غياث العرب من استمرار الوهن والجرب الجزء الأول

''

المشرف: محمد نبيل كاظم

قوانين المنتدى
''
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

غياث العرب من استمرار الوهن والجرب الجزء الأول

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

بسم الله الرحمن الرحيم
خلاصة خمسة عشر كتاباً في كتاب:
(1):خلاصة كتاب" الأزمة الدستورية في العالم الإسلامي" د. محمد مختار الشنقيطي.

1- قال صلى الله عليه وسلـم: " أول عرى الإسلام نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي.
2- قال محمد إقبال: في رسالته إلى المستشرق الإنكليزي نيكلسون عام (1921م): " ما من ريب أن المسلمين نجحوا في بناء إمبراطورية عظيمة، لكنهم – وهم يفعلون ذلك- أدخلوا الروح الوثنية إلى قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم"، وأضاف: " إنني أعتبر من الخسارة أن تقدم الإسلام كإيمان فاتح، أدى إلى تجميد نمو أجنة بذور التنظيم الاقتصادي والسياسي للمجتمع التي أجدها مبثوثة في القرآن والسنة النبوية" .
3- وما ذكره الفقيه الدستوري السنهوري، من إحجام الفقهاء عن الخوض في مسائل الخلافة والقانون العام فأبقاهما في حالة طفولة، وهذا نفس تعبير إقبال عنه بالأجنة، وفسره ابن خلدون قريباً من هذا المعنى، بالقول" كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان، لا تزيد عليها، لأن عصابة الدولة القائمين بها لا بد من توزيعهم على الممالك والثغور التي تصير إليهم،..."فإذا توزعت العصائب على الثغور والممالك، فلا بد من نفاد عددها ، وهذا ما لاحظه كثير من المفكرين العرب وغير العرب، من أن الفتوحات الإسلامية كانت سريعة للغاية، بما جعل الأمة تتجاوز ذاتها لحظة ميلادها، حيث انتقلت بالإسلام من أمة عربية إلى أمة إسلامية مترامية الأطراف، لم يقدر العرب على إستيعابها، خاصة أنهم فكروا بالفتح أكثر مما فكروا بالإسلام ونظمه، فآثروا كرسي الحكم، على مبادئ الحكم الشرعية.
4- بيَّن مالك ابن نبي أن مرحلة الدولة النبوية والخلافة الراشدة، كانت مرحلة تخلق دستوري، طبقت عملياً القيم القرآنية في الحكم التشاوري الراشد، إلى أن وقعت الفتنة الكبرى، وكانت معركة صفين حداً فاصلاً بين الراشدية والملكية، وهي محطة انكسار في منحى الصعود السريع في انتشار الإسلام وتمدده، وأن الانتفاضات والثورات الحاصلة بعدها كانت صدى لعدم قبول الضمير الإسلامي لهذا الانكسار وهذا التغير الحاصل، وإن لم تنجح في إرجاع الأمور إلى نصابها الراشدي، فحلت الثقافة الكسروية في طاعة الحاكم المطلقة، مع إنكار القلب على الدوام هذه الطاعة العمياء.
5- أدرك " جان جاك روسو" التناغم في مصطلح التوحيد، لا بالمعنى الكلامي، بل بالمعنى اللغوي الشامل لوحدة الخليقة ووحدة الحياة تحت سلطان الخالق، وهذا ما أدركه " مالك بن نبي" في استعداد العالم الإسلامي أن يكون مواطنه (مواطن عالمي) بسبب توفر الشروط النفسية للإنسان الجديد لديه في العالم المعاصر، شرط أن تحل مشكلة الأزمة الدستورية في بلادنا الإسلامية، وسيؤدي ذلك إلى التصالح مع الذات والتصالح مع البشرية قاطبة.
6- وذكر مؤرخ الملل والنحل الشهرستاني، فقال: : " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان"، وروى جرير بن عبد الله حواراً بينه وبين ذي عمرو (أحد حكماء اليمن) فقال: " ...إني مخبرك خبراً: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضا الملوك". وفي رواية: تآمرتم، وشرحهما السيوطي فقال:" بالمد: تشاورتم، وبالهمزة: أقمتم أميراً بينكم على رضا".
7- التأمر من غير إمرة، استثناءً للضرورة، وجد في قصة غزوة مؤتة، بعد مقتل قادتها الثلاثة، وردت عند البخاري عن أنس، فيها: " ثم أخذها –أي الراية- خالد بن الوليد" عن غير إمرة"، ففتح الله عليه"، ومن فقه البخاري أن عنون لها بعنوان (باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو)، وهذه الحالة الاستثنائية لها شروطها وهي مقررة في جميع القوانين الدستورية في العالم، حتى يزول الخطر الداهم، لكن كثير من فقهائنا – مع الأسف خلطوا بين الحالتين- فجعلوا الرخصة؛ عزيمة، والفرع، أصل، والاستثناء، حالة دائمة، فمنحوا السلطة غير الشرعية، حقوق السلطة الشرعية.
8- قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: " إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم".، وقال قدامة بن جعفر، في كتاب الخراج وصناعة الكتابة: " الرئاسة إنما هي رئاسة عفو الطاعة، لا رئاسة الاستكراه والقهر، والمملكة مملكة الرضا والمحبة، لا مملكة التسلط والقهر".، و ذكر أرسطو منذ 2300سنة، أن الأفضل للدولة أن يحكمها قانون جيد، من أن يحكمها رجل جيد.
9- الحديث صريح في مسألة الحكم: " لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل" في مسند أحمد 32/199، قال عنه شعيب الأرنؤوط وآخرون "صحيح"، وفي حديث آخر:" أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثُه...رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله" رواه مسلم، 3/1688، وقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" ولا هنا ناهية وليست نافية، لأن القيصرية استمرت قروناً بعد العهد النبوي، ولهذا أحب الصحابة لقب أمير وكرهوا لقب ملك، وذكر أبو حامد الغزالي: " أن قيصر ملك الروم أرسل رسولاً إلى عمر لينظر أحواله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ قالوا ليس لنا ملك، بل لنا أمير" في كتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك، قال ألبرت أنشتاين: " الدولة يجب أن تكون خادمة لنا، لا أن نكون نحن عبيداً لها" (ألبرت أنشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة).
10- ولو دققنا فيما شجر بين الناس بعد انتهاء المرحلة الراشدية، فأدى إلى ما عرف بالتسنن والتشيع: هو المشكلة السياسية التي تكاد تكون متقاربة بين السنة والشيعة أول الأمر، لأن موضوع الخلاف بينهما هو موضوع يتعلق بالإمامة في الأصل، وهو موضوع سياسي، ولهذا ذكر " مارشال هودغسون" أن الشيعة والعثمانية كانتا مجرد موقفين من قضية الإمامة، لا انشطاراً شاملاً في صف المؤمنين، والناظر لمسألة التشيع والتسنن، يرى أنهما كانا من أعراض الأزمة الدستورية ووليدا أزمتها، ولو دقق المحقق في الأمر لوجد أن السنة حصروا الإمام في قريش، والشيعة حصروه في آل البيت، وقال الشيعة بعصمة الأئمة، وقال السنة بعدالة الصحابة، (وهي صيغة مخففة من العصمة)، وتبنى الشيعة التقية، وتبنى السنة المداراة، وهما في النهاية انتهيا إلى مداهنة الحاكم الجائر، خوفاً من سطوته، أو خوفاً على الأمة من التمزق، وهذا يجعل الفكر السني والشيعي وليدا الفعل التاريخي نفسه، والنتيجة متقاربة لديهما في النهاية، وهي قبول ما رآه السنة – على مضض- غصباً لحق الأمة، وقبل الشيعة -على مضض- ما رأوه غصباً لحق الأئمة، وهذا ما يجعل الأزمة الدستورية لديهما واحدة، ولكن بفقهين مختلفين.
11- وصف إمام الحرمين الجويني المشكلة السياسية فقال: " المسلمون هم المخاطبون – في القرآن- والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستناب في تنفيذ الأحكام" في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم)، ولهذا رفض خيار الصحابة التوريث في الحكم، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " جئتم بها هِرَقْلية، وفوقية تبايعون لأبنائكم! " في تاريخ دمشق، وقال ابن تيمية : " موسى جاء بالعدل، وعيسى جاء بتكميلها بالفضل، والنبي صلى الله عليه وسلـم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل" في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، إشارة إلى قول الله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) 90/النحل، وقد عبر الماوردي عن أهمية الدولة للدين: " لما في السلطان من حراسة الدين والدنيا، والذب عنهما ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذَّ عنه بارتداد، أو بغى فيه بعناد، أو سعى فيه بفساد....، فليس دين زال سلطانه، إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهاية" في كتاب (أدب الدنيا والدين)، ولهذا كان كثير من أنبياء بنو إسرائيل ملوكاً، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة: " من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية" (ابن حبان/ صحيح)، و " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " (رواه مسلم)، وقد سن النبي الإمرة ولو كانوا ثلاثة: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" (أبو داود)، ولم يقيده عمر بسفر فقال: " إذا كان نفر ثلاث فليؤمروا أحدهم، ذاك أمير أمَّره رسول الله " (ابن خزيمة/ صحيح).
12- قال ابن تيمية: " ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها" وقال: " إن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة" وسائر ما أوجبه الإسلام، وقال ابن جماعة: " يجب نصب إمام لحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين....لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم" في كتاب (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام)، ويقر " ما يكل كوك" بعظمة ما فعله رسول الله بقوله: " حوَّل محمدٌ قبائل العرب الضعيفة إلى أمة عزيزة"، وقال هشام جعيّط: " أورث محمد أمته والعالم، ديناً مكتملاً، ودولة مهيمنة على جزيرة العرب، مترابطين بشكل لا يقبل الانفكاك (كتاب الفتنة/33.)، وذكر أبو بكر لأعرابية سألته: " ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس"( رواه: البخاري 5/41).
13- عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أن أباك غيرُ مستخلف؟ قال: قلت: ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعل، قال: فحلفتُ أني أكلمه في ذلك، - بعد طعنه - ...فكلمته وقلت: لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيتَ أن قد ضيَّع؟، فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي، ....إلا أنه كما فعل رسول الله غير مستخلف" (رواه: مسلم)، ولهذا رتب مجلساً من كبار أهل الحل والعقد، وهم الستة المرضيين، ليختاروا أميراً للمسلمين، فكان طريقة جديدة متطورة عن خلافة أبي بكر، وخلافته كذلك، تحقيقاً وتطويراً لمبدأ الشورى، وروى عبادة بن الصامت – فيما يتعلق ببيعة الإسلام -: " وأن نقوم، أو نقول، بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" (البخاري)، وأكد ابن تيمية، وقبله الماوردي، قال: " مقاصد الدين صلاح الدين والدنيا كلها ترجع إلى العدل، لقوله تعالى: (وأمرتُ لأعدل بينكم..) 15/الشورى+ وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) 58/النساء، وسأل الصحابي سعد بن تميم النبي" قلتُ يا رسول الله ما للخليفة من بعدك؟ [من الطاعة] قال: مثل الذي لي إذا عدل في الحُكم، وقسط في القِسط، ورحِم ذا الرحم فخفَّف، فمن فعل غير ذلك، فليس مني ولستُ منه " (البخاري في التاريخ الكبير، صححه الألباني، والأرناؤوط في سنن أبي داود)، وكان من آخر ما أوصى به عمر وهو على فراش الموت: " إني قد تركتُ فيكم ثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القَسْم" (سنن البيهقي: 10/277)، ونقل عن ابن تيمية قوله: " إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة" ، (الفتاوى:28/164) ، ومثله في حديث صحيح ( رواه ابن ماجة: 5/296).
14- أرجعت الباحثة " لويز مارلو" روح المساواة في التراث الإسلامي، إلى ما تضمنته عقيدة التوحيد من المساواة، والروح العشائرية العربية التي تأبى الهرمية السلطوية" (كتاب أجنبي)، وعن أم الحصين في حجة النبي سمعته يقول: " إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّعٌ –حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم:2/944)، وأكثر من ذلك عدم حرمان ذوي الإعاقة من المشاركة في الحكم، بدلالة: ما ذكر خليفة بن خياط أن النبي: استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثلاث عشرة مرة في غزواته" (تاريخ خليفة بن خياط/96)، وللمرأة نصيب في الإسلام من المسؤولية السياسية، بدلالة ثناء القرآن على ملكة سبأ، وذكره مشاورة قومها، وهذا له دلالة تشريعية، أن الحكم في الإسلام لا ينبغي أن يكون أقل من حكم وثني لسبأ، في مسألة الشورى، وهذا ما استنبطه رشيد رضا من القرآن، واستنكر القرآن شركهم، ولم يستنكر حكمهم من قبل امرأة، ودلالة أخرى في بيعة العقبة الثانية شاركت فيها امرأتان: نسيبة بنت كعب- وأسماء بنت عمرو (مسند أحمد: 25/92 حسنه الأرناؤوط)، وحضرت نسيبة بيعة الرضوان، وعن أم سلمة سمعت رسول الله يقول: " أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدعُ النساء، فقلتُ: إني من الناس" (رواه: مسلم: 4/1795)، واستن عمر بهذا فكان يستشير " الشفاء بنت عبد الله" ويقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئاً من أمر السوق" (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وعدم إشراك المرأة في الوظائف العامة في التاريخ، كان لاعتبارات اجتماعية وليس لأدلة شرعية.
15- قال الماوردي: " السلطان إن لم يكن على دين، تجتمع به القلوب، حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لُبْثٌ، ولا لأيامه صفوٌ، وكان سلطان قهرٍ، ومفسدة دهرٍ" (أدب الدنيا والدين/135)، وأخبر النبي إشارة إلى اختيار أبي بكر، قال: " ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر" فأرجع الاختيار إلى الأمة" المؤمنون" وذكرُ اللهِ ذِكْرُ قدر، ونبأ إعجازي، (صحيح مسلم: 4/1856)، وعن عمر: " من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه" (ابن حبان: صححه الأرناؤوط)، لأن غياب المشاورة، غياب للتمثيل السياسي: قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، ويتعذر تحقيقها مباشرة من كل الناس، ولهذا سنَّ الإسلام مبدأ النيابة عن الأمة، كما حدث في اختيار اثني عشر نقيباً في بيعة العقبة الثانية، وجعل على رأسهم نقيب النقباء " أسعد بن زرارة" ومثل كل قبيلة بعدد مكافئ، (الطبقات الكبرى: 3/620)، ووردت تسمية أخرى " العرفاء" في قصة سبي هوازن عقب معركة حنين. (البخاري: 9/71)، فأصبح هؤلاء النقباء والعرفاء، بمثابة النواب عن الأمة في اختيار الحاكم فيما بعد، وأضيف إليهم مشاورة قادة الجند، وجمهور الحجاج، عند اختيار عثمان، فتوسعت قاعدة الشورى كلما أمكن ذلك.
16- قالت حيَّة بنت أبي حيَّة: " ذكرتُ غزوةَ بعضنا بعضاً في الجاهلية، وما جاء به الإسلام من الأُلفة...فقلت: يا عبد الله! حتى متى ترى أمر الناس هذا؟ قال - أبو بكر- ما استقامت الأئمة" (سنن الدارمي: وحسنه المحقق)، وقال صلى الله عليه وسلـم: " من دعا بدعوى الجاهلية، فهو من جُثاء جهنم، قالوا يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: وإن صام وإن صلى، وزعم أنه مسلم" (مسند أحمد: صححه الأرناؤوط)، وفسر الزمخشري المراد بأولي الأمر منكم في القرآن: " أمراء الحق، لأن أمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، لأنهم لا يؤدون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يرُدون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم، وهم منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة" (الكشاف للزمخشري: 1/524)، ويدل على ذلك منطوق حديث: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطع إن استطاع" ( صحيح مسلم: 3/1472).
17- قال الإمام الشافعي: " كل من كان حول مكة من العرب، لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمَّرهم رسول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناة، فيما لهم وعليهم" ( الرسالة: 1/79)، وأكد الطاعة المشروطة الحسن البصري لوالي العراق عمر بن هبيرة، حين استفتاه بالكتاب يأتيه من السلطان فيه مخالفة لشرع الله، فقال له: اعرضه على كتاب الله، فإن وجدته موافقاً له فخذ به، وإن وجدته مخالفاً فأبعده" (بدائع السلك: 2/96)، قال الإمام الشافعي والزمخشري: " تنازع الأمراء والرعية يكون بالرد إلى الكتاب والسنة"، والإمارة مغرم وأمانة وليس مغنم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلـم: " إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه" (مسلم)، وجاء في مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحت عنوان: " باب القود من السلطان" عن حبيب بن صهبان قال: سمعت عمر يقول: " ظهور المسلمين حِمى الله لا تحِلُّ لأحد، إلا أن يُخرجها حدٌّ" (المصنف: 9/464)، وأقاد عمر من أمرائه، اتباعاً للنبي، فعن عطاء قال: كتب عمر إلى عماله أن يوافوه بالموسم فوافوه، فقام فقال: يا أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من دمائكم، ولا من أموالكم، فمن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم،...فقام رجل فقال: عاملك ضربني مائة سوط، فقال عمر: قم فاستقد منه، فقام إليه عمرو بن العاص فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك إن تفتح هذا على عمالك كبُر عليهم، وكانت سنة يأخذ بها من بعدك، فقال عمر: ألا أُقِيده منه وقد رأيتُ رسولَ الله يقيد من نفسه؟! فقال عمرو: دعنا إذاً فلنرضه، فقال: دونكم، قال: فأرضوه بأن اشتريتْ منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين" ( الخراج: لأبي يوسف/129).
18- أدرك ابن تيمية مبكراً أن قيادة الناس انتقلت بعد وفاة النبي من يد الفرد المعصوم، إلى يد الأمة المعصومة، في رده على الشيعة، بقوله:" عصمة الأمة تغني عن عصمة الأئمة، لأنها هي الحافظة للشرع، (منهاج السنة: 6/467)، ولهذا روي عن عطاء بن يسار عن عبد الله ابن مسعود عن النبي ص قال: " سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده" (صحيح ابن حبان: 1/403- صححه الألباني)، وحديث: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (مسند أحمد: 1/208 صحيح-وأبو داود: 6/394- صحيح)، وحديث: " إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القويِّ وهو غيرُ متعتع" (صحيح الجامع الصغير: 1/379 الألباني)، وقال رسول الله ص: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" (البخاري: 4/85)، وهذا الاصطلاح له مدلول قدسية عظيم، في النظام الإسلامي السياسي، لأنه عطاء الله للأمة، لأن حقوق الأمة هي حقوق الله، تعظيماً لحرمتها، والحاكم مستأمن عليها لا مالك لها، قال النبي: " ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسمٌ أضع حيث أُمِرتُ" (البخاري)، وكتب ابن الجوزي: " أكثر السلاطين يُحصِّلون الأموال من وجوه رديئة، وينفقونها في وجوه لا تصلح، وكأنهم تملكوها، وليست مال الله" (صيد الخاطر: 402)، ودخل التابعي اليمني الزاهد" أبا مسلم الخولاني" على معاوية رضي الله عنه قال: السلام عليك أيها الأجير...فوعظه وحثه على العدل" (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/13).
