب كليلة ودمنة، فكان الواثق يحفظ عهد أردشير عن ظهر قلب، كما يحفظ سور القرآن.
ولهذا اشتكى أبو حيان التوحيدي من مزاحمة الآداب الساسانية للسنة النبوية، فقال: " ألا ترى أن الحال استحالت عجماً، كسروية وقيصرية، فأين هذا من حديث النبوة الناطقة، والإمامة الصادقة؟: يضرب حاجب المنصور من شمَّت الملك عند عطسه، ولما شكي له قال: " أبي جعفر المنصور: " أصاب السنة وأخطأ الأدب" متناسياً أن السنة أشرف من الأدب، بل هي الأدب كله، وكان يحفَّظ عهد أردشير لأولاد الملوك عن ظهر قلب.ثالثاً- استخدام الدين باسم خدمته: عهد أردشير ينص على منهجية أن يكون الدين خادماً للدولة، بينما في الإسلام الدولة خادمة وراعية للدين، لأنه رسالته رسالة تغيير لا تبرير، بينما عند الفرس هو يستخدم لترسيخ ملكهم، والتحكم برقاب العباد، ولهذا قال: " إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين وتلاوته والتفقه فيه، ...فتحدث في الدين رئاسات مستسِرَّات...من سفلة الناس والرعية وحشو العامة، ولم يجتمع رئيس في الدين مُسِرٌّ ورئيس في المُلك معلِن في مملكة واحدة قطُّ؛ إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملْك.." (تجارب الأمم لمسكويه: 1/126)،
رابعاً- صلابة الدرع التوحيدي: صحيح أن الفقهاء تنازلوا عن الشرعية السياسية في الحكم لصالح الإبقاء على وحدة الكلمة والجماعة، بفتاوى جواز حكم المُتَغَلِب، لكن بقي العقل المسلم في عقله الباطن والظاهر يتطلع إلى رمزية حكم العمرين، عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، في الشورى والعدل، ولهذا بقيت عقيدة التوحيد هي الغالبة في الثقافة الإسلامية، وإذا ظهر الغلو في تقديس الأئمة، فهو من نصيب الطائفة الشيعية التي جعلت أئمتها فوق مستوى البشر، وقريبة من مصاف الآلهة، عند الغالبية منهم، لكن هذا الأمر استنكر أشد الاستنكار عند علماء الإسلام السنة، كما هو عند ابن تيمية وتلاميذه، الذين ورَّثوه للأمة من بعده في الثبات على التوحيد، ورفض أي غلو في الملوك والأمراء، حتى لوكان في الصحابة، ولهذا كل حركات التجديد الإسلامي المعاصرة أخذت بأقوال ابن تيمية في إفراد الله تعالى وحده بصفات الألوهية والعظمة، وهذا ما أكده محمد إقبال، ومالك بن نبي كذلك.خامساً- ثورات استرجاع الشورى: بعد أن تمتع أهل الحجاز بالتجربتين النبوية والراشدية، رفضوا بيعة يزيد بن معاوية، فثار الحسين عليها، وثار أهل المدينة المنورة كذلك، فدعوا إلى الرضا والشورى، وكان على رأسهم: ( عبد الله بن مطيع العدوي " قرشي"ومعقل بن سنان الأشجعي " مهاجري"وعبد الله بن حنظلة " أنصاري" وكان يقول عن يزيد بن معاوية: " والله لو لم أجد إلا بَنِيَّ هؤلاء لجاهدتُه بهم" وتطور الأمر إلى تأمُّر – ثورة- عبد الله بن الزبير، الذي بايعته الأمصار، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، ولم يخرج عن سيطرته سوى الشام ومصر، وثورة أخرى هي ثورة التوابين في العراق بقيادة الصحابي " سليمان بن صُرَد" ضد يزيد وعامله عليها عبيد الله بن زياد، قال عنه الذهبي: " كان ديِّنا عابداً" وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، ضد ظلم الحجاج، وقد دعمها الصحابي " أنس بن مالك، وشارك فيها عدد كبير من علماء التابعين: ( عبد الرحمن بن أبي ليلى- وسعيد بن جبير- والشعبي- ومعظم قراء وعلماء البصرة وغيرها).