19- ويؤكد ما سبق حديث: " ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌ لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة" (البخاري)، وفي رواية: " ثم لا يجهدُ لهم وينصح"، وقال صلى الله عليه وسلـم: " ستكون بعدي أمراءُ من صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولستُ منه، وليس بوارد عليَّ الحوض..." (النسائي: 7/160 صححه الألباني)، وعن خباب بن الأرت قال: " خرج علينا رسول الله فقال: اسمعوا فقلنا: سمعنا، - مرتين- فقال: إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم" (مسند أحمد: صححه الأرنؤوط)، وقال أناس لابن عمر: " إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدها نفاقاً" (البخاري: 9/71)، وكان النبي يأخذ البيعة والعهد من أصحابه على السمع والطاعة، ويلقنهم الاستثناء فيها، لئلا تكون مطلقة، بقوله: " فيما استطعتم" (البخاري)، ويلقن النساء المبايعات مثل ذلك، كما أخبرت أميمة بنت رقيقة، فقال لنا: "فيما استطعْتُنَّ وأطقْتُنَّ، قلتُ: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا" (ابن ماجة: 4/128-صححه الأرنؤوط)، وذكَّرَ أبو مريم الأزدي معاوية حين دخل عليه فقال: " سمعت رسول الله يقول: " من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخَلَّته وفقره، قال: فجعل [معاوية] رجلاً على حوائج الناس" (أبو داود: 5/570 صححه الأرناؤوط)، وشدد عمر على ولاته لما سمع بأن أميره سعد بن أبي وقاص بنى قصراً جعل له باب دون الناس؛ فأرسل إليه من يحرق الباب، واعتذر سعد" (مسند أحمد: 1/558)، ولم يكن لرسول الله بوَّاب ولا حاجب.
20- ويرى ابن حزم أن أبي بكر لم يقتل مرتداً غير ممتنع تاب أو لم يتب، وإنما قاتل المرتد المحارب " (المحلى: ابن حزم 12/116 )، أما حديث: " من بدل دينه فاقتلوه" (البخاري: 4/61)، من العام المخصص، بحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة" (مسلم: 3/1302)، ولهذا قال الفقيه الحنفي الكاساني: " والقتل ليس من لوازم الردة عندنا، لأن المرتدة لا تقتل بلا خلاف بين أصحابنا" (بدائع الصنائع للكاساني: 15/420)، وهذا ما يرجح القول بعدم قتل المرتد المسالم، إبقاءً على فاعلية النص الرئيس في القرآن: لا إكراه في الدين)، وفسر ابن عباس قوله تعالى: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم) 65 / الأنعام ، " أي الأئمة المفسدون، والرعاع المقربون منهم، بسبب الطغيان.
21- كان العرب على أخلاق الفطرة، والبداوة السياسية والدينية، بحيث يفتخرون بأن الجبابرة تسجد لصبيانهم، فقال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً.........أبينا أن نُقِرَّ الذلَّ فيــــنا.
وكان العرب بدو وحضر يأنفون التسلط عليهم، وتأسست مملكة الحيرة في العراق – ومملكة الغساسنة في الشام – ومملكة سبأ في اليمن – وإمارة كندة في نجد، وهذه الممالك كانت تابعة لفارس أو الروم أو الأحباش، تحقق من ورائها أغراضاً خاصة لحماية حدودها من فوضى العرب وتقلبات أمزجتهم، ولما قُتِل ملك كندة، حاول ولده الشاعر امرؤ القيس أن يستعيد ملك أبيه دون جدوى، لأن العرب لا تقر بالسيادة عليهم؛ التي يعتبرونها سيادة كل فرد فيهم صغيراً أم كبيراً، وهذا أعلى درجة في الشعور بالحرية، وحاول عثمان بن الحويرث الشاعر القرشي الداهية، أن يقنع ملك الروم القيصر، أن ينصبه ملكاً على أهل مكة قبل الإسلام، فأقر له ذلك، ولما أخبر قومه " قريش" بذلك وخوَّفهم من قطع تجارتهم في بلاده الشام، كادوا أن يقبلوا منه ذلك على غير عادتهم في الأنفة من أن يملكهم أحد، فصاح ابن عمه الأسود بن المطلب على مسمع قومه: يا لعباد الله! ملك بتهامة؟! فانحاشوا عنه وانفضت قريش عن هذا الأمر فلم يتم، والسبب في ذلك كما نعلم ثقافة العرب حينها المبنية على الاعتزاز بالنفس، والحرية الفردية، وعدم قبول سيادة أحد على أحد، إلا في المكارم، وهذه هي الفطرة والبداوة الأصلية للعرب.
22- حاول ابن مروان أن يأخذ البيعة ليزيد بن معاوية من أهل المدينة، بإشارة من معاوية رضي الله عنه، وقال عن ذلك: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: " سنة هرقل وقيصر" ( صححه الألباني)، وزاد ابن رجب الحنبلي الأمر توضيحاً فقال: " الإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده" (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، وفي رواية أبي بكرة عن رؤيا رجل لرسول الله ميزان دلي من السماء، فرجح بالرسول ثم بأبي بكر ثم بعمر، فاستاء النبي للرؤيا وقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله المُلك من يشاء" (مسند أحمد: 34/94 حسَّنه الأرناؤوط).
قال المثنى بن حارثة الشيباني حين عرض النبي عليه الإسلام في مكة يوم حجه (الجاهلي)، فقال: إني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك،...فإن شئت أن نجيرك إلا من الملوك فعلنا" (دلائل النبوة: للقاضي عبد الجبار)، - [قيل أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: " إن هذا الأمر لا يحمله إلا من أحاط به من جميع جوانبه] م. ن، ولقد تنبأ رسول الله بعدم استمرار العرب على ما تركهم عليه من شورى في الحكم، في قوله على مسمع سفينة الصحابي: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلكٌ بعد ذلك، ...قال سعيد بن جهمان: " فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شرِّ الملوك" (الترمذي: 4/73 صححه الألباني).
23- ويرى ابن خلدون: أن الجور يكون في الحكم الملكي غالباً، وأن العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية، ...وكان قرع الطبول والنفخ في الأبواق [مستنكراً أول الإسلام] حتى انقلبت الخلافة مُلكاً وخالطوا الموالي من الفرس والروم فاستحسنوه" (المقدمة: 320). وكان يراه كما هو عند ابن تيمية ثلاثة: خليفة أمير- خليفة مَلِك – مَلِك، قال ابن تيمية: " الفرق بين الإمام، وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام؛ لا يخفى إلا على الطغام" (منهاج السنة: 1/556)، وفي قصة مهاجري الحبشة وعدم سجودهم لملكها، وتحريض عمرو وعمارة إياه عليهم بهذا، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، مع أن عمرو وعمارة العربيان سجدوا له مسايرة ومجاراة، وهذا له دلالته العميقة على صلابة القيم الإسلامية، مهما كانت الظروف.
لم ينشأ الإسلام من فراغ، بل هو تتمة لما فعله عشرات الأنبياء قبله، فجاء للإكمال والإتمام، حتى أنه لم يناقض كل ما عند العرب من قيم صالحة، فقال النبي: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (مسند أحمد: 14/513 صحيح)، وقال: " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، ....فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (البخاري ومسلم)، ولقد امتدح النبي عدالة النجاشي ملك الحبشة، وامتدح حلف الفضول في الجاهلية، وقال: " لو دعيت به في الإسلام لأجبت" (البدر المنير والشرح الكبير: 7/325)، ولهذا تحاكم القيم الإنسانية كافة إلى قيم الإسلام، أو عدم المعارضة لها.
24- عندما تحول الحكم في الدولة الإسلامية من شورى وراشدية، إلى ملك وكسروية، كان بتأثير توسع الفتوحات ونقل تراث الأمم وترجمته إلى العربية، ومنها تراث الدولة الساسانية الفارسية، فعن الصولي: حدثنا شادي المغني قال: كنت عند الوزير العباسي القاسم بن عبيد الله وهو يشرب، فقرأ عليه ابن فراس من عهد أردشير فأعجبه، فقال له ابن فراس: هذا والله – وأومأ إليَّ- أحسن من بقرة هؤلاء وآل عمرانهم، وجعلا يتضاحكان" (الذهبي: سير أعلام النبلاء)، مع أن دستور روما كان أقرب إلى الإسلام من عهد أردشير، وفيه: " كل من يحاول أن ينصِّب نفسه ملكاً يجوز قتله من غير محاكمة، وكل من يحاول أن يتولى منصباً عاماً من غير رضاء الشعب يعاقب بالإعدام" (قصة الحضارة: وِل ديورانت: 9/35)، وهذا يذكرنا بقول عمر: " من تأمَّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه" (رواه: ابن سعد بسند صحيح: ابن حجر: فتح الباري: 7/68).
وأقر مؤلف كتاب التاج – المنسوب إلى الجاحظ- اعتماد المسلمين على التراث الساساني، فقال: " وعنهم أخذنا قوانين المُلْك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية" (التاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ)، ويُرجِع المسعودي هذا التأثير إلى عهد هشام بن عبد الملك بن مروان (71-125هـ)، حين تُرجِم له كتاباً فارسياً فيه تاريخ ملوكهم، وعوائد حكمهم، لمدة أربعمائة وثلاث وثلاثون سنة، ونقل إلى العربية سنة 113هـ، وأول ملوكهم فيه أردشير" (التنبيه والإشراف للمسعودي: 92)، واعترف المسعودي بغزارة ما نقله من الحضارة الفارسية في شتى ميادين الحياة الدينية والدنيوية، في الجزء السابع من كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر" وأخطر ما في تراثهم الذي اخترق الثقافة الإسلامية في الصميم، هو عهد أردشير الذي قارنه أحد وزراء العباسيين وفضله على سورة البقرة وآل عمران.
25- لكن هذا التأثر لم يستطع أن يزيل المنهج القرآني والنبوي والراشدي من عقول أبناء الأمة كافة، علماء وغير علماء، وبقي في ضميرهم وثقافتهم النظرية على الأقل، في حنين دائم لعودة الشورى والراشدية وتطبيقها على أرض الواقع، نقل عن أبي حامد الغزالي قوله: " السلطان الظالم عليه أن يُكفَّ عن ولايته، وهو إما معزول، أو واجب العزل... وهو على التحقيق ليس بسلطان" ( الإحياء: 2/140)، كما نقل عنه العكس: " السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة، وعسُر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه ووجبت الطاعة له" (الإحياء)، وعلل ذلك بقوله: " الضرورات تبيح المحظورات، وقال ابن حجر: " الخروج بالسيف على أئمة الجور...مذهب للسلف قديمٌ، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه" (تهذيب التهذيب/ لابن حجر: 2/288)، وكان ابن تيمية أعمق فهما للمسألة حين قال: " إن الظالم يَظلمُ، فيُبتَلَى الناس بفتنة تُصيبُ من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه يزول سبب الفتنة" (منهاج السنة: 3/323).
26- الشورى تتصدر قيم البناء السياسي، والشريعة تتصدر قيم الأداء السياسي، بدون توفر هذين الشرطين، لا يمكن أن نتحدث عن دولة إسلامية وهوية إسلامية، ولتحصين هوية الدولة ومرجعيتها، لا بد من النص في الدستور على منع سنِّ أي قانون يناقض الإسلام، أو الإسلام المصدر الوحيد للتشريع، أو المصدر الأساسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى يزداد وعي العرب والمسلمين بضرورة التشبث بالقيم السياسية الإسلامية النصية، وفي أعماق ضميرهم الفردي والجمعي النموذج التطبيقي النبوي والراشدي لها، وقد جرب المتنكرون لها – كمال أتاتورك ، والحبيب بورقيبة – نماذج دولة علمانية لم تكن سوى تطرف علماني قهري فشل فشلاً ذريعاً، فخابت جهودهما في هذا السبيل، وهذا ما أكده برهان غليون كذلك، من استحالة الدولة العلمانية في العالم الإسلامي، وأكده الكاتب التركي " أحمد كورو" من أن الديمقراطية في تركيا أدت إلى الرجوع إلى الأصول وإلى الإسلام، وأن العلمانية في بلاد الإسلام لا تقف على رجليها دون قهر عسكري، أو وصاية استعمارية خارجية، والقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم...لم تستطع المسيحية أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنساناً، ولكن محمداً ظلَّ إنساناً فقط "علي عزت بيغوفيتش" الإسلام بين الشرق والغرب.
27- يخبرنا الكواكبي: يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة البديل المناسب، ومعرفة الغاية شرط للقيام بالعمل، ومعرفة الطريق الموصل إليه شرط نجاحه، ولا يكفي المعرفة الاجمالية، فلا بد من التفصيل والخطط الواضحة، التي يوافق عليها الغالبية العظمى من الناس، وإفهام العوام ما ينبغي معرفته من ذلك، لأنهم القاعدة العريضة التي تساند الثورة، ولو استغرق ذلك سنوات وسنوات، ولا يكفي أن تعرفه وتعيه النخبة فقط، وإلا كان الفشل حليف كل المراحل، ولا ينبغي إثارة المستبد قبل نضج الظروف المواتية، أو يستغلها عدو خارجي فيسهل عليه احتلال البلاد وأسرها من جديد، والخشية كبيرة من أعداء الأمة – أمريكا والغرب وروسيا- الدخول على خط الثورات لإبادة أطرافها جميعاً لصالح مصالحهم الخاصة.
ذكر "حسن حنفي": أن جل رواد الفكر العلماني في العالم العربي مسيحيون من نصارى الشام، الذين تربوا في مدارس إرساليات تبشيرية وأجنبية، يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، لكن حنفي يؤكد أن طبيعة الحكم الإسلامي علماني، ولهذا لا يحتاج إلى علمانية مستوردة من الغرب، طالما أن قيمه تحقق مطالب العلمانيين في التقدم والحرية، مع المحافظة على الخصوصية الإسلامية القيمية، التي تحفظ للمسلمين هويتهم المنشودة، وبهذا يمكننا أن نحقق مطالب الفريقين دون إلغاء أحدهما الآخر، وذلك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومقاصدها الكلية التي تحفظ حقوق الإنسان وكرامته.
وأوضح الجابري أن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات جدوى في الإسلام، لأنه لا توجد فيه كنيسة ولا رجال دين بالمعنى الغربي والمسيحي، لذا فإن المسألة العلمانية في عالمنا العربي مزيفة، لأصالة القيم السياسية في القرآن من العهد المكي الذي نزلت فيه سورة الشورى، والشريعة مليئة بالنصوص السياسية المؤسسة لقيم بناء الدولة في القرآن والسنة، ولكن إجراءات التطبيق هي التي لم تحددها الشريعة، لأنها من مهام الناس والمجتهدين حسب درجة التطور الاجتماعي الذي يصلون إليه في مراحل تاريخهم واجتماعهم البشري والإنساني، ويرى الجابري التخلص من شعار العلمانية لدينا، لما يحمله من دلالات سلبية في العقل الجمعي الإسلامي، فضلاً عن كونه محمَّل بدلالات غربية ليست على مقاس ثقافتنا وبيئتنا وظروف بلادنا وهويتنا.
28- قال رشيد رضا: " لم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء المسلمين من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الدستوري المعاصر، كما وضعوا المطولات من الكتب الشرعية في الأحكام، ولو وضعوا كتاباً معززاً بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة للشورى والخلافة لما وقعنا فيما وقعنا فيه اليوم" (الخلافة: لرشيد رضا/148)، وقال ستيفن سميث: " حاول المؤسسون الأميركيون أن يحققوا بالأفعال ما حاول أفلاطون تحقيقه قبلهم بألفي عام بالأقوال" (مصدر إنجليزي).
وكلما زادت مساحة الحرية في بلد كلما زاد ذكر الإسلام في دستورها، واختزال الإسلام في عدد من مواد الدساتير يعتبر إخلالاً مخلاً بقيم الإسلام السياسية وعظمتها، والسلفيون المعادون للديمقراطية، ليس لديهم فقه دستوري يميزون به بين القيم الدستورية الكبرى التي تكفل للأمة ممارسة حقها في تطبيق الإسلام، فتقع في فخ النكران الذي يحرمها الحق في الدفاع عن الحق الذي هو الإسلام بكليته، دون خلط بين الفقه (القوانين التفصيلية) وبين الدستور( المبادئ الكلية)، وهذا ما أدركه ابن القيم بقوله: السياسة نوعان: سياسة ظالمة تحرمها الشريعة، وسياسة عادلة تؤيدها الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها...وأن أي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له" (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 1/31)، "والمسألة ببساطة هي أن مزيداً من الديمقراطية؛ يعني مزيداً من الإسلام" نوح فيلدمان، ورومان مارتينيز " السياسة الدستورية".
29- - تعانق الديني والمدني: في فكر كلٍ من: [محمد إقبال، ومالك بن نبي، ومحمد أسد، وعلي عزت بيغوفتش]، بل أدركه ( جان جاك روسو) الفرنسي و (غوستاف لوبون )، وعبر علي عزت عن ذلك بقوله: " يؤثر الدين في العالم فقط عندما يصبح هو نفسه دنيوياً؛ من خلال دعوته للتوحيد بين العقيدة والسياسة" لأن رسالة الإسلام خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه، وأعطى محمدٌ صلى الله عليه وسلـم المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت نفسه، ولهذا الحكم على قيمة دعوة النبي ورسالته، في نوع الرجولة التي ابتدعها..." (تجديد الفكر الديني في الإسلام: 147).
لا يكفي استيراد الفكر الشوري من الآخرين، بل لا بد من غرسه في بيئتنا وتربتنا لتحويله إلى أشجار مثمرة، فكم من بذرة وضعت في تربة غير صالحة أو لم تروى بماء مناسب تذبل من جديد وتموت، ويمكننا أن نضرب لهذا مثل زراعة الأعضاء في الأجسام القابلة، وإلا فشلت عملية الزرع، قال محمد إقبال: " لا يمكن لفكرة ما أن تستحوذ على روح شعب من الشعوب، ما لم تكن – على نحو ما – مِلكاً خاصاً لهذا الشعب" (تطور الفكر الفلسفي في إيران: إقبال/81)، وتعتبر فكرة الإجماع الفقهي وسيلة لتحويلها إلى إجماع شعبي للأمة في اختيار الطريق السديد للنهضة الإسلامية الحديثة، كما يمكن تحويل مفهوم الاجتهاد من عمل الفقهاء، إلى عمل جميع المختصين، كلٌ في اختصاصه المفيد لجميع الأمة، ولأسلمة دولنا لا ينبغي تكييف الإسلام مع الديمقراطية، بل تكييف الديمقراطية مع الإسلام، وليس البحث عن مكانة للشريعة في الدستور، بل البحث عن مكانة الدستور في الشريعة، بالبحث عن القيم السياسية في القرآن والسنة، وترجمتها إلى مواد دستورية، والبحث عن شكل الإجراءات الإدارية الخادمة لها.
30- أدرك الملك البريطاني وليام وزوجته ماري، عبر الثورات الأوربية، فأقرا وثيقة الحقوق الدستورية التي تنص على: حرية التعبير+ العدل في التقاضي+ تمثيل الشعب ببرلمان منتخب+ منع الملك من سن قانون أو ضريبة لا يقرها البرلمان، فانتقلت بريطانيا من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية، فحقنت الدماء، وحل الاستقرار، وربح الحاكم والمحكوم، وهذا فيه عبرة للحاضر والمستقبل.
وأخطأ السلطان عبد الحميد الثاني حينما عبر عن ضرر الديمقراطية في شعبه فقال: " الأتراك الشباب قوم خياليون، فإعلان الدستور، وتشكيل حكومة نيابية في بلادنا؛ يعني حدوث الفوضى، وانقسام الناس شيَعاً وأحزاباً يقاتل بعضها بعضاً، ويؤدي بالدولة إلى خراب" (مذكراتي السياسية/ للسلطان عبد الحميد: 105)، فأدى إلى سقوط حكمه نتيجة الاستبداد، فركب الفاسدون وأعداء الديمقراطية الموجة، بدلاً من أن يركبها هو وبشكل فيه صدق وإخلاص، والعهد النبوي والراشدي والمنهج القرآني هو الدليل والمرجع، ثراء النصوص الإسلامية في مجال القيم السياسية، وفقر تاريخنا في التطبيق والإجراءات العملية لها، يدفعنا اليوم إلى إثبات المقولة الأولى بالعودة إلى المرجعيات النصية، والانفتاح على غيرنا ممن له باع طويل في تطبيقها عبر التاريخ والحاضر، خاصة إذا كانت تجارب الأمم في هذا المجال ثرية، ويمكننا أن نفصل بين مجال الحريات السياسية في الغرب التي لا تتعارض مع قيمنا، وبين الحريات الاجتماعية التي لا تتوافق مع منظومتنا الأخلاقية فيها، فنستثمر الأولى ونعدل في الثانية أو نرفضها.
31- ومن المفارقات لدى العلمانيين التباكي على حقوق الأقليات، ومساندة العسكر، ولا يتباكون على حقوق الأكثريات، وأنهم يكرهون الإسلام أكثر مما يحبون الحرية والمساواة، وهذه ازدواجية في المعايير وظلم غير مبرر، حتى لدى الغربيين مدعي الديمقراطية، إذا كانت لغير المسلمين شجعوا عليها، وإذا كانت للمسلمين حاربوها، قال يزيد الصايغ: " لن تولد الجمهورية الثانية في مصر إلا عندما تفكَّك جمهورية الضباط" (فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر: 29)، وكتب " لوتواك" في صحيفة نيويورك تايمز يوم 24/أغسطس/ 2013م، فيما يتعلق بالثورة السورية الحديثة، فقال: " سلحوا المتمردين كلما بدا أن الأسد سيصعد، وأوقفوا عنهم الدعم، كلما بدا أنهم سينتصرون عليه"، وأخطر مسار يحل بالثورات العربية هو مسار اليأس والقنوط من النصر والفرج والتغيير، بحلول الثقافة الجبرية والاستسلامية، وتغيير مفهومها إلى ما قاله مانديلا: " الثورة ليست مجرد ضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف" (كتاب: رحلتي من أجل الحرية/ 294).
نتائج هذه الدراسة:
جمعت هذه الدراسة بين المدرسة التأصيلية، والمدرسة التاريخية، والمدرسة الإجرائية، ونتج عنها:
1- البرهنة على ثراء توفر القيم السياسية في نصوص الوحي والشريعة الإسلامية.
2- تعرض تطبيق القيم السياسية الإسلامية إلى تأثرها بالفراغ السياسي العربي قبل الإسلام، والحضارات الوثنية الأمبراطورية المجاورة في فارس والروم.
3-لا زال الضمير الإسلامي يتطلع إلى التطبيق النزيه للقيم السياسية كما في العهد النبوي والراشدي.
4-استئناف المنهج الراشدي في الحكم يوجب الخروج من فقه الضرورات وهواجس الفتنة، إلى ترجمة القيم السياسية عملياً ونظرياً بشكل إجرائي وإداري منظم يناسب قيم الإسلام والعصر.
5- حكمت هذه الدراسة أربع مسارات متقابلة ثنائية: (القيم، والإجراءات) – (الوحدة، والشرعية) – (الفوضى، أو الطغيان)، - (الذات والهوية، والآخر المخالف)، ويضاف إليها ثنائية: (الفتنة، والثورة) – (والدين، والدولة )– (والإمبراطورية، والدولة الحديثة).
انتهى التلخيص.


محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الوهن والجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(2): خلاصة " النظام السياسي الإسلامي لأ. د. منير حميد البياتي:
1- الدولة القانونية: لا تكون قانونية إلا إذا خضعت الهيئات الحاكمة لقواعد القانون التي تكسبها المشروعية والشرعية" وسلطة الحاكم ليست ذاتية له، بل هي سلطة القانون الذي يخضع هو له، ويمنحه هذه السلطة بقيودها"، والدستور أساس دولة القانون، لأنه ينظم السلطة: التشريعية + التنفيذية + القضائية، والإسلام أسس دولة القانون، في الظروف الدولية التي ولدت في الجزيرة العربية أول دولة قانونية بمعيار العصر الحديث، أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلـم، تتمثل فيها:
أولاً- (1): الدستور، (2): تدرج القواعد القانونية، (3): خضوع الإدارة للقانون، (4): الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية، مع كامل الضمانات للفصل بين السلطات الثلاث.
ثانياً- قام رسول الله ص بالتصرف بمواقع وأحوال ووظائف متعددة: (1): النبي المبلغ عن الوحي، (2): الحاكم المتصرف بالمدينة وما حولها، (3): القاضي في فض المنازعات، والحكم بالعقوبات، (4): رب الأسرة مع أهله، (5): الفرد العادي بين الناس، وبهذا كانت دولته أول دولة قانونية في التاريخ.
2- مصادر الدستور الإسلامي: 1): القرآن: في كثير من آياته، 2): السنة: في كثير من أحاديثها، 3): وبنود وثيقة المدينة، 4) الإجماع: الذي وقع من الصحابة في العهد الراشدي، وغيره إلى عهد سقوط الخلافة العثمانية، واليوم ينوب عنه إنشاء مجمع فقهي إسلامي عالمي، له وسائل اتصال ودورات انعقاد لتحقيق هذا الغرض، (على غرار بعض المنظمات الدولية النزيهة) م. ن،
5): الاجتهاد: من قبل ولي الأمر، أو المختص، أو المدارس الفقهية واجتهاداتها، مرفقاً بالدليل.
3- أهداف نظام الحكم الإسلامي: ذكر بعض الفقهاء مقاصد التشريع الفقهي والدستوري، الحفاظ على القواعد والمقاصد الخمسة: حفظ الدين + حفظ النفس + حفظ العقل + حفظ النسل + حفظ المال، وجعلها بعضهم في 47 مادة دستورية لتحقيقها، وجعلها ابن عاشور التونسي: 1- الفطرة، 2- السماحة، 3- المساواة، 4- الحرية، 5- علل ومقاصد الأحكام في كل باب.
وأراها أنا: (عبد الله الفقير): " 1- جعل السيادة في الأرض لله وشريعته، 2- معرفة الله وعبادته وحده، 3- التأكيد على أن كرامة الإنسان منحة ربانية، 4- إقامة العدل بين الناس بالإحسان، 5- تحقيق السعادة الحقيقية في التزام الشريعة الحنيفية"، قال عمر رضي الله عنه: " أيما عامل لي ظلم فبلغني مظلمته، فلم أغيرها فأنا ظلمته".
4- الأساس الفكري للحقوق والحريات في الإسلام: التكريم الإلهي للإنسان، (ولقد كرمنا بني آدم)، لإيصاله إلى حرية وإتقان عبادة الله الواحد، على أن يكون هناك توازن بين حقوق الأفراد، وحقوق السلطات، لتحقيق هذا فلا يطغى الفرد على الجماعة، ولا الجماعة على الفرد، ولهذا شرعت كفالة الدولة والمجتمع لأفراده: لحديث: " إيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله" قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)، من خلال ما يأتي: أ) الحث على العمل والكسب، ب) إعانة الدولة لغير القادرين، ج) كفالة العاجز والأرملة، د) الزكاة وما فوقها للمحتاجين، وهذا نص عليه في الإعلان الدستوري الأول في العهد النبوي: " وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم، أن يعطوه بالمعروف، من فداء أو عقل" والمُفرَح: المحتاج المثقل.
5- ضمانات تحقيق الدولة القانونية: بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: 1) السلطة التشريعية، 2) السلطة التنفيذية، 3) السلطة القضائية + الشورى والتناصح، وصرح في تفسير الطبري عن ابن عطية: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، وعلق القرطبي على ذلك بقوله: هذا ما لا خلاف فيه"، ومن ينوب عن الناس والأمة بالنيابة والوكالة هم: النقباء كما في يوم بيعة العقبة الثانية، (الاثنا عشر) فكانوا كفلاء اثنا وسبعون رجلاً وامرأتان من الأنصار، وكان يمثل الأوس والخزرج في المدينة سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، واختار عمر ستة من أهل الشورى، نواباً عن الأمة لاختيار خليفة بعد موته، والدلالة على هذه الوظيفة ومشروعيتها، القرآن، والسنة، والإجماع، ومفهوم الفرض الكفائي، ولهم تسميات: أهل الاختيار، وأهل الاجتهاد، وأولو الأمر، وأهل الحل والعقد، والعلماء والأمراء، وسماهم ابن خلدون (أهل العصبة)، الذين لهم تاثير على الناس، ومن وراءهم، في السمع والطاعة، أما علماء الشريعة حصراً فهم أهل الفتوى، وذلك يجعلهم قسمان:
أ) شورى الفقهاء: للمسائل الشرعية. ب) شورى النقباء: للمسائل السياسية.
6- والشورى الانتخابية اليوم ضرورة: سداً للذرائع، وتحقيقاً لتمثيل جميع شرائح المجتمع، ويتم اختيارهم بالانتخابات العامة، والخاصة، حسب الأصول الدستورية، والقانونية، المتفق عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم عن غزوة مؤتة: " إن أصيب الثالث: فليرتضي المسلمون رجلاً منهم" الماوردي في الأحكام السلطانية، ص13، وابن سعد في الطبقات، 2/128، وقال عمر بن الخطاب، قبل موته بساعة لأبي طلحة: " يا أبا طلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار، مع هؤلاء النفر - أصحاب الشورى- فلا تتركهم يمضي اليوم الثالث، حتى يؤمروا أحدهم" طبقات ابن سعد: 3/61، وهذا ترتيب من عمر وتخطيط لحماية أهل الشورى ومن يختاروه أميراً، (فن إدارة الأزمة).
7- ثمرات الشورى: 1) اشراك الأمة في سلطة من اختارته، 2) منع استبداد الحاكم وطغيانه، 3) تأليف القلوب حول القيادة ومنع الثورات، 4) تجنب خطأ القرارات، والوصول لأفضلها، ومنهجية مجلس الشورى: الاعتماد على تحقيق مقاصد الكتاب، والسنة، والشريعة، في التيسير على الناس (إن الحكم إلا لله)، وحال الاختلاف: يتم الترجيح بالأكثرية في حال عدم الاجماع، وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلـم حينما سأله عليٌ عن معنى العزم في الآية (فإذا عزمت فتوكل على الله)، فقال: " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" وقول النبي ص لأبي بكر وعمر: " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" وقوله ص: " اتبعوا السواد الأعظم" الترمذي.
8- التحكيم: وسابقته: تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة، وتحكيم عمر بن الخطاب بعد مشاورة الصحابة، عشرة من حكماء الأنصار- في مسألة منع توزيع أرض سواد العراق على الجند، وجعل خراجها لكل الأمة والأجيال- فوافقوه فأمضى قراره بذلك، والتحكيم يعتبر جزءً من القانون العام في كثير من المعاملات، ولجنة التحكيم المتضمنة قضاة وخبراء، تستند عادة إلى الكتاب والسنة والدستور والقوانين المرعية والإدارية ذات الصلة، وللحاكم رأي لأن المسؤولية على عاتقه، إلا إذا لم يجد من يوافقه ويؤيده، فليجأ للتحكيم.
9- الإمامة والخلافة تتم بالبيعة الرضائية: على شرط الحكم بالكتاب والسنة، والطاعة للإمام في المنشط والمكره، وتسميتها إمارة وأمير، أو خلافة وخليفة، وكل ذلك بعقد وتوكيل من الأمة، وبمسمى الولاية، وردت كلمة البيعة في القرآن (يبايعونك)، وفي السنة "من بايع أميراً..." والإجماع، كما فعل الصحابة في الخلافة الراشدية، وتجوز فيها النيابة والتوكيل، لأنها عقد، فتكون لأهل الحل والعقد والنقباء.
10- الأمة صاحبة الحق بالتولية والاختيار:
1): القرآن يخاطب المسلمين جميعاً بواجبات لا نفاذ لها إلا بوحدة كلمتهم، وهذا لا تحقق له إلا بوجود أمير يقودهم لتحقيقها، يختاروه بإرادتهم، بضوابط (القوة – والأمانة)، (القوي الأمين)، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) و (خير أمة أخرجت للناس - لتكونوا شهداء على الناس – وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) .
2): أحاديث بيعة العقبة، وبيعة الشجرة، والرجوع إلى العرفاء يوم حنين، واختيار أمير لجيش مؤتة بعد مقتل الثالث، فاختاروا خالد بن الوليد، واختيار أمير السفر من ثلاثة، " وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" حيث انتخبوا أميراً عليهم كلما قضى أمير، في العهود الأربعة.
3): الإجماع: في عهد الخلفاء الراشدين، يوم السقيفة، واقتراح أبي بكر بتولية عمر وموافقتهم، ومجلس شورى الستة يوم طعن عمر، فاختاروا عثمان، وتولية علي ومبايعته في المسجد بعد مقتل عثمان، رضي الله عنهم.
11- حدود سلطات الحاكم: مقيدة بما يلي: أ- القيام بحراسة الدين وسياسة الدنيا، ب- يلتزم بما يلزم الأمة به (وإن لم يؤمن أذاه خُلِع) عند ابن حزم، ج- جعل كلمة الله هي العليا (عند ابن تيمية)، د- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (عند ابن قيم الجوزية)، هـ- جلب المصالح ودرء المفاسد (عند العز ابن عبد السلام)، و- حمل الكافة على مقتضى الشرع (عند ابن خلدون)، ز- حفظ البيضة وإقامة الحدود وتحقيق المصالح (عند الشهرستاني والنسفي)، جمع الكلمة على أحد وجوه ما يجوز اجتهاداً (حسب المصلحة) قال أبوبكر الصديق: في قوله تعالى: (عليكم أنفسكم..)، قال النبي: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" البيهقي، وحديث: " ..ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق.." النووي، رياض الصالحين.
12- محاسبة الحاكم: ويرى ابن حزم وغيره: محاسبة الحاكم إن أساء بحكم الشرع، وهو رأي عمر بن الخطاب: في قوله: " فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن حنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه، قال: لا، القتل أنكل لمن بعده" (تاريخ ابن الأثير: ج:3/20)، وبعض المخالفات يكتفى بعقابه، وبعضها يعزل، ويعزل عند الماوردي بجرح عدالته، أو نقص في بدنه، والشافعي يرى عزله بالفسق والفجور، وكذا كل قاضٍ وأمير، وعند الباقلاني: يُخلَع بالكفر وترك الصلاة، وعند الرازي: الظالمون غير مؤتمنون، وقال الغزالي: " السلطان الظالم معزول، أو واجب العزل" الإحياء: 2/111، بالشروط الموضوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يجر إلى ما هو أكبر، ويمكن تحديد مدة الولاية ببنود البيعة فتصبح شرطاً ملزماً.
13- اختيار ممثلي الأمة: بالانتخاب من قبل الأمة، أو شرائح الأمة، بدلالة القرآن: (وأمرهم شورى بينهم)، والسنة: (نقباء بيعة العقبة، وعرفاء يوم حنين)، والاجماع: (بتمثيل مجلس شورى الستة) بعد طعن عمر، لتحقيق مقصد الشارع في إيجاد أهل الحل والعقد، لتحقيق الخلافة والاستخلاف، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، طبق في العهد النبوي فكان تشريعاً، وفي العهد الراشدي فكان إجماعاً.
14- واجب الأمة مراقبة الحاكم:
1): لأن أصل السلطة منها، فلها الحق في مراقبة الوكيل عنها.
2): لأن الولاية عقد بيعة، فمن حق المبايِع مراقبة تصرف المبايَع للتأكد من شروط الإلتزام.
3):الأمة مسؤولة أمام الله، ومراقبة وكيلها لدفع وتحمل هذه المسؤولية أمامه تعالى.
4): واجب الأمة النصح والتناصح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشمل نصح الحاكم وما تكفل بالقيام به عن الأمة، والتي هي مبررات وجوده وتنصيبه، (الباقلاني)، التمهيد: 185، وحديث السفينة، الذي شبه النبي به الأمة بركابها، إذا أخذوا على يد من يريد خرقها، نجت ونجو جميعاَ.
15- حق الأمة في عزل الحاكم: إذا عطل شرع الله، وخالف القانون الإسلامي، وأصر على ذلك، بسحب الثقة منه عن طريق ممثلي الأمة، (مجلس الشورى) وإذا كان ذلك مما يعد كفراً بواحاً جاز الثورة عليه وإسقاطه من قبل الأمة، وأن عزله واجب، وفصل ذلك في عشرات المراجع الشرعية، لأن من له حق تنصيبه له حق عزله كذلك.
انتهى.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(3): خلاصة كتاب حقوق الإنسان في الإسلام لد. عبد الله الحامد
1- قال " ول ديورنت: " الحضارة لا ينشؤها إلا شعب لا يعرف الخوف" لكن شرط أن يعرفوا من أين وكيف يبدأ الإصلاح؟ وكما قال فالتير: " ما رأيت شيئاً يسوق الناس إلى الحرية بعنف مثل الطغيان" وعلى الأمة أن تتحول من حكم الوصي على الأمة إلى حكم الوكيل عنها.
2- قال ابن القيم: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم والمصالح، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه (اعلام الموقعين: ¾).
3- إذا كان الطواف والانحناء حول الأضرحة من الشرك، فإن الطواف والانحناء حول الظلمة الفاسدين وقصورهم ليس أقل شركاً وإثماً ومفسدة، وبين الشاطبي أن المقصد من وضع الشريعة: " إخراج المكلف من داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً " وحفظ الحقوق الكلية الخمسة، وبها يصلح العمران، وإهمالها يؤدي إلى خراب العمران (كما بينه ابن خلدون).
4- وحديث: " أطع الأمير ولو ضرب ظهرك وسلب مالك" برواية مسلم منقطعة الإسناد، ومخالفة للقواعد الشرعية المقاصدية، وعليه يكون الاستشهاد المطلق بها تحريف الكلم عن مواضعه وسياقه، وقال المحدثون الثقات: " ليس كل ما صح سنداً يصح متناً" وسموه حديث شاذ، أو أنه من المتشابه، لأن الأخذ به تعطيل لعشرات الأدلة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهدم لمقاصد الشريعة.
5- الذي يهدر كرامة الإنسان، شر من الوحش الذي يفترسه: وتنازل الإنسان عن كرامته وحريته، تنازل عن آدميته إلى الدرك الحيواني، (إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً عظيماً) وكذلك حرمة التجسس عليه، والسخرية منه، والكرامة الإنسانية من الله، وهدرها من غير قضاء نزيه ظلم وفساد وعدوان، والناس سواسية أمام الشريعة والحقوق.
6- الدين الذي يتوعد من يعذب هرة، لا يبيح تعذيب واستعباد أبناء أمة حرة: قال ابن تيمية: " لا تسوغ العقوبة بالشبهة" عن عائشة رض أن رسول الله ص قال: " ...فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ بالعقوبة" (الترمذي)، وأن لا يسجن دون حكم قضائي، عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق، وحكم الأئمة المضلين"، (الدارمي، وصححه الألباني) قال محمد بن عبد الوهاب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله" (فتح المجيد/390) .
7- النبي صلى الله عليه وسلـم يخبرنا بان الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم الذين هم ورثة الأنبياء، والظلمة يضعون القيود الحديدية في أيديهم وأرجلهم، ثم يأتي علماء السوء فيمدحون هؤلاء الظلمة، لأنهم خالفوا الله ورسوله في إهانة علماء الحق والصدق، المجاهرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والناصحين لعامة المسلمين وأئمتهم، لا لشيء سوى أنهم ساووا بين الصلاة والعدل والشورى، ولم يتعظوا من سلفهم الصالح، ولا من خلفهم الأمريكي " جون كيندي حين قال: " كل دولة تجعل التغيير السلمي مستحيلاً، تجعل التغيير الثوري حتمياً" ، ولا قضاء عادل من غير حكم عادل، له مشروعية شرعية من الأمة.