وكان ابن تيمية أعمق فهما للمسألة حين قال: " إن الظالم يَظلمُ، فيُبتَلَى الناس بفتنة تُصيبُ من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه يزول سبب الفتنة" (منهاج السنة: 3/323).سادساً- عاقبة التضحية بالشرعية: أدت بنهاية المطاف إلى التضحية بوحدة الأمة كذلك، وخاض الأمويون حروباً داخلية أدت في النهاية إلى سقوط دولتهم، وحل بالدولة الوريثة العباسية أكثر مما حل بالأمويين، فقامت دول في الأطراف ضعضعت الدولة العباسية، وانشقت عنها الأمصار واحدة تلو الأخرى، في الأندلس، ودولة الأدارسة في المغرب، والأغالبة في تونس، والدولة الطولونية، والدولة الفاطمية في القيروان ثم مصر، والدولة الطاهرية في خراسان، والدولة الصفارية في فارس، والدولة الغزنوية في أفغانستان والهند، والدولة البويهية الشيعية ثم السلجوقية السنية، ثم الأيوبية في مصر والشام، ثم المملوكية، ووصف ابن مسكويه ذلك فقال: " فصارت الدنيا في أيدي المتغلبين، وصاروا ملوك الطوائف، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومنع ماله......ولم يبق في يد السلطان وابن رائق غيرُ السواد والعراق" (تجارب الأمم: 5/459)، وكل من يظن أن الوحدة القائمة على غير الشرعية تستمر طويلاً فهو واهم.
سابعاً- نهاية العلمانية القهرية: اليوم أكثر من أي وقت مضى يزداد وعي العرب والمسلمين بضرورة التشبث بالقيم السياسية الإسلامية النصية، وفي أعماق ضميرهم الفردي والجمعي النموذج التطبيقي النبوي والراشدي لها، وقد جرب المتنكرون لها – كمال أتاتورك ، والحبيب بورقيبة – نماذج دولة علمانية لم تكن سوى تطرف علماني قهري فشل فشلاً ذريعاً، فخابت جهودهما في هذا السبيل، وهذا ما أكده برهان غليون كذلك، من استحالة الدولة العلمانية في العالم الإسلامي، وأكده الكاتب التركي " أحمد كورو" من أن الديمقراطية في تركيا أدت إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الإسلام، وأن العلمانية في بلاد الإسلام لا تقف على رجليها دون قهر عسكري، أو وصاية استعمارية خارجية.ثامناً- انسداد الخيار السلفي: يظن السلفيون المعاصرون أنهم بحاجة إلى الرجوع إلى الإسلام اليوم، مع أن المسلمين  اليوم هم بحاجة ليس إلى الرجوع للإسلام بمقدار ما هم بحاجة إلى التقدم إليه، كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يتقدم، أو يتأخر) 37/المدثر، كما أن مشكلتهم الأخرى هي التنكر للمكاسب الإنسانية المعاصرة في مجال حقوق الإنسان وحريات الناس السياسية، والاستغناء عن ثقافات الآخرين وتجاربهم الإنسانية وعلومهم، فيقعون في جدب ثقافي وأخلاقي وسلوكي بحسن نية قاصرة، والخوف الشديد بحجة الغزو الفكري، شأن المهزوم الضعيف غير الواثق من نفسه، ونحن بحاجة إلى سلفية جديدة فاعلة تعيد الصلة بإحياء قيم الوحي، دون الاستئسار للتاريخ، حيث جعل العلمانيون الوحي تاريخاً، وجعل السلفيون التاريخ وحياً، افترقوا في البداية واتحدوا في النهاية، مع تباين المقاصد، والخلاصة أن الدولة العلمانية مستحيلة إسلامياً، والدولة السلفية مستحيلة إنسانياً كذلك.