8- الجهر بالحق: قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: إن صاحب الأرض إذا عجز عن زراعة أرضه لفقره، دفع له من بيت المال ليعمل ويشتغل بأرضه" قال الشافعي في الأم: " كل عين ظاهرة كنفط...أو كبريت، غير ملك لأحد، فليس لأحد أن يحتجزها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنحها لنفسه، ولا لخاص من الناس، ....وإلا كان ظالماً " ويقول الكاساني الحنفي في الصنائع: " وأرض الملح...والنفط ونحوها من ما لا يستغني عنها المسلمون، لا يجوز للإمام أن يعطيها أحداً لأنها حق لعامة المسلمين، وفي الإقطاع إبطال لحقهم، وهذا لا يجوز". ويقول ابن قدامة الحنبلي في المغني: " المعادن التي ينتابها الناس وينتفعون بها من غير مئونة، كالملح والكبريت والنفط والياقوت وأشباه ذلك، لا يجوز احتجازها دون المسلمين، لأن فيه ضرراً بهم وتضييقاً عليهم".
9- النزاهة والعدل: قال عمر: " والله الذي لا اله إلا هو، ما أحد إلا وله في هذا المال حق، وما أحد أحق به من احد، وما أنا فيه إلا كأحدهم ، ...، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو في مكانه قبل أن يحمر وجهه"، ورحم الله الإمام أبا حنيفة النعمان ما افقهه وأنبهه، فقد أرسل إليه المنصور الإمام مالا فرده، فاستدعاه وسأله لم رده فقال: "ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته، ولو وصلني بذلك لقبلته، إنما وصلني من بيت مال المسلمين، ولا حق لي به".
10- ولى عمر بن الخطاب أحد الولاة على أحد الأقاليم، وحاور الوالي وهو يودعه قبل سفره: فقال له: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال اقطع يده ، قال عمر: إذن إن جاءني منهم جائع أو عاطل، فسوف أقطع يدك، إن الله سبحانه استخلفنا على عباده، لنسد جوعتهم ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعمة من الله ، أقمنا عليهم حدود الله كفاء شكرها".
11- التعلم والتقليد: قال تعالى: ( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )آل عمران:87 ، وبناء على تلك القاعدة قرر ابن حزم أن للدولة –الإسلامية- أن تجبر الأزواج على الإذن لزوجاتهم بالتعلم، ولقاء من يعلمهن إن عجز أزواجهن عن التعليم ( الأحكام : 5/142)، وقال الأصولي أبو زيد الدبوسي الحنفي، المتوفي سنة 430هـ (في كتاب تقويم الأدلة) "أصل التقليد باطل، لأن الله رد على الكفرة احتجاجهم بإتباع الآباء من غير نظر واستدلال، والمقلد في حاصل أمره يلحق نفسه بالبهائم في إتباع الأولاد والأمهات في مناهجها بدون تمييز، وكان الناس في الصدر الأول - أعني الصحابة والتابعين والصالحين - رضوان الله عليهم يبنون أمرهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله ما يصح بالحجة".
وقال الإمام القرافي المالكي " ان مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد، " وذهب إلى ذلك كثير من الشافعية كالإمام الغزالي إذ قال في المستصفى: " إن القادر على تحصيل العلم ينبغي أن يطلب الحق بنفسه، فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير"، وذهب إلى ذلك أيضاً معظم الحنابلة، وعلى رأسهم ابن القيم (في إعلام الموقعين)، وقال ابن تيمية: " إن العلوم المفضولة، إذا زاحمت العلوم الفاضلة وأضعفتها، فإنها تحرم".
12- استقلالية المسلم: روى حذيفة بن اليمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا" ( خرجه الترمذي والمنذري وحسناه).
13- الانحراف المدمر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ستة لعنتهم، ولعنهم الله وكل نبي مجاب، الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت؛ ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك السنة " ( رواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير, ويربو فيها الصغير [ ويتخذها الناس سنة], إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة, قالوا: ومتى ذاك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم, وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم, وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم, والتمست الدنيا بعمل الآخرة, وتفقه لغير الدين"! (صححه الألباني موقوفا)، ومن ذلك الحوار بين الرسول المصطفى و(كعب بن عجرة) أحد صحابته الكرام: قال الرسول: أعاذك الله من إمارة السفهاء، سأله الصحابي: وما إمارة السفهاء؟ قال الرسول: أمراء يكذبون بعدي، لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولن يردوا علي حوضي (رواه المنذري وصححه الألباني).
14- الذين نجحوا في إقامة دولاً قوية فترة من الفترات، ومرحلة من المراحل – في حضارتنا- لم يقيموا دولاً شورية مؤصلة، يتعاقب على ترسيخ مبادئها الأجيال، جيلاً بعد جيل، فكانت دول أشخاص أو أسر حاكمة، سرعان ما تتفكك وتضمحل، وتتحول إلى ما سبقها، دولاً استبدادية شر مما سبقها.
15- علماء ودعاة تيار الإصلاح التربوي والاجتماعي: المستسلم للفراعنة، محاولاً الإصلاح عبر جمعيات مدرسية فكرية أو دعوية، تتأقلم مع الظلم، وتسايره في كثير من منظوماته، ويتعرض للقمع بين الفينة والأخرى، فيهدم الطغاة في أسابيع ما بناه هؤلاء الدعاة في سنوات، ولهذا نحن بحاجة إلى تجديد فقه الوسائل، بحيث تجتنب أخطاء السابقين، ويؤصل للحلول السلمية، لأنها تنشر الفكر السليم والثقافة الشرعية الصحيحة في باب الإصلاح السياسي والاجتماعي، دون أن يلجا الدعاة إلى الانبطاح للظلمة، ولا إشهار السلاح في وجوههم، لأن كلا الأمرين مدمِّر، ولا يحقق الغرض المنشود، ولا يتوافق مع أحكام الشرع الحنيف.
16- أساس مشكلة تردي الأمة:
1):غياب نظام الحكم الشوري عن الأمة الموصوفة بخير أمة أخرجت للناس، وضعفها، والهزائم التي حلت بها عبر العصور، مما رسخ دولة الاستبداد، وجعل الشريعة شريعة الرعية، لا شريعة الراعي، فشطر حياة الأمة إلى نصفين غير متساويين، لا في الحقوق ولا في الواجبات، وأصبحت الأمة قطيع متوارث، تنتقل ملكيته من مستبد إلى آخر، دون عقد ولا بيعة، لا على الكتاب والسنة، ولا على دستور مدني تضعه الأمة ليحكمها هذا المستبد على ضوئه وبنوده، هو وأتباعه وأولاده وأسرته.
2): فقه التبرير، والاضطرار، وسد الذرائع، الذي أصبح فقهاً أصولياً راسخاً، ولم يعد فقهاً استثنائياً كما هي حقيقته، بسبب طول الزمن والاستمرار وعموم البلوى، مما نحى القواعد الأصلية المستخلصة من النصوص الثابتة في هذا الباب، وأصبحت القيود المقترنة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مبطلة لفاعلية هذا الواجب الاحتسابي، خاصة أن الظالم لا يريد أن يكون في الأمة من يسأله ويحاسبه، طالما أنه يعتبر أن هذا المنصب حصل عليه بقوته وجبروته وعصبته، والآخرون لا يملكون شيئاً من هذا.
3): غياب حلف الفضول: وهو ما يتعلق بإقامة مؤسسات متخصصة لمنع المظالم، في حال نالت الأمة حقها الشرعي في القوامة، مع مراعاة اختلاف الظروف والوسائل والممكنات، من عصر لآخر، خاصة أننا في عصر مات فيه فرعون وأغرقه الله منذ زمن بعيد، واليوم التحكم الاستبدادي في الأمة لا يقتصر على ظالم وفرعون محلي، بل هو يمتد، ليحقق ويخدم الإمبريالية العالمية، والهيمنة الأطلسية، لطلاب التداعي على قصعتنا المقسمة بين أمم لصوصية غربية كثيرة، تنهش في أجسادنا، وتشوه هويتنا وثقافتنا، وتنهب ثروات بلادنا.
4): الاستشهاد المغلوط: يغمض فقهاؤنا الصالحون عن القاعدة الذهبية الرئيسة، التي تنطق بوجوب أن يكون بين الأمة وحاكمها الشرعي المنتخب شورياً، عقد بيعة شرعية، يعترف بها بقوامة الأمة عليه، والدليل عليها منطوق الكتاب والسنة في عشرات الأدلة الشرعية المحكمة، ولي عنق النصوص ببعض النصوص الأخرى إنما هو ضرب الشريعة بالشريعة لمن لا يفقه مدلولاتها، أو لأن اختلاف الزمن يجعل صعوبة في مقارنة ظالم قديم ملتزم نوعاً ما بالشريعة ومدافع عن بيضتها، واليوم لا يقارن بما سبق في أي وجه من الوجوه، وهذه الأدلة يمكننا أن نقرأها اليوم بطريقة مختلفة تناسب عصرنا وسعة شريعتنا الغراء من مثل حديث: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبوكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنوكم، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة"، وكأن العدالة في الإسلام أقل منزلة من الصلاة! ومثل " ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً عن طاعة" ( رواه مسلم )، مع أن مفهوم إقامة الصلاة في القرآن، (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فإذا لم ينته الظالم عن الفحشاء والمنكر، ما أقام الصلاة على وجهها، وهل هناك أفحش من سرقة الأمة وأسْرِها، والاستبداد بها، بل وبيعها لأعدائها من أجل عرض من الدنيا قليل، يخص شخص أو فئة أو أسرة، فهذا النص يُسْتَنطق في كل عصر بشكل مختلف، وفهم أمثال هذه النصوص ينبغي أن يكون بمصباح القرآن والسنة، وزجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة الأمة والبيئة، وحديث: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم"، وليس تسلط شرار الأمة على الأمة هو الحاصل بهذه الفتاوى، بل تسلط الأمم الأخرى من كل أطراف الأرض ومللهم ونحلهم على أمتنا؛ التي أراد الله لها أن تكون خير أمة، فنتائج هذا النكوص من علماء الأمة وأخيارها نتائج مدمرة وقاتلة وماحقة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
17- قال البغدادي في أصول الدين: " إذا زاغ الخليفة عن الحق؛ كانت الأمة رقيبة عليه، في العدول عن خطئه إلى الصواب، أو في العدول عنه لغيره ، وسبيلهم معه كسبيله مع خلفائه وقضائه وعماله، إن زاغوا عن سنة، عدل بينهم، أو عدل عنهم ". قال تعالى: ( ولولا رهطك لرجمناك) مبيناً أثر الرهط والتكتل في مقاومة الشر والانحراف، مستخدمين الوسائل السلمية الكثيرة المتوفرة في الأمر بالمعروف السياسي، والنهي عن المنكر السياسي، لتنشيط الرأي العام وحفزه على المطالبة بحقوقه، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " (متفق عليه).
18- النضال الشرعي: بالتضحية لا بالأدعية يزول الطغيان، هل الشريعة التي أقرت حقوق الحيوان، أغفلت حقوق المسلم والإنسان؟ حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" (رواه الترمذي)، ويؤكده حديث: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"، ولهذا حذر القرآن من التقصير في هذا التناصح بقوله تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، ويؤكده حديث: " كقوم استهموا في سفينة ، فاخذ بعضهم أعلاها ، وأخذ بعضهم أدناها ، فلو تصرف أحدهم فيما أقام عليه بما يضر ركاب السفينة أجمعين ، ولم يأخذوا عليه هلكوا جميعاً، ولو أخذوا على يديه؛ لنجوا جميعاً".
19- الظلم يزال: نصرة المظلوم من الأخلاق الإنسانية الفطرية، وأكدتها الشرائع السماوية، وأصبحت من قواعد الشريعة الإسلامية، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ذكر منها "نصرة المظلوم" (متفق عليه)، وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف انصره ؟ قال تحجزه أو تمنعه عن الظلم فان ذلك نصره " ( رواه البخاري )، و قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا: " ما من مسلم يخذل امرءاً مسلماً، في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص من عرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه عرضه، وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته " (رواه البخاري والترمذي )، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لتأخذُن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض " (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه)، أليس على العالم الصالح أن يعرف أسباب شيوع الكفر والزندقة، فيقف أمامه ويدرأ ما استطاع انتشاره وانتشارها! هؤلاء الذين يهاجمون الشيوعية والعلمانية، ويكتبون في بطلان مقولاتها، - وهم مصيبون – هلا كتبوا في مشروع دولة الحكم الشوري، ومنهاج النبوة والراشدية في الحكم الصالح؟ وبينوا للأمة فوائدها وحاجة الأمة اليوم إلى النهوض عن طريق هذا المنهج، كما نجح السلف الصالح من الرعيل الأول بها، فانتشر الإسلام والخير والفضيلة شرقاً وغرباً، إن الدفاع عن حقوق الأمة فريضة، تفوق نوافل الصيام والقيام والصدقة.
20- الجهر بالحق يعز الأمة: روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: يرى أن عليه مقالاً، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك إن تقول فيَّ كذا وكذا، فيقول خشية الناس فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى " ( رواه ابن ماجه )، وكما قال تعالى "فلا تخشوهم واخشون إن كنتم مؤمنين".
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(4): خلاصة كتاب " تطور الفكر السياسي السني" خير الدين يوجه سوي
1- طبيعة الفكر السياسي في الإسلام: يقوم على التوحيد، والعدالة، والمساواة، والحرية، والشورى، والجهاد، في إطار جماعة واحدة وأمة متحدة، وروعي في اجتماع السقيفة لاختيار خليفة الرسول، مزيج العرف العربي القبلي، والمفاهيم الإسلامية، وبويع الخليفة من قبل بعض النقباء، وتمت بعدها البيعة العامة في المسجد لكل الناس.
2- مهام الخليفة: تطبيق الأحكام بعدالة، وتنظيم الجهاد ضد الأعداء، وحراسة دار الإسلام، والصلاة بالمسلمين، وقسمة الفيء بينهم، وهي مهام سياسية وعسكرية، وما عدا ذلك فهو فرد من المسلمين، له حقوقه وعليه واجباته، واعترف في خطبة عقد البيعة بحق الأمة عليه في النصح والتقويم، وواجبها في النصرة والمؤازرة، والحكم بينه وبينها، (كتاب الله، وسنة رسوله).
3- غلبة القبلية على الراشدية: قال عمر: " يا معشر العرب، الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة.." (أرنولد الدعوة ص63)، وعندما توقفت موجة الجهاد والفتوح، في النصف الثاني من عهد عثمان، التفتت القبائل والطامحين؛ إلى إشغال الناس بالتأمر وطلب الرئاسة، ومنافسة عمال الأمصار، وربما كانت الفتنة ومقتل عثمان بسبب الصراع بين مفاهيم الراشدية ومفاهيم القبلية، ( ونشوء جيل جديد، وغياب تطوير الشورى والعمل السياسي ، وانحصارها في قريش والعاصمة " المدينة المنورة") م. ن.
4- وقامت الخلافة الأموية على أنقاض نهاية الخلافة الراشدية: على يد معاوية ابن أبي سفيان، الذي استطاع أن يجمع بين فكرة الإسلامية، والعصبية القبلية، بحيث تحد كل منهما الأخرى في أن تكون سيطرتها كاملة، في مجتمع تغيرت كثير من معالمه، التي استطاع الحكم الأموي التأليف بين عناصره المؤثرة الثلاثة: الإسلامية، والقبلية، والحزبية، فتمسك بخيوطها، بحنكة ودهاء، من خلال التمكين لثلاث أمور: ولاية العهد، والمركزية، وإثبات الشرعية، أما القبائل فقد أشغلهم معاوية بفتح باب الجهاد، وتوافر غنائم الفتح بين أيديهم، فتولى قادتهم مناصب عسكرية وإدارية.
5- والمعارضين تألفهم معاوية: رضي الله عنه، بأسلوبه ومنائحه عدا الخوارج، والإسلاميين الحجازيين، فحاول أن يستميلهم، بانه يقلد أبابكر وعمر في ترشيح من يخلفهم في الحكم، لفرض ولاية العهد من بعده لابنه يزيد، وهذه كانت إشارة من الصحابي الجليل، المغيرة بن شعبة، لما شعر به من خطر انقسام المسلمين وتكرر فتنة عثمان وعلي، بعد وفاة معاوية، لكثرة المتطلعين للاستخلاف، وقد استقرت الدولة أيام معاوية، فالتقطها وعمل بمشورته، التي قبلتها القبائل، ورفضها أهل الحجاز والراشديون، بقول ابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر: " أكسروية وهرقلية في الإسلام! فدخل مفهوم التوريث والوراثة في الحكم لأول مرة في الإسلام، فأغلق باب الراشدية والشورى في تأسيس نظام الحكم في الإسلام إلى يومنا هذا.
6- لكن هذا أدى إلى رفض المعارضة تجديد مبايعة يزيد: مما دفع بعض الناس إلى تحريض الحسين على الثورة ضد يزيد، فتسبب ذلك بمقتله، كما رفض ابن الزبير مبايعة يزيد، ولما توفى أعلن انفصاله وخلافته على الحجاز والعراق واليمن، فأشعلت الحرب بين جميع المكونات، فانتصر التكتل القبلي الذي قاده مروان ابن الحكم على المكونات الإسلامية والوراثية، فتشكلت المعارضة بعدها من الخوارج والشيعة، في أنحاء العراق، ثم عاد مروان بعد التخلص من خصومه، إلى مبدأ الوراثة، فعهد بولاية العهد إلى ابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، وهو تقليد جديد دخل على التوريث، بولايتي عهد متتابعتين، وأدخل مفهوم آخر في الحكم الوراثي، هو تولية وليي عهد قاصرين، لكن هذا أثار النعرة القبلية التي لم يرضيها هذا التغيير فقتلت الخليفة الوليد بن يزيد، وولديه الحكم وعثمان، بتواطؤ من أبناء عمه، الذين لم يرضيهم فعلته، خاصة أن يزيد بن الوليد رفع من جديد شعار " الشورى، والعدالة، واتباع الكتاب والسنة، وتوزيع الفيء" لكن حين حضرته الوفاة، أشير عليه بالعهد لأخيه إبراهيم، ولعبد العزيز بن عبد الملك من بعده، تخوفاً من الفتنة والصراعات، لكن هذا لم يعجب الفرقاء، الأمويين والقبائل، فلم تستقر الأمور لهما، فثاروا عليهما فخلعوا إبراهيم وقتلوا عبد العزيز، فجاء بعدهما مروان بثورة قبلية، مما أضعف مبدأ التوريث من جديد، وجعل مبدا القبلية والعصبية لها هي الداعم الأكبر للحكم في الدولة الإسلامية.
7- لكن الصفات الشخصية للخليفة: كان لها تأثير في التفاف القبائل والقوى حوله، حتى في الفترة الأموية: " كالسابقة، والأخلاق، والعلم، والفضل، والتقوى، والخبرة، والسياسة، والنسب، وحسن الإدارة، وهذا جعل الأمويين يحاولوا الموازنة بين العوامل الثلاثة المؤثرة في الحكم واستقراره، الإسلامية، والقبلية، والوراثة.
8- إلغاء الشورى وتجاوز أحكام العدالة الإسلامية: دفع الناس إلى ثورات متعددة منها: ثورات الخوارج، والحسين، وابن الزبير، وحركة التوابين، والمختار، وثورة المطرف بن المغيرة بن شعبة/العراق (77هـ) وثورة ابن الأشعث /العراق – التي شارك فيها بعض الفقهاء (82هـ) فدفع الأمويين إلى سيطرة المركز على الحجاز والعراق بالقوة، لكن فشلوا بسبب التجاذبات بين العناصر الثلاثة.
9- حاول عمر بن عبد العزيز: في فترة حكمه المواءمة بين الشورى الإسلامية الراشدية (العدالة، والمساواة، وتقريب الفقهاء، وتنظيم الخراج، وإنصاف المستضعفين)، فنجح في تسكين المعارضات، لكن قِصَر خلافته لم تمكنه من ترسيخ هذا المنهج بشكل مؤسسي دائم، فانتهى بوفاته، وحاول بعض خلفائه أن يسير ببعض سيرته، إلا أن الأمور لم تمكنهم من الاستمرار في هذا المنحى، بتأثير النزاعات والتغيرات، وعدم وضوح منهج الحكم الذي يستوعب جميع المؤثرات، ويلم شمل أطراف المتغيرات، خاصة بعد دخول مؤثرات الموروث الساساني في أواخر الحكم الأموي، بالإضافة إلى ما ذكرنا عن التأثير القبلي، مما دفع الفقهاء إلى تسمية فترة حكمهم (بالملك الدنيوي)، واستخدم الأمويون المبررات الشرعية وإرادة الله الجبرية في تطويع الناس وطلب طاعتهم لهم واستسلامهم لحكمهم، وأخيراً سقط الأمويون لأنهم لم يستطيعوا إرضاء القبائل، ولا إرضاء المعارضة، ولا إرضاء الإسلاميين، ولم يطوروا أجهزة أو إدارة قادرة على استيعاب المتغيرات لتطبيق نظام الحكم الإسلامي الراشدي، فأسقطهم العباسيون.
10- الخلافة العباسية: قامت إثر دعوة منظمة انتهت بثورة معارضة للأمويين، على أساس إسلامي، (العمل بالكتاب والسنة) والمساواة والعدالة، وإرجاع الحق لأهله، ونشر مظالم الأمويين، ونشروا روايات الرايات السود، فحققت الدعوة نجاحاً في المشرق، بعد اضطرابات متعددة في الشرق وخراسان، حتى أن بعض هذه المناطق ضربت نقوداً باسمها قبل الثورة للدلالة على استقلالها عن المركز الأموي، وكان للجيش الخراساني المكون من الموالي والعرب دور كبير في نجاح الثورة، استطاع العباسيون بقيادة أبي العباس أن يستوعب قوى الثورة المكونة من إسلاميين، وموالي، وقبائل في دولته التي أعلن أنه خليفتها، وأنه سيعمل على تطبيق الكتاب والسنة، وإعادة حقوق أهل بيت النبوة، وإشراك غير العرب في الحكم، لتحقيق المساواة، وأعلنوا أن ثورتهم هي لمحاربة الجور والظلم، وأنهم الأقرب إلى نسب النبوة التي أذهب الله الرجس عنهم، ورفع قدرهم.
11- التأثير الساساني على الحكم: اشتراك الموالي والفرس في الثورة العباسية دفع الخلفاء إلى الوفاء بتعدهم بالخروج من العصبية للعرب والعروبة، فوظفوا كثيراً من هؤلاء (كتاب، ووزراء، وقادة) في مناصب رسمية، أدخلت الفكر الساساني إلى أنظمة الحكم وأعرافه، لتحجيم القبلية، إلا أن الخلفاء حين شعروا بالخطر من هؤلاء تخلصوا منهم كما حدث مع ( أبي مسلم الخراساني- والبرامكة – وبني سهل)، لكن العباسيين لم يستطيعوا كسلفهم الأمويين من وضع قاعدة متينة في الحكم تضمن لهم الاستقرار الدائم، وما فعلوه من الاعتماد على جند الموالي، كان سبباً في نكستهم وإضعاف سلطتهم.
12- التيار الراشدي الإسلامي الفقهي: كان بين خيارين: التمسك بالشورى ومؤداها في ظروف الفتنة تمرد القبائل والأطراف على مركزية وسلطة الخلافة وحصول فوضى عارمة تخرج عن حد السيطرة، وتقضي على هيبة الدولة المتمثلة بمفهوم الخليفة والخلافة، أو التنازل عن مفهوم الشورى، والقبول بمعاوية خليفة متمكن من الشام وعصبته، بحنكة ودهاء، فانحاز الحسين والصحابة إلى معاوية، رغبة بجمع الكلمة ووحدة الصف، فسمي (عام الجماعة).
13- وكما رفضت فكرة الأميرين معاً: في سقيفة بني ساعدة، ورفضها " محمد بن الحنفية" في مبايعة ابن الزبير، مع وجود عبد الملك بن مروان، حتى قتل ابن الزبير، فبايع عبد الملك، لأن الأحاديث تقول ذلك، على شرط الشورى والاختيار، قال أبو يوسف في كتاب الخراج، حديث: " من بايع إماماً وأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر" (ص/82).
14- الشورى هي الأسلوب: الذي اعتمد لاختيار الخليفة في العهد الراشدي، وهو المبدأ الأساسي في نظام الحكم في الإسلام، وجميع الفقهاء كانوا يرون ذلك، وإن خضعوا للتسليم بغيرها اضطراراً، درءاً للفتنة، لكن لم يكن لهذا المبدأ صورة واحدة للتطبيق، وكل الثورات التي خرجت على الحكام، كان شعارها الشورى، والعدل، وإجماع الأمة على الخليفة، - ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وابن الحنفية، والشافعي، - قال الشافعي: " من غلب على الخلافة بالسيف حتى سُمِّي خليفة، واجتمع الناس عليه، فهو خليفة إذا كان من قريش، يُغزى معه، ويُصلى خلفه الجمعة، ومن لم يفعل فهو مبتدع" (البيهقي/مناقب:448).
15- صفات الخليفة الضرورية: صاحب العلم، والتقوى، والسيرة الحسنة، والأفضل اقتداراً، والقرشية، ولقد رفض سعيد ابن المسيب، والحسن البصري، ولاية العهد، لأنها مخالفة للشورى، بينما أقرها الفقهاء في العهد العباسي، رضوخاً للأمر الواقع، وحفاظاً على شرعية منصب الخلافة، وكتب الفقهاء كثيراً في وجوب الطاعة لولي الأمر، وأضرار الخروج وما يحدثه من فتنة وسفك الدماء، وضياع الأموال، ومع ذلك أكدوا على وجوب تقيد الخلفاء بأوامر الدين وقيمه.
16- عزل الإمام: لكن الفقهاء لم يدرسوا عزل الخليفة، بشكل جدي، وكل ما ركزوا عليه هو الطاعة والالتزام، ويروي التفتازاني عن الشافعي أنه يرى أن الخليفة الفاسق الجائر ينعزل، كما ينعزل القاضي الفاسق" ويعلق التفتازاني: " عن الشافعي رضي الله عنه، أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاضٍ وأمير" بينما في كتب الشافعية أن القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، لأن في عزله فتنة، وله شوكة، بخلاف القاضي" (التفتازاني/ شرح العقائد النسفية: 181).
17- نتيجة الاتصال بالتراث اليوناني: اكتسب الفقهاء في القرن الأول والثاني، دعم العامة والرأي العام، وأصبح لهم نفوذ لا يستهان به في العصر العباسي، مما أثار مخاوف الخلفاء العباسيين، من عهد المنصور، فحاولوا مأسسة القضاء والفقهاء، فأبى كثير من الفقهاء هذا الأمر، وحدث صراع قوي بين الفقهاء والخلفاء عهد المأمون، حتى أن الفقهاء امتحنوا، لمعرفة آرائهم ووجهات نظرهم، واستمال المأمون المعتزلة لما رأى حيادهم، ليكونوا في مواجهة الفقهاء، وعوناً له ضد الزنادقة، وحاول تولية ولاية العهد " علي بن موسى الرضا" ليرضي أكثر من جهة، (المعتزلة- والزيدية- والشيعة- والعامة)، ولما بدأ المأمون في فرض فكرة مسألة " خلق القرآن" قاومها الفقهاء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، ولكن الفقهاء استمروا في تأييد طاعة الخليفة، وإباء شق صف الأمة بالخروج عليه، لكن استقلال الفقهاء، أضعف الخلافة، فظهرت قوى جديدة من الجند والعجم، تتحكم بالخلافة والسياسة.
18- كتب الجاحظ رسالة إلى " فتح بن خاقان": سماها مناقب الترك، شبيهة برسالة ابن المقفع، التي ذكر فيها ميول أهل (البصرة: العثمانية) وأهل (الكوفة: العلوية) وأهل (الشام: الأموية)، وأهل (الجزيرة والحجاز: الخارجية) وأهل (خراسان: الشيعية)، و(الترك: العباسية)، وعمل الفقهاء على توحيد ولاء وصف هؤلاء جميعاً للالتفاف حول رمزية الخليفة، بمبادئ مثالية بعيدة عن الواقع، مما أضعف تأثيرها مع الزمن، وطرحت أفكار سياسية المضمون، شرعية القالب، مثل احترام وتقدير الصحابة، وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين، والرد على نصية منصب الإمامة، وجواز التحكيم.
19- تفوق المعتزلة على الفقهاء: في إفحام الخصوم من الخوارج والشيعة والزنادقة، إلا أن الفقهاء ارتقوا في جدالهم من خلال الأشاعرة وعلى رأسهم "أبو الحسن الأشعري" وتوحد صف الفقهاء في تقديم الخلفاء الراشدين حسب توليهم، والسكوت عما شجر بينهم، واعتبار أخطاء وحرب الصحابة اجتهاد يؤجروا عليه بأجر، ولا ذنب عليهم فيما أخطأوا فيه، وكثير من أهل الحديث: (البخاري- ومسلم- وابن ماجة- وأبي داود- والترمذي) ذكروا صحابة النبي بخير، وفضائل معاوية، وذم الخوارج، وإن كان البعض تحفظ على بعض أعمال علي وخلافته، وكان أبرز المتكلمين الذين ساندوا الفقهاء بحجج مقنعة عن شرعية الخلفاء الراشدين وفضائل الصحابة جميعاً " أبو الحسن الأشعري" ووافقه الطحاوي، والماتريدي، فنصروا السنة على الشيعة والخوارج والمعتزلة.
20- تبلور وتأكد مفهوم التمسك (بالكتاب والسنة والإجماع): لمنح الشرعية للخلافة، ولهذا قال الفقهاء: " الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً" (أحمد/البيهقي/ أبو داود/ الترمذي/ الأشعري: الإبانة 259) ولكن هذا لم يمنع من منح الشرعية للخلفاء الأمويين والعباسيين وإن بتوصيف أقل مثالية، لأنهم التزموا بواجبات الإمام المسلم: من جهاد، وصلاة، وحفظ بيضة، وتطبيق الشرع، وإقامة الحدود... والحياد عموماً تجاه الفقهاء والقضاة.
21- بدأ التأثير اليوناني والساساني في مفاهيم الحكم: والسلطة والخلافة، مع ترجمة " يوحنا بن البطريق" كتاب " السياسة في تدبير الرياسة" المعروف بسر الأسرار، عن اليونانية، وكتاب قدامة بن جعفر" الخراج وصناعة الكتابة" ومن بعدهما كتابات الفارابي، وكلها تبين السلطة المطلقة للخليفة، وأن أعوانه، ليسوا سوى عينه ويده ولسانه، الذي ينفذ مراده، وهو اتجاه استبدادي في العموم، لأنه لغة العصر في كل الدول المحيطة بالخلافة الإسلامية، وفي كثير منه ثقافة ساسانية، أما الفارابي فجعلها قيم المدينة الفاضلة لأفلاطون، مطعمة ببعض المفاهيم الإسلامية، لكن الغالب على أفكاره أنها أفكار كونية ومجردة، وربما باطنية، من الفلسفة والباطنية.
22- فقهاء السنة رأوا في الإمامة تحقيق لأحكام الدين: واجتناب الفتنة، ودرء العدو، وإقامة العدالة، وتوزيع الفيء، وإجماع الصحابة على تولية أبي بكر ومن بعده، ورأى الجاحظ إمكان خلو الأمة من إمام، حال تسلط (جند الباغي المتغلب) ودلالة وجوبها، (النص – العقل – الإجماع)، وعند المعتزلة وجوبها العقلي، لتحقيق مصالح، ودفع مضار، ورأى الأشعري وجوبها بالسمع، فقال: " الإمامة شريعة من الشرائع، بالسمع والعقل، وعند الماتريدي كذلك، لاتفاق الصحابة عليها، ولما طرح الشيعة مسألة تعيين الإمام بالنص، واجه الفقهاء والمعتزلة هذا بأن الإمامة اختيار وشورى، لدحض فكرة الإمامة عند الشيعة، وأصبح سلاحاً لمقاومة الاستبداد الأموي والعباسي، لكن الفقهاء ساندوا الخلفاء العباسيين، في مواجهة الفكر الشيعي، بإجازة حكم المتغلب، على أن يحكم (بالكتاب والسنة)، وكان للمعتزلة دوراً في دحض فكرة أن الإمام يكون بالنص، وناصروا الخلفاء العباسيين، ضد التشيع والزندقة، كما في كتاب " العثمانية" للجاحظ، لكن بعض المحدثين رووا أحاديث تشير إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، إشارة لا جزم فيها، ولا عزم، لأن الذي يفوقهما وضوحاً هي أدلة الاختيار والشورى، خاصة عند المعتزلة والأشعرية، وحصرها الفقهاء بحصول إجماع الأمة على الإمام.
23- وبسبب الخلط بين نماذج المرحلة: المثالية (العهد الراشدي) والمرحلة الواقعية، (العهد الأموي والعباسي)، أخذ الفقهاء من الأولى بعض ظواهرها ليجعلوها الأساس؛ الذي تقوم عليه الفترة العباسية، ويصبح الاستثناء قاعدة معتبرة، وتحظى بالشرعية، وهذا مجرد تبرير، له ظروفه الداعية إلى مقاومة الفكر الشيعي، والفكر الخارجي، والاتجاه الشعوبي، الذي يترصد انهيار الخلافة لتحقيق مآرب عنصرية وفئوية ومذهبية، فاحتجوا بالتوريث استناداً إلى تولية أبي بكر الخلافة لعمر – مع أنه ترشيح وليس تولية- ولهذا أجاز الشافعي تغلب المأمون على أخيه الأمين، بعد استقرار الخلافة له، ومثله موقف الإمام أحمد كذلك، احتجاجاً بقول ابن عمر، حين صلى بأهل المدينة يوم الحرة، وقال: " نحن مع من غلب".
24- أهل الحل والعقد وصفاتهم: تحولت إلى فكرة رئيسة في قضية عقد البيعة، وترشيح ولي الأمر- فكرة مركزية في الأمة والمجتمع واختيار الإمام، حتى أن الجاحظ اعتبر عقد البيعة من شؤون الخاصة (أهل الحل والعقد) دون العامة، وعمد بعض المعتزلة وآخرون إلى القبول ببيعة الواحد لآخر إذا رضيت الأمة، أو تم الاجماع والاجتماع عليه، ليكون خليفة شرعياً، وهذا من باب سد ذرائع الفوضى أو انهيار الدولة، ولم ينس الفقهاء من ترداد الشروط الأخلاقية والعلمية المؤهلة لاستخلاف ولي الأمر، مع علمهم بعدم توافرها إلا بصورة نسبية، كأنه تغطية على الشروط المثالية غير المتوفرة في الخليفة بسبب غياب الاختيار الحر، وانحصاره بالقوة والغلبة والأسرة المتحكمة، وتحول أهل الاختيار إلى أصحاب الشوكة عند الإمام الغزالي، (الاقتصاد في الاعتقاد: 149).
25- العاصمة تقرر اختيار الإمام: وعند الجبائي (معتزلي) استقرار التقليد بأن العاصمة تقرر اختيار الإمام، وإن لم يوجد فيها بحث عنه في مدن أخرى الأقرب منها، وبيعة الأول هي المعتبرة في حال التعدد، ورأى آخرون القرعة بينهما، أو يطلب اعتزال أحدهما، ورأى البعض جواز تعدد الإمامة في ديار الإسلام، إذا فقد الإمام سيطرته على أرجاء الخلافة، على أن يكونوا متعاونين فيما بينهم على البر والتقوى، وكان هذا كأمر واقع، في فترة الضعف الشديد للخلافة والخليفة، مع اعتراض الغالبية على هذه الفتوى، بأحاديث وحدة الأمة والكلمة، وتعددت الآراء في اشتراط القرشية، وتعددت في تولية المفضول مع وجود الأفضل، كما تعددت في جواز ولاية العهد ورفضها، كما اختلفوا في صفات ولي الأمر المعتبرة، كما تعددت الآراء في اعتبار بيعة عثمان وولايته الثانية، وولاية علي.
26- عوامل التأثير في الفكر السياسي: الإسلامي ثلاثة: 1- الأصول الإسلامية: (كتاب وسنة )، 2- الأصول التاريخية: التجارب الواقعية والخبرة، (الراشدية – الأموية – العباسية) والإجماع، 3- الأصول العملية: الناتجة عن علاقة الفقهاء بالخلفاء، والأحزاب المعارضة، وظهرت آثار هذه العلاقة في كثير من كتب الفقه والتفسير والحديث، أما المعتزلة فلقد ظهرت وتميزت آراؤهم عن غيرهم لما اتقنوه من علم الكلام، ولما تحلوا به من الحياد والابتعاد عن الخلفاء أول أمرهم، وعبر عن موقفهم كلٌ من الجبائي وأبو الحسن الأشعري، والماتريدي، وظهرت بعض الآراء السياسية في كتب: (الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، والأموال لابن زنجويه، ومسند الإمام أحمد، وكتب الحديث)، واتخاذ الفقهاء المرحلة الراشدية وقيمها وتطبيقاتها النموذج الشرعي الذي ينبغي أن يحتذى على الدوام، وإن لم يكن يتم تطبيقه على الدوام، سوى في حالات استثنائية.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(5): خلاصة كتاب " غياث الأمم " للجويني (419-478هـ)
1- من أقوال الإمام الجويني: " الإمام القائم بالحق الواجب، على الخلق طاعته" .
واشترط لتولية الإمام اتصافه بالنجدة، وفسرها تلميذه أبي حامد الغزالي: " المراد بالنجدة: ظهور الشوكة، وموفور العدة، والاستظهار بالجنود، وعقد الألوية والبنود، والاستسكان (أظنه يقصد الاستقرار ) بتظافر الأشياع والاتباع، من قمع البغاة والطغاة، ومجاهدة الكفرة والعتاة، وتطفئة ثائرة الفتن، وحسم مولِّد المحن؛ قبل أن يستظهر شررها وينتشر ضررها". وقال الجويني: " الإمامة ليست من قواعد العقائد، ومعظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة" أي سبيلها الاجتهاد، " وأن عقد الإمامة هو اختيار الإمام؛ من أهل الحل والعقد، وهم الأفاضل: المستقلون الذين حنكتهم التجارب، وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، والبيعة تصير بحصول عدد من الأتباع والأنصار والأشياع، يحصل به شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة"، كما فعل الصحابة حينما اختاروا أبا بكر وعمر.
2- وقال: " عمَّ من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تَصوُّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها (الخوف على الرواتب والمناصب)، وانسل عن لجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها، وكثر انتماء القراء إلى الظلمة واختلاطها، فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة! فقد جاء أشراطها".
3- صفات أهل الحل والعقد:
لا دليل معتبر على التحقق الجازم من هذا الأمر، فيبقى الاجتهاد والدليل الظني هو المقبول لهذه المسألة، واستبعد: 1- النساء، 2- والعبيد، 3- والعوام، 4- وغير المسلم، من الاختيار، واشترط البعض توفر أهلية الاجتهاد، ونفاه الباقلاني، اكتفاء بالعقل، والكيس (الفطنة)، والفضل، والبصيرة، مستدلاً باكتفاء كل صاحب اختصاص بعلم ما في اختصاصه، ومثل بالحكَم بين الزوجين، الخبير بأصول المعاشرة الزوجية، (المرشد الأسري)، ويعقب الجويني قائلاً: " من لا يوثق به في باقة بقل، كيف يُرى أهلاً للحل والعقد؟! وكيف ينفذ نصبه على أهل الشرق والغرب؟! ومن لم يتق الله لم تؤمن غوائله، ومن لم يصن نفسه لم تنفعه فضائله، ولا يشترط لعقد البيعة إجماع الجميع، والمهم حصول الشوكة بها، ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع واليقين.