الخلاصة والخاتمة1- شرطا الشورية والمرجعية: الشورى تتصدر قيم البناء السياسي، والشريعة تتصدر قيم الأداء السياسي، بدون توفر هذين الشرطين، لا يمكن أن نتحدث عن دولة إسلامية وهوية إسلامية، ولتحصين هوية الدولة ومرجعيتها، لا بد من النص في الدستور على منع سنِّ أي قانون يناقض الإسلام، أو الإسلام المصدر الوحيد للتشريع، أو المصدر الأساسي، ولهذا جعل ابن خلدون الخلافة الإسلامية هي دولة العدالة الإلهية، لأنها تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم المرجعية التشريعية الإسلامية، فتجمع بين أهم شرط في البناء، وأهم شرط في الأداء، لأنها بذلك تحقق المصالح الأخروية والدنيوية معاً.
2- دساتير من ورق: لأسلمة دولنا لا ينبغي تكييف الإسلام مع الديمقراطية، بل تكييف الديمقراطية مع الإسلام، وليس البحث عن مكانة للشريعة في الدستور، بل البحث عن مكانة الدستور في الشريعة، بالبحث عن القيم السياسية في القرآن والسنة، وترجمتها إلى مواد دستورية، والبحث عن شكل الإجراءات الإدارية الخادمة لها.3- حيوية الإسلام الثقافية: لم ينشأ الإسلام من فراغ، بل هو تتمة لما فعله عشرات الأنبياء قبله، فجاء للإكمال والإتمام، حتى أنه لم يناقض كل ما عند العرب من قيم صالحة، فقال النبي: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (مسند أحمد: 14/513 صحيح)، وقال: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، ....فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (البخاري ومسلم)، ولقد امتدح النبي عدالة النجاشي ملك الحبشة، وامتدح حلف الفضول في الجاهلية، وقال: " لو دعيت به في الإسلام لأجبت" (البدر المنير والشرح الكبير: 7/325)، ولهذا تحاكم القيم الإنسانية كافة إلى قيم الإسلام، أو عدم المعارضة لها، وأقر النبيُ كثيراً من أعراف العرب الفطرية والإنسانية.
4- استثمار المحفز الغربي:ثراء النصوص الإسلامية في مجال القيم السياسية، وفقر تاريخهم في التطبيق والإجراءات العملية لها، يدفعنا اليوم إلى إثبات المقولة الأولى بالعودة إلى المرجعيات النصية، والانفتاح على غيرنا ممن له باع طويل في تطبيقها عبر التاريخ والحاضر، خاصة إذا كانت تجارب الأمم في هذا المجال ثرية، ويمكننا أن نفصل بين مجال الحريات السياسية في الغرب التي لا تتعارض مع قيمنا، وبين الحريات الاجتماعية التي لا تتوافق مع منظومتنا الأخلاقية فيها، فنستثمر الأولى ونعدل في الثانية أو نرفضها، ولا ينبغي أن نشعر بالخوف والدون والحذر حينما نستفيد من الآخرين مما عندهم من أنظمة وقوانين وحريات، ، وهو الشرع الحنيف.5- وصل الأرحام التاريخية: قال داود أغلو: " إن التفكير الاستراتيجي للمجتمعات المعاصرة ليس منبتاً عن تجاربها التاريخية وفضاءاتها الحضارية" وسخر من العلماني التركي الذي يريد أن يكون غربياً رغما عن الغرب" (العمق الاستراتيجي: 42)، وكما فعلت أوروبا حين استفادت من درس القوميات العنصرية التي سببت حربين عالميتين، دمرت كل شيء حضاري في الإنسان، فرجعت إلى القيم الإنسانية غير المتعالية بعرق أو دين أو مذهب، طلباً للسعادة والتقدم والعدالة والحرية، بسوق أوربية مشتركة، وحقوق إنسانية عامة، وهذا الأفق القيمي والثقافي يحتاج جهود كبيرة ليصل إلى أفهام الأجيال الجديدة، لبناء دولهم وانتماءاتهم التي من أعظمها الانتماء للإسلام وحضارته الإنسانية.
وأخيرا نستشهد للأمل بقول جلال الدين الرومي: " إن لدى نسائم الفجر سراً تريد البوح به إليك؛ فلا تعد إلى النوم".انتهى تلخيصه: 3/3/2020م


أضف رد جديد

العودة إلى ”كتب وكتَّاب“