4- صفات القوَّام على أهل الإسلام:
السلامة الجسدية والصحية، والقرشية خبر آحاد لا يعيق عدمها إذا تحققت الشوكة، ومن الصفات: الرجولة، والحرية، والعقل، والبلوغ، والشجاعة، والشهامة، والعلم بما يحقق الكفاية، والورع، ولا بد من الورع والتقوى: إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة؟ وكما أن الأب الفاسق لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى، لأن من لم ينهض رأيه بسياسة نفسه، فأنى يصلح خطة الإسلام، وأن يتحلى بالنجدة والكفاية، لأن مصالح الناس والدين والأمة متعلقة بهاتين الصفتين، ومن لم يتصف بها، فجميع ما فيه من المآثر تصير وسائل ووصائل إلى الشر، وطرائق إلى اجتلاب الضر
5- الطوارئ التي توجب خلع الإمام:
الجنون بالإجماع، والخبل والعته بمنزلته، و(الفسق المؤثر) الذي يحتاج إظهار أثره وخلله، والأمر مفوض إلى نظر الناظرين، واعتبار المعتبرين (أهل الحل والعقد)، وإذا أسر بفسقه ولا رجاء في قرب فكاكه، فكذلك يُخلَع، وكل سبب يحتاج في إظهار خلله إلى نظر فهو إلى الناظرين، ونعني بالنظر مزيد فكر وتدبر من أهله، يفيد العلم والقطع باختلال أمور المسلمين، بسبب ما طرأ من فسق أو خبل، والخلع إلى من إليه العقد (بصفاتهم) من غير إجماع؛ إلا أن الحاجة قد ترهق إلى الخلع، ونعم لا بد في الخلع والعقد من اعتبار الشوكة، وعقد الإمامة لازم لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه.
6- ولو عين الإمام من ليس على شرائط الإمامة (ولياً له) ولم يكن في حالة التولية على استجماع الصفات المرعية، فالوجه بطلان التولية من جهة أنه أساء في الاختيار، والغرض من العهد تنجيز نظر وكفاية للمسلمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلـم: " بعد أن ولى ثلاثة على جيش مؤتة، فإن أصيب الثالث، فليرتضي المسلمون رجلاً منهم" ( )، وإذا استناب في حياته نائباً، وفوض إليه وسلم مقاليد الأمور كلها، وجعله مستقلاً يوكي ويعزل (بانفراد واستبداد) فهذا غير سائغ، لأن تجويزه يجعلهما إمامين وهذا ممتنع.
7- والأكفأ يقدم على الأفضل للمصلحة، لأن الأفضل من غير شوكة لا يحقق المصلحة، وهذا يتبع الظرف الذي تمر به الأمة، ففي حال الاستقرار مع الجهل والابتداع يقدم الأفقه والأعلم، وفي حال الاضطراب والتمرد يقدم العرم الأقوى حزماً وجندية، ليسوس الوقت، وفي حال ضعف سيطرة المركز على الأطراف، يجوز تنصيب نائب له، اضطراراً للمصلحة.
8- وظيفة الحاكم: تحقيق مرضاة الله بتطبيق أحكام شريعته، وتوفير بلغة من الدنيا للناس، وحجز الناس عن الفساد فيما بينهم، ومن مهامه الكبرى حفظ الدين، ومعالمه، وذلك في خرقين الأول: ما يعد كفراً وردة، والثاني: ما يعد بدعة وضلالاً، وليس عليه حمل الناس على مذهب واحد، ورأي واحد، فيما اختلف فيه العلماء والفقهاء، وأن يبث في الناس العلماء لتوعية المنحرفين، والمبتدعين، بالحكمة والموعظة، ومهمة الإمام حفظ الدين، وحسم البدع ما استطاع.
9- وما يتعلق بأصل الدين في دعوة الكافرين به إليه، مسلكان: الأول: الحجة والجدال الحسن، وإرسال العلماء إليهم، على أن يكونوا لطفاء بلغاء حكماء، أما حمل الناس على أداء العبادات، فموكول إلى فقه الفقهاء، ودور الإمام إما طلب ما لم يحصل، أو حفظ ما هو حاصل، ودوره في مصارف المال وجمعه من حله، ومن مهامه تأمين الأمن والعافية، حتى يتسق أمر الدين والدنيا، وأما قتال أهل البغي فينبغي أن يسبقه حوارهم، وتلبية طلباتهم إن كانت حقاً، وإن كانت شبهات أزالها بالبيان.
10- وما يتعلق بالعقوبات فالحدود مفوضة إليه حسب ما في كتب الفقه، والقصاص لا يقام إلا إذا رفع إليه، وأما ما عدا ذلك من التعزيرات، فهي مفصلة في كتب الفقه، ومفوضة لرأي الإمام تسامحاً أو تاديباً، وفي العفو متسع، وعن عائشة رضي الله عنها: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (ر: احمد وأبو داود والنسائي)، ولا أدب في تعذيب مسلم، وتؤخذ الزكوات، وتسد بها الحاجات، فإن لم تف بها، فحق على الإمام الاغناء بهم، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين، حرِّجوا من عند آخرهم، وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات، فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أهم.
11- فصل: إذا وطئ الكفار ديار الإسلام: قام الكل بمقاتلتهم دون أذن، وإذا خيف ذلك استعد الإمام بالجنود والعتاد لدفع خوف مقدمهم، ولو شغر الزمان عن والٍ تعين على المسلمين القيام بمجاهدة الجاحدين، وإذا قام به عصب فيهم كفاية، سقط الفرض عن سائر المكلفين، إذا عدموا والياً، لأن فروض الكفايات في هذه الحالة لا ينتظر لأدائها مرجعاً وإماماً، وأغنياء كل صقع يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال، لأن المسلمين هم المخاطبون بالأحكام، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، لكنه مستناب في تنفيذها، وليس في الشريعة مغارم (مصادرة للمال) على اقتحام المآثم.
12- ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، فإذا حُمِلَ أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا من المطاولة والمصاولة، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، والإمام ذريعة في حمل الناس على الشريعة، غير أن الزمان إذا اشتمل على صالحين للإمامة، فالاختيار يقطع الشجار، ويتضمن اليقين والانحصار، والمعنى الذي يُلزم الخلق طاعة الإمام، ويلزم الإمام بمصالح الإسلام؛ أنه أيسر مسالك في إمضاء الأحكام، وقطع النزاع، والإلزام.
13- وأرى أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى من فنون القربات، من فرائض الأعيان، فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو عطل فرض من فروض الكفاية، لعم المأثم على الكافة، على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرجَ والعقاب، وأمل أفضل الثواب، ومضمون ما بلغه المرسلون، الدعوة إلى أسباب الخير، واجتناب دواعي الضير.
14- وإذا استشعر أهل الخبل والفساد، أنهم من صاحب الأمر بالمرصاد، آثروا الميل طوعاً أو كرهاً إلى مسالك الرشاد، وانتظمت أمور البلاد والعباد، وإن خلا الزمان عن إمام، وخلي عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية، فالأمور إلى علمائهم، فإن عسر جمعهم على أحدهم مع استوائهم في العلم، فالوجه عندي قطع النزاع بالإقراع، فمن خرجت له القرعة قُدِّم.
15- وإن عموم الحاجة في حقوق الناس كافة، كالضرورة المتحققة في حق الشخص المعين، ولهذا لا يكاد يخفى جواز دفع الظلمة، وإن انتهى الدفع إلى شهر الأسلحة، فإن من أجل أصول الشريعة دفع المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداء، ولو ثارت فيه زائغة عن الرشاد، وآثروا السعي في الأرض بالفساد، فإذا لم يمنعوا قهراً ولم يدفعوا قسراً، لاستمرأ الظلمة، ولتفاقم الأمر، وهذا يعني ظهوره عن الإمعان في البيان.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الجرب
(6): خلاصة كتاب " البرهان على قوامة الأمة على السلطان" د. عبد الله الحامد
1- سيادة الأمة على الحاكم: قال الإمام ابن تيمية رحمنا الله وإياه ((لا نسلًم أن يكون الإمام حافظا للشرع، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع، وحفظ الشرع يكون بمجموع الأمة (ابن تيمية: منهاج السنة 6/457).
2- الدلائل على مسؤولية الأمة: 1) مخاطبة القرآن الأمة – 2) خطاب المؤمنون [وردت أكثر من 100 مرة]- 3) الأمر بطاعة الله ورسوله، 4) وحال التنازع مع ولي أمرها لفصل النزاع؛ يكون بالرجوع معاً إلى الكتاب والسنة، 5) الحاكم وكيل عن الأمة: وليس وكيلاً عليها، لأنها ليست في مقام اليتيم القاصر، ولا السفيه المحجور عليه، بل في مقام البالغ الراشد الذي يوكل من ينوب عنه في بعض أموره، بدليل ما سماه رسول الله يوم بيعة العقبة " نقباء" حين قال: للأنصار: أخرجوا لي اثني عشر نقيباً عنكم" وفي يوم حنين، سماهم " عرفاء"، 6) القاضي في الإسلام وكيل عن المتخاصمين، كما هو وكيل عن مجموع الأمة – المؤمنين وغير المؤمنين – لفض منازعاتهم، وإقامة العدالة بينهم، بقرينة أن القاضي يحكم على ولي الأمر في حال التنازع مع أحد أفراد الرعية، على ضوء الكتاب والسنة، ولهذا لا يكون القاضي نائباً عن ولي الأمر، بل نائباً عن الشرع، الذي تحرسه الأمة، 7) واللفظ القرآني بطاعة أولي الأمر منكم، توحي منكم بأنه يكون باختياركم ورضاكم، وينتمي إليكم، إلى صف المؤمنين، فلا يستقيم أن يكون منتمياً إلى غير المؤمنين، ولا مكرهاً لهم أو متعالياً عليهم، 8) مقتضى عقد البيعة، وهي غالباً مشروطة، بمقتضى العدل والشورى، تبين أن المبايعين هم أهل السيادة والأمر، الذين يوكلوا له أحد (القوي – الأمين) ليتولى مسؤوليته، 9) والخطاب القرآني بطاعة أولي الأمر التي يتقدمها طاعة الله ورسوله، جاءت بصيغة الجمع، مما يدل على أن السلطة ليست محصورة بيد أمير واحد، بل تشمل الأمير، ونوابه، ونواب الأمة، والقضاة، وممثلي المجتمع.
3- التطبيق الراشدي القويم: وعندما يشكل على الناس فقه آية أو حديث، فلابد لهم من الرجوع الى التطبيق النبوي والراشدي، قال الإمام الجويني ((فالذي عليه التعويل في الجملة والتفصيل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شهدوا وغبنا، وشهدوا عن عيان واستربنا، وكانوا قدوة الأنام وأسوة الإسلام، لا يأخذهم في الله عدل وملام "(الغياثي)، خطبة أبي بكر رضي الله عنه لما بويع يقول فيها: " فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، أليس ذلك دليلا على حق الأمة في مراقبة الحكومة، وتقييم عملها ومحاسبتها وتقويمها، وقال: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم".
4- عموم الفقهاء أن الحاكم وال ولاه الناس عليهم: وليس واليا ولاه الله تعالى. فتولية الناس إياه من باب التكليف، قال القلقشندي "لا تنعقد الإمامة إلا بعقد أهل الحل والعقد، لأن الإمامة عقد، فلا يصح إلا بعاقد، وهو ما أجمع عليه جمهور الفقهاء، وعليه اقتصر الرافعي والنووي والمعتمد عليهما (مآثر الإنافة في معالم الخلافة)، جاء في كشاف القناع وهو من أمهات كتب الفقه الحنبلي "وتصرفه [أي الإمام] على الناس بطريق الوكالة لهم، فهو وكيل المسلمين، فله عزل نفسه، ولهم [أي أهل الحل والعقد] عزله" (كشف القناع)، ولهم تسميات أخرى: [نقباء- عرفاء].
5- الإمامة والتوحيد: ركز الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمنا الله وإياه- على هذا المعنى، وأدخل طاعة الرؤساء في المنكر في عداد المسائل المخلة بالتوحيد، وعقد ذلك باباً في كتاب التوحيد، فقال: "باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحله الله، أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أرباباً"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" اتبعوا السواد الأعظم" هذا يدل على أن الأمة هي ولية أمر نفسها، وهو دليل غير صريح، والصريح قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وكلا الحديثين يبينان دور قوامة الأمة واجتماعها على الخير لتحقيق الخيرية، المذكورة في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت...) ، ومطالبات الفقهاء الأمويين بني أمية بالعدل والشورى، وقد ثبت هذا عن أكثر من خمسين فقيها.
6- الحكم والعدل: وصرح به ابن تيمية في كتاب (السياسة الشرعية): فقال: "إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة"، وقال "الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
7- صفات أهل الحل والعقد: تفسير آية الاستنباط (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم): الذين يستنبطون الأمور: هم عرفاء الأمة وحكمائها بشكل عام، وصفاتهم خمس: 1-أصحاب رأي وحنكة وبصيرة، وعلم وحسن تدبير/2-أصحاب إيثار وإخلاص للأمة3-أصحاب شجاعة متميزة/4-أصحاب نزاهة واستقامة في السلوك/5- رجال بارزون في المجتمع يمثلون اختصاصاته، وأمثال هؤلاء شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم الناس، في مسألة رد أموال هوازن وما سبي منها، فقال: " إنا لا ندري من أذن منكم من من لم يأذن، فارجعوا، حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طابت أنفسهم بذلك (انظر فتح الباري الحديث 4319)، وهم بعد ذلك نوعان: موظفون في الدولة في وظائف مدنية وعسكرية؛ أو رجال بارزون في المجتمع الأهلي، ليس لهم وظيفة محددة، او زعماء قبيلة كسعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
8- حصر أولي الأمر بالفقهاء والأمراء: يتسق مع نظرية تحديد قوامة الأمة ومرجعيتها وإجماعها، بـثنائية (الشيوخ والمشائخ) أو ثنائية (الفقهاء و الأمراء) التي اختزلت الحكمة والرأي والقيادة، في هاتين الطائفتين، وأدت تطبيقات هذه النظرية في ما بعد إلى سيطرة الأمراء على الفقهاء، واستبعاد أهل الرأي والخبرة في الإدارة والمال والسياسة والتربية، وهذا سر سقوط بغداد القديم والحديث، وضعف الدولة العربية اليوم أمام الفرنجة والعلمنة والعولمة والهيمنة والصهينة.
9- سمات الموصوفين من الصحابة بأولي الأمر: 1): البصيرة والفقه (بمعنى الذكاء)، قال ابن كيسان: "هم ألو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس" (تفسير القرطبي)، 2): التدين والورع والعدالة والاستقامة، قاله ابن عباس، 3): إيثارهم ونصحهم للأمة وسعيهم في المقاصد الأصلية للشريعة، (تفسير الثعالبي)، 4): أنهم شخصيات مستقلة من المجتمع وهم أعيانه (المجتمع المدني)، 5): ثقة الناس بهم، وهذا ما نص عليه ابن تيمية بأنهم الذين يتبعهم الناس، 6): أهل شورى النبي صلى الله عليه وسلـم، وعكرمة يقول: "هم أبو بكر وعمر" (تفسير الطبري)، من الواضح أن الآية تتحدث عن قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، في الأمور الاجتماعية، والسياسية، مع الالتزام بالرد إلى الكتاب والسنة، أو ما يهديان إلى هديهما.
10- تفسير أولى الأمر بالسلاطين: -الذين سماهم الزمخشري اللصوص- خطأ مشهور: قال الزمخشري" كيف تلزم طاعة أمراء الجور، وهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله، وعند رسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة"، للإشكالات التالية: 1): إن القول بأن الأمراء هم أولو الأمر، خطأ لغوي، لما بيناه فيما سبق.
2): أن إمام الدولة أو السلطان إنما هو شخص واحد، وأولوا الأمر جمع" وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر" (مفاتيح الغيب: الرازي)، 3): خطأ قياس ولي الأمر النائب عن الأمة، على ولي أمر القصر والأيتام، وكذلك خطأ قياسه على الحاكم، ولو صح هذا لكان على من اختير بالشورى ويشترط فيه العدل، أما ما سواه فلا وجه له في اللغة ولا في الشرع، 4): وقال الرازي في تفسيره: " وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعاً، أما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعاً، بل الأكثر أنها تكون محرمة، لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة، بحسب الظن الضعيف"، 5): الرازي في تفسيره: " الحاكم ليس هو الفيصل في النزاع بين الناس، لأن الله قال: (فردوه إلى الله والرسول) وطاعة الأمة الحاكم، ليس سندها قوامة الحاكم على الأمة، لأن الأمة هي صاحبة القوامة، وسندها إذن (التعاقد) بين الحاكم والأمة، من خلال عقد البيعة بشروطها، وهذا ما بينه الخلفاء الراشدون في خطب بيعاتهم جميعاً، وقيدُها الرئيس: " الطاعة في معروف"، وعلى العمل بالشريعة: (كتاب وسنة)، 6): قال الفخر الرازي: "لما أمر الله الرعاة والولاة بالعدل في الرعية، في قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس، أن تحكموا بالعدل)؛ أمر الرعية بطاعة الولاة، و لاحظ الشوكاني ارتباط آية الطاعة بآية العدل، لأنها جاءت بعد آية العدل، وبين الزمخشري ارتباط حقوق الحاكم بواجباته، إذ يقول: "المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور؛ الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله.
11- الفوارق بين أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم والسلاطين جوهرية: لأنه لا يقاس السلاطين المغتصبون المتغلبون على أمراء الرسول، وأبي بكر وعمر، وقال مسلمة بن عبد الملك للفقيه الشهير أبي حازم وهو يحاوره: " ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالى (وأولي الأمر منكم)؟، فقال أبو حازم: أليس قد نزعت عنكم، إذا خالفتم الحق بقوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، وقال الزمخشري: "وأمراء الجور لا يؤدون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم ،فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله، وعند رسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة" (تفسير الزمخشري).
12- تفسير (أولي الأمر) بالفقهاء: أو الأمراء، ينطوي على إشكالات أهمها تأسيس حكومة كهنوتية: كيف يأمرنا الله بطاعتهم على الإطلاق، كطاعة الرسول (ص) ومقتضى ذلك أنهم معصومون، والقرآن لا يأمر بما يفضي إلى شر، وهو صريح بأن الأمة هي الأميرة على الأمراء، وهم جزء منها، وأن لها سلطة مراقبة الأمراء والفقهاء معاً، وأنه لا يوقع عن الله إلا نبي معصوم، ولا يوقع عن الأمة في أي أمر سياسي؛ إلا من فوضته الأمة.
وموانع أن يكون أولي الأمر الفقهاء والأمراء: هي: 1): الأمر بطاعة الله ورسوله، (الكتاب والسنة)، وهم أدلاء عليهما، مجتهدين فيهما، كأي مختص في علوم الإنسان والطبيعة، وأمناء في التنازع بالرد إلى الدليل والبرهان، وليس إلى شخص أو إنسان، 2): فلو كانوا هم الأمراء، فكيف يرد التنازع إليهم، باعتبارهم الفقهاء، فيكونوا هم الخصم والحكم، وهذا متناقض، 3): تنازع الأمة مع ولاة الأمر تنازع يتجاوز الفقه إلى السياسي، وهذا لا يختص به الفقهاء، وخارج خبرتهم، إلا ما ندر، كما في كياسة العز بن عبد السلام، وأحمد بن تيمية، 4): اختلاف العلماء بين العصر الراشدي، وما يتمتعون به من جرأة ومعرفة بالشأن العام، والعصور التالية، التي حولتهم إلى أشبه بالعباد، منهم بالنقباء أو العرفاء، 5): ولاية أمر الأمة تحتاج إلى ما يشبه الاجماع، أو الفتوى الجماعية، وهذا يقوم به نقباء وعرفاء الأمة، 6): خطورة أن يعتمد على الفقهاء فقط، في الشؤون البعيدة عن اختصاصاتهم واهتماماته، 7- الأمة بمجموعها أو نوابها، هي القيمة على الحكم، وليس فرد أميراً أو فقيهاً، وإلا كما بوب محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد: " باب من أطاع الأمراء....فقد اتخذهم أرباباً" .
13- من أوَّل أولى الأمر بالفقهاء والحكام: جب بهما سلطة الأمة، فدعم الطغيان بتأويل القرآن: ويتحول الفقهاء إلى سند أمراء الزور، فلو كانوا أمراء شورى واختيار، لكان هذا أقل خطراً، لأن الشورى والاختيار، تعطي سلطة للأمة بتصويب الخطأ والمسار، بالعزل أو النصح، ولكن بالملك العضوض، يصبح الفقيه سند أمير الزور، لكونه الغى شرطي الحكم الرشيد والشرعية، بإلغاء الشورى والرضا، من خلال الإكراه، فيصبح الفقيه تابع وشرطي للحاكم، وهذا خطر على الدين، قبل أن يكون خطراً على الرعية، والتجربة التاريخية لألف سنة كافية للفهم والاعتبار، ولئلا يتحول الإسلام دين أخروي، وليه الدراويش والفقهاء، والدولة نظام دنيوي وليه المفسدون والأمراء المتغلبون (المغتصبون)، وقد نبه ابن القيم وابن تيمية إلى هذه المخاطر في كتبهما.
إن أعظم الأدلة المعاصرة على فساد مرجعية الفقهاء والأمراء، هو عادة تكرست عبر الأجيال، أن يكون آل الشيخ أعوان آل سعود، في سبيل بناء الدولة والحفاظ عليها، وأن تحصر مرجعية الأمة وإجماعها، بما يتفق عليه الأمراء ويساندهم أو يسكت عنهم الفقهاء، ولكن هذا الاحتكار أفضى إلى مفاسد شتى، في كل صعيد.
14- الأدلة على أن أولي الأمر: هم عموم أهل الرأي والتدبير: منهج فقه الكتاب والسنة، يقتضى رد المتشابه إلى الصريح، وآية الاستنباط صريحة في طاعة أهل الرأي والعلم، و(آية الطاعة) غير صريحة، لا في الحكام ولا في العلماء، فالأسلوب الصحيح أن يرد تفسيرها إلى معنى (آية الاستنباط) الصريح، ويدل على ذلك:
1): أن الأمر لغة: خلاف النهي، والشأن، والخبر، والحكم، والرأي، والأخير مستعمل في نصوص الجاهلية.
2): نص الآية أنهم " منكم" تدل على أن سلطتهم معنوية، وليس فيها علو، بل مشاركة، 3): مفهوم أهل العلم والفقه زمن الصحابة، لا يقصد به التعريف الاصطلاحي المتخصص، وإنما كان لديهم معناه أهل العقل والرأي والوعي، وعند الحسن البصري وغيره، أنهم الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، ورشاد الأمم إنما هو بطاعة الخبراء والحكماء، حسب اختصاصاتهم سواء كانت دينية أو دنيوية، مالية أو سياسية.
15- اجتماع الأمراء والفقهاء: على ما يخالف الكتاب والسنة، يبطل؛ لأنه لا إجماع ولا اجتهاد يعارض النص الصريح، وهنا يطلب من الأمة وممثليها الصدع بالحق، وعدم السكوت عن الظلم والانحراف والخيانة، وهنا يكون الصدع بالجهاد السلمي، وإذا كان التنازع فيما لا نص فيه مؤيد أو معارض، فيرد الأمر لأهل الاختصاص، لأنهم أدرى بالمصلحة، وكذلك إلى الاجتهاد والقياس، على ما يشبه الأحكام، على ضوء المقاصد الشرعية.
وحكم تقديم الأمة أهل الرأي والخبرة والعلم من ذوي المعرفة بمقاصد الشريعة في السياسة الشرعية، واجب لأن مقتضى الأمر في القرآن للوجوب، والقرينة الثانية: ربطها بصيغة تهديدية، توعدية، (إن كنتم تؤمنون ).
16- تخصص أهل الحل والعقد: حسب العقدة التي تحتاج إلى حل، فإن كانت في أمر منصوص عليه في الشريعة، فهم الفقهاء، وإن كانت اقتصادية فهم أهل الاقتصاد، وإن كانت تربوية، فهم أهل التربية، وإن كانت في التعبير عن إرادة الأمة السياسية، فهم المستقلون من أهل البصيرة السياسية المفوضون شعبياً، فإجماع الأمة من قبيل الإجماع العام، أما إجماع الفقهاء، فمن قبيل الإجماع الخاص، وهناك فرق بين الإجماعين، كما ذكر الشوكاني في (في إرشاد الفحول)، شورى الأمة ركن من أركان الإسلام العظام، لأن العدل والشورى أساس بقاء الدول والحضارات، والظلم والاستبداد سبيل فنائها.
17- فروق بين العلمانية والإسلام: 1) سلطة الأمة ملتزمة بالشريعة. 2) الوحي الصريح مقدم على الرأي. 3) عدالة المرشح ليكون نقيباً وكفايته. 4) تقديم الأئمة المتمتعين بالرأي الثاقب وحسن التدبير من العقلاء الحكماء، 5) المرجعية للخبراء على ضوء مقاصد الإسلام الكبرى، ومجلس النواب والتجمعات المدنية، هما أقرب مصطلح أهل الحل والعقد وأولى الأمر، في الدولة الإسلامية الحديثة: والمجالس البلدية المحلية صورة مصغرة للشورى الشعبية، وهي من نماذج (السلطة غير المباشرة)، وقالب ثانوي من قوالب (أهل العقد والحل) الذين هم أهل العلم والعقل والرأي (أولي الأمر)، ولكن التجمعات الأهلية المدنية هي السلطة الأساسية، التي تجسد (قوامة) الأمة على الحكومة خاصة والدولة عامة، ومجلس النواب المنتخب: يجسد بذلك كبراء القوم في المجتمع المدني الأهلي، من المتبوعين من الذين يتسمون بأصحاب العلم والحنكة والإيثار والنصح للأمة.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(7): خلاصة من " نظام الحكم في الإسلام" محمد أسد (ليبولد فايس).
1- ظهر الكتاب كرسالة: لبناء دستور إسلامي عند تأسيس دولة باكستان وانفصالها عن الهند، باللغة الإنجليزية والأردية سنة 1948م، وكان المؤلف حينها رئيساً لدائرة "إحياء النظم الإسلامية" وهي مؤسسة حكومية حديثة للدولة الناشئة، وكانت الحيرة في كتابة دستور للدولة الوليدة باكستان، وكانت هناك وجهتي نظر: إحداها: تراثية بالعودة إلى ما كانت عليه الدولة في عهود السلف كافة، تقدس الحاكم، وتعزل المرأة، ووجهة أخرى متأثرة بالغرب، تكتفي بجعل الإسلام أحد مصادر التشريع ليس أكثر، وكلاهما لا يمثلان نظام الحكم كما في القرآن والسنة.
2- لماذا نريد الدولة الإسلامية؟
إذا كنا نسلم أن كل مظاهر الحياة الطبيعية انبثقت عن إرادة إلهية، فإن القرآن يُجْمِلُ بوضوح الغاية من الخلق، وهي: تجاوب المخلوقات مع إرادة الخالق وخضوعها له، وبالنسبة للإنسان هذا الخضوع يسمى إسلاماً، مما يتطلب بداهة تكييف رغباته وسلوكه مع هذا المطلب، فمقاييس الخير والشر ثابتة في الأمر الإلهي، ومتبدلة في المفاهيم البشرية، ولهذا على الإنسان تكييف سلوكه في جميع جوانب الحياة ليكون صواباً مع إرادة الله تعالى.
3- لماذا لا نرضى بدولة علمانية؟
لأنها تستبدل الأخلاق بالمصلحة، وهذه تتناقض مع ثبات قيم الخير في الإسلام، وأن الأخلاق ليست من نتائج العلم الأوروبي، ولا في نطاقه، والدين الحق وحده يعطي الحياة البشرية المعنى، لأن الدولة التي تقوم على الدين الحق تعطي فرصة السعادة للإنسان أكثر مما تعطيه الدولة العلمانية، وبالطبع الدولة الإسلامية تجمع بين تلبية مطالب الروح والمادة معاً، شرط أن تكون معطياتها السياسية مرنة لا جمود فيها.
4- الإسلام حدد المحرمات بدقة: وأعطانا حرية الاجتهاد على ضوئها في سائر الأمور المسكوت عنها والمباحات، ومجاراتنا للغرب يطمس معالم إسلامنا، وعلينا أن ندع الاتكالية العقيمة، ونلتفت إلى بساطة وفطرية الخطاب الإسلامي في أصوله (القرآن والسنة) بصياغة واضحة ملائمة لظروفنا.
5- لا بد من التحرر من المصطلحات الغربية: أثناء عرض المبادئ والنظم الإسلامية، لأن لها تاريخ ومدلولات لا يعرفها المسلم حين يشابه بينها وبين ما يشبهها في المسيرة الإسلامية، لكن الأخطر من ذلك اتخاذ الدول الاسلامية السابقة نموذجاً لتكراره اليوم، وإن الجمود في النظام السياسي لا يتفق مع ما يتطلبه التطور الاجتماعي الواعي السليم، بما فيه أيام الخلفاء الراشدين، والسبب أن القرآن والسنة لم ينصا على شكل معين ثابت للدولة، مع أن الشكل الدستوري واضح المعالم في القرآن، يناسب الظروف المتغيرة بحسبها، وهو ما نسميه المبادئ العامة، دون التعرض للفروع التطبيقية إلا فيما يناسب هذه المبادئ لكل عصر.
6- الاقتداء بالصحابة: في الارتقاء السلوكي والوجداني والأخلاقي مطلوب، لكنه لا يعني الاقتداء التام باجتهاداتهم الفردية الظرفية، لأنها نابعة من اجتهاد أولاً، ومن ظروف ثانياً، وهذا لا ينسحب على الأمة وأفرادها في جميع الشعوب والأزمان والأحكام، لأن الوقوف على كل اجتهاداتهم يبطل مفهوم الاجتهاد ذاته، فيصبح أبدياً كأنه نص قطعي، وهو ما لم يقل به رسول الله، واجتهاداتنا الحالية – تحمل خبرات ثلاثة عشر قرناً للبشرية – قيدها الوحيد أن لا تتعارض مع النصوص القطعية، ولهذا اختلفت أساليب الخلفاء الراشدين في اختيار الحاكم المسلم من عهد وآخر من دولتهم الراشدة، طالما أن المبدأ واحد وهو الاختيار والانتخاب.
7- أهداف الدولة الإسلامية: إيجاد الجهاز السياسي الذي يحقق وحدة الأمة وتعاون أفرادها كوسيلة لتحقيق الخير والعدل، وإبطال الباطل، لخلق بيئة تتيح لمواطنيها أن يعيشوا روحياً ومادياً في توافق مع فطرة الإسلام، وشرطه ليتحقق ذلك إقامة الأخوة "إنما المؤمنون أخوة" وفي السنة: " المؤمن للمؤمن.." "والمسلم أخ المسلم"، فأبطل الإسلام التعصب للقومية والاعتبارات الأرضية، والشرط الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإتاحة أكبر فرصة أن يحظوا بالحرية والأمن والكرامة ونشدان تطوير أنفسهم والتشجيع عليه، وحماية الوطن من العدوان، ونشر رسالة الإسلام في ربوع العالم على أوسع نطاق بالحكمة والحوار البناء.
8- متى تكتسب الدولة الإسلامية الشرعية؟ في حال: 1- انفاذ الأحكام الشرعية العامة على محكوميها، 2- إضافة قوانين إدارية تحقق المطلب الأول دون أن تعارض نصاً شرعياً، 3- منح الثقة للحكومة الطائعة لله ورسوله، وسحبها إذا حادت عن ذلك، 4- حصول الحاكم على رضى الشعب عنه بالانتخاب والتعاقد، ليتحقق فيه قول الله: "منكم" وإلا فهو ليس منهم دون رضاهم، وهذا لا يكون من غير انتخاب وبيعة.
9- مصدر السيادة في الدولة: لا شك أن القيم المعنوية للدولة الإسلامية ومنها سيادتها، أثره كبير بعيد المدى في السلوك الاجتماعي، وافتقار المسلمين إلى الروح الوطنية لقرون، أدى لاضطراب القاعدة الروحية والفكرية لدولهم؛ فسَهُل عليهم قَبُول العسف من حكام مستبدين، لكن لم يعد يُسْمَح باستمرار الاستسلام السلبي للظلم، ولهذا تنادى اليوم البعض للقول بالسيادة المطلقة للشعب، لكن هذا كذلك فيه خطورة الخروج على أحكام الإسلام، في استبدال انحراف بانحراف معاكس، بينما هو في حقيقته رضا الشعب على قَبُول الإسلام كشريعة يُحكم بها، فتصبح سيادته مقيدة بالعقيدة، لأن حقيقة الملك هي لله سبحانه، فالمصدر الحقيقي لسيادة الدولة الإسلامية هو المشيئة الإلهية، وسلطة المجتمع أو الشعب أو الأمة بالوكالة، وحبلها بيد الله، والدولة نتيجة لإرادة الشعب، تخضع لإشرافه وتستمد سيادتها من الله، اذا التزمت الشرعية وتطبيق الشريعة.
10- رئيس الدولة: هدف الدولة إقامة الشريعة، ولهذا لا يمكن إلا أن يكون رئيسها مسلماً ومخلصاً، لتطبيق تعاليم الإسلام الحنيف، مع حفظ جميع حقوق الأقليات، عدا عن أن يرأسوا على المسلمين، لأن أي نظام له أيديولوجيا لا يعقل أن يضعوا (أيديولوجيتهم) في يد من لا يؤمن بها، لأن هذا أمر طبيعي ونفسي في البشر، سواء كان ديناً أو فكرة أو نظاماً، والقرآن دستورياً حدد ذلك بوضوح في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )59/النساء ، فلا يمكن أن نعرِّضَ للخطر الدولة الإسلامية بدعوى تحرر مزوَّر كاذب، والذي يُختار لهذا المنصب، الأتقى، بنص دستوري حديثي عن الرسول صلى الله عليه وسلـم، فهناك شرطان لاختيار الرئيس، هما: الإسلام، والأتقى الأكفأ، أما شروط مدة الحكم وعزل الرئيس يضعها المجتمع وممثلي الأمة في تفاصيل دستورهم.
11- مبدأ الشورى ومجلسه: وكيفية إنزال ذلك على أرض الواقع، تركها الشارع لاجتهاد المجتهدين والعلماء والأمة في كل عصر، بملاءمة روح الشريعة، وهذا تشير إليه لفظة: (وأمرهم) في القرآن (شورى بينهم)، وهذا يكون بهيئات منتخبة تمثل المجموع لهذا الغرض، (وهو نيابة التشريع)، لا بديل عن الانتخاب العام، وهي الوسيلة الوحيدة حالياً، لكن الخشية من المحسوبيات وشراء الأصوات عن طريق الأحزاب، لكن يمكن وضع بعض القيود لتعرية من يحرص على المنصب، لأن النبي  رفض تولية مثل هذا الشخص، ولكن من يحظى باحترام المجتمع له فرصة الفوز إذا أتيح له ذلك بوعي الأمة.
12- اختلاف الآراء: لا بد منه في الطبيعة البشرية، وخاصة في الأمور الاجتهادية، لكن يمكن الاحتياط للتشريعات الخطيرة بأن لا يُقبَل أقل من موافقة ثلثي المجلس، ليكون أقرب إلى الإجماع والغالبية، مع مراعاة أنه يمكن للأقلية أن تكون على صواب أحياناً، والأغلبية على خطأ، لكن لا بديل عن هذا الإجراء لقول النبي : « عليكم بالجماعة والعامة» ر. أحمد، و «اتبعوا السواد الأعظم»، ويمكن تلافي الخطأ بالرجوع عنه إذا كان لنا وسيلة لرصد النتائج والآثار المترتبة على القرار والحكم.
13- العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية: يجمع بينهما شخص الرئيس والأمير في الإسلام، بينما في الديمقراطيات الغربية الفصل الحاد بينهما يعرقل عمل الإدارات الحكومية في كثير من الأحيان، ولهذا يتميز النظام الإسلامي عنها بأن الفصل بين السلطتين ليس تاماً تماماً، بل هناك خيط جامع بين السلطتين من خلال الأمير والرئيس، مع بقاء مراقبة السلطة التشريعية لأداء السلطة التنفيذية، في عهد الراشدين كان لهم شخصيات تشبه مجالس تشريعية وتشاورية من زعماء وحكماء القبائل، والشخصيات الكبيرة التي لو عرض أمر انتخابها لكانوا هم أنفسهم الممثلين، ولهذا لم يحتاجوا لهذا الإجراء، لأن حياة القبيلة كانت لا زالت مسيطرة، فسد هذا مسد المجلس التشريعي، وبعد الراشدين خفتَ أثر القبيلة بدرجة ما، فاجتهد العلماء بإعمال الأمر بالشورى حسب القرآن، ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلـم سُئل عن معنى العزم في القرآن فقال: « مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم » وقوله لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: « لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما » ر. أحمد، لكن لا نكتفي بما كان في عهد الراشدين؛ لأنهم أفذاذ عصرهم، فلا مندوحة اليوم عن الشورية والانتخاب.
14- السلطة التنفيذية: لها الإرادة الحرة في تسيير الأمور غير التي يُشرع لها مجلس الشورى، وهي قرارات عاجلة نافذة على ضوء الشريعة والقرآن والسنة، يرأسها الأمير أو الرئيس الحاكم، يعاونه الوزراء بطريقة النظام الرئاسي، حيث يكونوا معاونين له، وهو يختارهم، والمجلس التشريعي مهمته محصورة في الثقة أو سحبها فقط، مع التشريع، وبهذا يكون الأمر في إدارة حكومية موحدة وهذا يسهل استوزار غير المسلم في الوزارة، لأن المسؤولية تقع على الأمير والمجلس، فيكون دور الوزير غير المسلم موظف تنفيذي فتُحَل مشكلة الأقليات، أما بالطريقة البرلمانية غير الرئاسية فيقع الاعتراض على كونه ولي أمر غير مسلم، ولهذا كانت الطريقة الثانية تحل هذا الاشكال. (النظام الرئاسي).
15- المحكمة العليا: مهمتها التحكيم بين السلطة التنفيذية والتشريعية في حال الخلاف المستحكم بينهما، ويعود الأمر إلى الله ورسوله، كما أمر القرآن، وهم لجنة محكمين شرعيين وسياسيين في آن معاً، على الحياد من الطرفين، ومهمتها: 1- الفصل في القضايا الشائكة والدستورية، تفصل في النزاع بين الأمير ومجلس الشورى، 2- إبطال أي قانون صدر من الجهتين، يعارض القرآن أو السنة.
وهؤلاء يُختارون من نوابغ القضاة والعلماء، عن طريق المجلس والأمير معاً مسبقاً أثناء تأسيس الدولة، وهؤلاء وظيفتهم محصَّنة مع رواتبهم المجزية، ولا يخضعون لسن تقاعد اعتيادي، ولا سلطان لأحد عليهم، وقراراتهم قطعية ملزمة للدولة والأمة بالأغلبية أو الاجماع، إلا إذا قررت اللجنة الغائها بأحكام أخرى معاكسة لظروف أو اجتهاد مغاير.
16- حق الطاعة وحدوده:
إذا كانت الحكومة شرعية يجب على الجميع طاعتها، ولها أن تفرض على الرعية في أموالها وأبدانها للقيام بواجب حراسة الشريعة أموالاً وجهاداً وأعمالاً مقننة، ومسألة الجهاد أسيء فهمها كثيراً من قبل المسلمين وأعدائهم على السواء، والجهاد المشروع، هو جهاد دفاعي لأنه لحماية سبيل الله، ولا سبيل لله في جهاد إذا كان عدواناً وهذا صريح القرآن، فهو جهاد للغزاة وجهاد للمتمردين إذا كان في الداخل، وعلى غير المسلمين المشاركة أو دفع الجزية، لأنها لحمايتهم وحماية معتقداتهم وبلدهم، باستثناء من لا يكلف بالقتال منهم كالصغار والرهبان والنساء ..الخ، وحكم الطاعة للسلطة فريضة شرعية، وحدودها الاستطاعة، وكذلك بالمعروف لا مع المعصية، وحدود الطاعة هي أن يكون في محبتهم والتزامهم الشريعة، وإذا تحدت الحكومة الشريعة صراحة تعزل؛ لأن ذلك يعتبر كفراً بواحاً، وفي هذه الحال لا يجوز الخروج الفردي، بل لا بد من المحافظة على وحدة الأمة، ويصدر أمر عزل المخالف؛ عن طريق ممثليه الشرعيين، ولكن حتى في هذه الحال، فإن المجلس التشريعي لا يستطيع ذلك لمحدودية سلطته الدستورية، بينه وبين الحكومة التنفيذية، فيحتاج الأمر إلى قرار من المحكمة العليا، بتأييد المجلس التشريعي، لعزل الحكومة أو الأمير، أو إجراء استفتاء عن طريقها.
17- حرية الرأي والتعبير: مأمور به في القرآن والسنة، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بصيغة جازمة، قال النبي صلى الله عليه وسلـم: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف .." ر. الترمذي، وفي حديث آخر: « كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم..» ر. أبو داود، وأن الارتباط بين المستوى الاجتماعي المادي والخلقي واضح في المجتمع المسلم، لأن هذا قانون الله من سنن الله في الاتجاهي، والاجتهاد الفكري للعمل على نهضة المجتمع المسلم فريضة إسلامية على كل فرد مكلف في المجتمع، على شرط أن لا تكون تلك الحرية للانحلال والاستخفاف بالشريعة، وإثارة الشغب أو الاستهتار بالمجتمع وقيمه الإسلامية.
18- حماية حقوق المواطنين: كما أن من حق الدولة طاعة المواطنين لها، من حق المواطنين على الدولة حمايتهم ورعاية ممتلكاتهم ومصالحهم، ودستور الدولة ينص على هذه الحقوق جميعاً، بما فيها حرمة مساكنهم وخصوصياتهم، ولا يحجر على هذه الحرية والحقوق إلا بأمر القضاء النزيه، والحقوق المذكورة سابقاً للفرد لا تتحقق بغير وعي وفهم يحققه التعليم لكل الأفراد وبالمجان، لأنه فرض على الدولة لرعاياها، بالحد الأدنى الذي يحقق الغرض، ويقتضي كفالتهم كذلك، وهذا مدلول حديث: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..» وهي في سوية مسؤولية الأبوين عن أولادهم كذلك، وذلك بالحد الكريم، وتسخير الامكانات وإيجاد الفرص، والتعاضد والتعاون والتكافل، لحديث: « كاد الفقر أن يكون كفراً» الجامع الصغير، والأخوة الحقيقية بالعدالة الاجتماعية، وكل هذا كان مطبقاً في زمن الخلفاء الراشدين وزمن عمر، ومقولته قبيل وفاته: " والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو في مكانه" طبقات ابن سعد.
19- عقبات في طريق العودة إلى الإسلام:
الإسلام أكبر من كونه دولة أو دستور أو مجتمع، لأنه نظام متكامل للحياة السعيدة بكل أبعادها، والتطابق بين الإيمان والعمل لدى الفرد المسلم؛ لا تتم من غير مجتمع متكامل الأركان في النهضة والتنظيم والحركة والحياة، وجهل بعض المسلمين يجعلهم يظنون أن الشيء الكامل التام هو ما يأتي من الغرب المسيحي، وهذا غير صحيح، وذلك لعدم فهمهم عظمة وشمولية واتقان النظام الاسلامي والشريعة الإلهية، وظن بعض المسلمين ممن يتثقفون ويدرسون الإسلام على الأزمان الأخيرة من التخلف أو ما كان عليه الوضع قديماً جداً في أيامه الأولى دون مطابقته وتجديده بما يناسب العصر الحديث يبدون كالغرباء في مجتمعهم الحالي، بسبب تشددهم غير المبني على روح الإسلام وحداثته لكل عصر بما يناسبه، فيما يسمى المحافظون، وهم يحافظون لا على اليقينيات والقطعيات – وهو حق – بل يحافظون على اجتهاديات واجتهادات تناسب الماضي حسب ظروفه، ولا تناسب الحاضر لاختلاف علله وظروفه، وكلا الفريقين السابقين لا يخدمون الإسلام الحق، فالغرب الصليبي يخشى من قيام الإسلام الجديد، والشرق التقليدي يخشى من قيام الإسلام الجديد، لأنه في زعمهم انحراف عن تقاليد اجتماعية لا علاقة لها بمبادئ القرآن ودستوره، ولا حتى بفهم الراشدين المرن لمقاصد السنة النبوية.
20- كلمة أخيرة واقتراح:
لا ينبغي أن نهمل الرجوع إلى المصادر الأساسية للنصوص المتعلقة بحقوق الإنسان وكرامة التزامه بالشريعة، دون إضافات اجتهادية انتهت أزمانها، حتى نخلص إلى أحكام اجتماعية إسلامية خالدة، بغض النظر عن المدارس الاجتهادية والفرق الإسلامية المختلفة، بحيث يكون الجميع أفراداً مسلمين في المجتمع المسلم دون فئوية أو تعصب مذهبي، من خلال وضع موسوعة تشريعية فقهية اجتماعية حديثة، وكيف نضع الموسوعة؟
يجب أن تجمع الموسوعة الأحكام الشرعية العامة، التي على أساسها يمكن تأسيس أمة تعيش إسلامها من خلال:
أولاً- ينتخب مجلس الشورى عدداً من العلماء يمثلون المدارس الفقهية المختلفة، وهم على علم تام عميق بالقرآن والسنة ومقاصد التشريع، لجمع أحكام القرآن والسنة التي ينطبق عليها ما يلي: 1- المعنى اللغوي لكلمة نص، 2- تتضمن أمراً أو نهياً، 3- لها علاقة بالسلوك الاجتماعي.
ثانياً- تحديد الأحاديث الواضحة التي لا إشكال عليها في الرواية أو الدراية، ويكون المراد منها دائم وليس لظرف.
ثالثاً- أن توضع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن موضوع ما معاً، في سياق جمعي متكامل لها من القرآن والسنة التي تشرح وتبين بعضها بعضاً.
رابعاً- تجمع اللجنة الأحكام المستخرجة من القرآن والسنة بعد اعتمادها والاتفاق عليها في أبواب خاصة، تعالج مظاهر الحياة الاجتماعية أو السياسية للمسلمين في هذا العصر، وتعمم على مشاهير علماء العالم الإسلامي لإبداء مقترحاتهم ووجهات نظرهم الاجتهادية في المواضيع المنصوص عليها، لاستنباط أحكام معاصرة لها، على أن لا تكون قابلة للاجتهادات الخاصة، وإنما هي عامة تماماً لكل الأمة، ويشكل مجموعها القانون العام للقضاة ومجالس الشورى، والأمة الإسلامية كافة.
خامساً- الآراء والاقتراحات من العلماء يستفاد منها في الصياغة النهائية للموسوعة قبل تقديمها لمجلس الشورى لاعتمادها كقانون عام نافذ في البلاد.
21- نحو آفاق جديدة:
إذا جمعت هذه الأحكام كنظام سياسي اجتماعي واضح لا خلاف عليه، سيصبح من واجب المسلمين جميعاً الثقة بهذه الأحكام والمنظومة المنبثقة عنها، أما الاجتهاد الدائم فهو لن يتوقف، لأنه سيسعى لدوام حركة الحياة الإسلامية والاجتماعية للمسلمين، بحسب تقدم نهضتهم وتجديد صناعة حضارتهم.
إن الأثر الضار الذي يتركه عدم وجود صورة واضحة للأحكام الشرعية القطعية - التي تنظم الحياة الدستورية والسياسية والاجتماعية – كبيراً، وهذا يجعلنا ندور في فلك التيه والحيرة والتردد والضياع والتشتت، وبالطبع سنجد مقاومة من المحافظين على كل قديم، ولديهم تعصب للماضي أو لبعض من يمثله، سيكون حجر عثرة في هذا الطريق، الذي لا بد منه للقيام بالنهضة المطلوبة التي يستحقها المستقبل المشرق للعالم الإسلامي، وكل ذلك لرفعة الإسلام، ولا شيء غير الإسلام العظيم الخالد، والسلام.
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(8): خلاصة السياسة الشرعية د. عبد الله النفيسي
1- هل يوجب الإسلام: قيام سلطة سياسية خاصة به؟ نعم، والدليل على ذلك:
أولاً- القرآن: يبين ملكية الله للكون بأسره، وأن الحاكمية في الكون لله تعالى، (إن الحكم إلا لله) 57/الأنعام، وأن تشريع الله للخلق هو التشريع الملزم، قال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء) 3/الأعراف، وعقاب من لم يحكم بشرعه، قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)44/المائدة، وفي آية أخرى: (هم الفاسقون) وأخرى: (هم الظالمون).
ثانياً- السنة النبوية: طاعة الرسول: من طاعة الله، (من يطع الرسول فقد أطاع الله)80/النساء، والأمر ليس نافلة في تطبيق شرع الله، بل هو فريضة قاتل عليها رسول الله، وغزا من أجلها سبع وعشرون غزوة، ولو كان الرسول داعية إصلاح فحسب، لما كان لهذه الدماء المراقة من معنى، ولا لاستشهاد مئات من أصحابه ضرورة، لأن مهمته تغيير الواقع بالقوة والجهاد والكفاح، وتأسيس دولة تقوم بهذا وأكثر منه، من خلال الشريعة الإلهية الربانية، التي وضعت كل شيء في مكانه وبمقداره وتوقيته، قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس) 25/الحديد، قال الرازي: " مفسراً هذه الآية، بأن المراد بالحديد هنا القوة، إذ لو عصى الناس وتمردوا على الشريعة – سواء كانوا حكاماً أو محكومين- لزم استخدام السيف في وجههم" (مفاتيح الغيب)، ويبين أهمية هذا الأمر، الدستور الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلـم أول وصوله إلى المدينة، ونظم العلاقة مع أطراف المجتمع أنصار ومهاجرين ويهود، بقيادة الدولة النبوية، السلطة المركزية للجميع.
ثالثاً- الإجماع: أجمع الصحابة على تولية أبا بكر خليفة في أول يوم من وفاة رسول الله، ثم ولوا من بعده عمر، ثم ولوا من بعدهما عثمان بن عفان، ومن بعده علي بن أبي طالب، وأقر الفقهاء في كتبهم أهمية قيام سلطة لحماية الدين وتنفيذ وتطبيق تشريعاته، وتلبيه مطالب وحاجات الناس على ضوء شريعة الله، منهم: ابن تيمية – والماوردي – وابن القيم الجوزية – وابن خلدون – وأبو يعلى الفراء – وابن حزم – والشوكاني، وغيرهم كثير.
رابعاً- أجمع الباحثون في العلوم السياسية على اختلاف مشاربهم، أن عناصر تكوين الدولة هي: السكان + الأرض + الحكومة + السيادة، وهذه العناصر الأربعة توفرت بكامل مقتضياتها في الدولة النبوية، وتوسعت في الدولة الراشدية، تمام التوسع، فوحدت الجزيرة العربية، وحلت مكان سلطة دولة فارس ودولة الروم.
2- المشاركة الشعبية في الحكم:
الأمة هي التي لها القوامة على الحاكم، تعييناً، ومحاسبة، وتقويماً، وعزلاً، من خلال مندوبيها، والأحاديث وضحت ذلك بلا لبس ولا غموض، وشروط الاستخلاف: اختياره برضا دون إكراه عن طريق الشورى والمشاورة، ومركزه القانوني الوكالة والنيابة عن الأمة، لإدارة شؤونها ومصالحها، على ضوء تطبيق الشريعة بالعدل والإنصاف مع الجميع، وإذا أخل بعقد الوكالة، أو أحد شروطها، عزل من منصبه، وسبب وجوب الشورى: هو ممارسة حق الأمة في إدارة شؤونها، والتشاور في كيفية تطبيق شريعة الله فيها، واختيار من يصلح للتوكيل ببعض مهامها، ومنها اختيار رئيس الدولة، ومراقبة التزامه، ومشاورته في الأمور الرئيسة التي تحتاج إلى رأي جماعي، وطمأنة الأمة بشرائحها ومكوناتها على حسن سير الأمور في الدولة.
3- مهام الدولة: أول مراحل الدولة (صيانة الدين) وتطبيق الشريعة، ثم (حراسة حدودها)، والمرحلة التالية (فض المنازعات)، والمرحلة الرابعة (دولة الخدمات)، وضمان توفر الطعام والشراب، والكساء، والتعليم، وضمان الشيخوخة والعجز، وتحقق ذلك في عهد عمر بما لم يسبقه إليه أحد، حتى فرض رواتب للمواليد، وتزداد مع النمو، وللجند، وحتى اللقطاء، والغلمان والموالي وأهل الذمة، لم يحرم أحد من حقه في أموال الدولة، ووصل الضمان الاجتماعي في عهده الذروة، ودون طلب.
4- حقوق الناس العامة: انهت الدولة الإسلامية تحكم القبائل المتنفذة في الأرض والمراعي العامة، فقال ص: " لا حمى إلا لله ورسوله" البخاري، فأصبحت مشاعاً للمسلمين، ومنع احتجاز مسيل المياه من قبل الأسر والقبائل المتنفذة كذلك، فجعله مشاعاً للناس، قوله: " الناس شركاء في الماء والكلأ والنار" وكذلك نظم احتجار الأرض، لمنافع الناس، فقال: " ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين" الخراج لأبي يوسف: 70، وجعل تحديد الأسعار من اختصاص الدولة: لأن الأصل في التسعير حرية العرض والطلب، لكن المصلحة العامة في ظروف معينة تقتضي التدخل لمنع الاحتكار، وتحديد الأسعار، لحماية مصلحة الجماعة في مقابل مصلحة فرد وهو التاجر الجشع، وذلك لدفع الضرر كما قال الإمام مالك، على ان يحدد هامش ربح له كذلك، بحيث تطبق قاعدة: لا ضرر ولا ضرار" .
5- الإسلام والعمل: كان ثمن الكلمة شعراً ثمن باهظ في الجاهلية يتقدم على ثمن عمل اليد، بل كان العرب يتعيرون بالعمل، إلا ما كان تجارة، أو غزو وسلب، وبعض الزراعة، أما المهن فهي حرف الإماء والعبيد، وفي هذه البيئة والثقافة جاء الإسلام ليعلن قيمة العمل مقدمة على قيمة الكلام، بل اعتبر القول الذي لا يثمر عملاً، فيه مقت الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، فكان بني تميم يعيرون الأزديين في عمان بأنهم بحارة، لاشتغالهم بالملاحة، وقال أبو جهل وهو يلفظ انفاسه: " فلو غير أكار قتلني" وقال لابن مسعود: " لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم" ورفع الإسلام العمل إلى مستوى العبادة والجهاد، وكان رسول الله أكثر الناس عملاً من كل نوع، قال أنس: " خدمت رسول الله عشر سنين، فو الله ما صحبته في سفر ولا حضر لأخدمه، إلا وكانت خدمته لي أكثر من خدمتي له" (نهاية الأرب للنوري ج18/263).
6- حصانة الحاكم: في دساتير البلاد العربية اليوم الرئيس له حصانة، أمام القضاء، بينما نجد رسول الله تحلل من مطالبات الناس وحقوقهم ومظالمهم على المنبر قبيل وفاته، ولهذا تحاكم عمر وعلي أمام القاضي مع خصومهم، الأول في فرس عطبت، والثاني في درع له فقدت، وحكم بهما للآخرين وهما كانا أمراء، وإذا كان الفسوق الشخصي في السيرة الخاصة معصية لله، فظلم الناس والجور في الحكم، وهدر حقوق الناس بالباطل، وتعطيل حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقريب المفسدين وإبعاد الصالحين، وموالاة أعداء الله يضعه هذا وأمثاله في خانة الكفر مهما صلى وصام وحج وتصدق، قال أبو حذيفة: يا رسول الله صفهم لنا، قال صلى الله عليه وسلـم: " هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.." حتى أن رسول الله حذر من الانغماس في خطتهم فقال: " ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً" (رواه ابن حبان عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، صححه الألباني)، وفي حديث مشابه: " فمن ناصحهم ووازرهم، وشد على أعضادهم، فأولئك هلكوا وأهلكوا.." (ر. الطبراني وصححه الألباني).
7- متى يعتبر الحاكم خائناً؟ عندما يعتبر الحكم غنيمة له ولأسرته وأقاربه ومؤيديه، دون عموم المسلمين، حيث ينبغي أن يستعمل الأكفأ والأصلح، (القوي، الأمين)، قال رسول الله: " من ولي من امر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله" (ر. الحاكم وصححه) وفي أخرى أضاف: " وخان المؤمنين" وقال ابن تيمية: " فإن عدل عن الأصلح الأحق إلى غيره لأجل قرابة أو صداقة، أو رشوة، أو عنصرية،...فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )27/الأنفال، (السياسة الشرعية: 28)، ونزاهة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كانتا مثال حفظ الأمانة في الحكم، بينما أصبحت اليوم الخيانة شطارة وجسارة، حتى انطبق على أمثالهم قول النبي صلى الله عليه وسلـم: " إن أخون الخيانة التجارة في الرعية" (كنز العمال ج6/حديث 78).
8- الولاء في دولة الإسلام: لله تعالى، وبرهانه الانقياد التام لشريعته، ولرسوله باتباع سنته وسيرته، وللمسلمين: في الحرص على جلب المنافع لهم ودرء المفاسد عنهم، والاصطفاف في صفهم وتلبية مطالبهم حسب الوسع والطاقة والقدرة، وهذه الأمور الثلاثة جزء من العقيدة، ومصادمتها يخرم الانتماء إليها، وآيات كثيرة بينت هذا في كتاب الله المحكم، والولاء التام لله هو محض الحب الحقيقي له تعالى، وأن الولاء السياسي اليوم الذي يتنكب هذه الشروط أو الولاءات الثلاث، يودي بصاحبه إلى هاوية الضلال والعياذ بالله.
9- انتصار الدولة الإسلامية: بالعدل: لأن الغرض الرئيس من إرسال الرسل إقامة العدل، وهذا يؤدي إلى التوحيد إذا كان على التمام والكمال، فإن الله ينصر أهل العدل، لأن العدل برهان الإيمان، ولو كانوا كفاراً، ويتخلى عن الظالمين، لأن ظلمهم برهان العصيان، ولو كانوا مسلمين، لأن إسلامهم يفقد مصداقيته بالظلم والفساد والطغيان، فيتساوى الكفار وأهل الإيمان، وفي هذه الحالة ترجح كفة العدل على كفة الظلم، فينتصر الكفار، ويُخذَل الأبرار، لأنهم أخلوا بميزان الله الذي قامت عليه السموات والأرض، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب، والميزان، ليقوم الناس بالقسط) 25/الحديد.
10- انهيار الدولة الإسلامية: من داخلها وليس بسبب عدو خارجي، لأن الظالم لا يراعي شرعاً، ولا يهتم بدين، مما دفع أهل المدينة المنورة زمن يزيد أن يثوروا على عامله الظالم فيطردوه، ويؤمروا عليهم عبد الله بن حنظلة، فلما بلغ يزيد الخبر، أرسل إليهم مسلم بن عقبة بأثني عشر ألف مقاتل، فاستباح المدينة ثلاثاً يوم الحرة عام 73هـ، (البداية والنهاية- تاريخ الملوك للطبري- وابن الأثير.)، والظلم يهدر كرامة الإنسان، ويحطم قيم الإسلام، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل)، والعدل مطلوب سماوي على الأرض، فمن خرمه خرم مقتضى التوحيد والإيمان، قال تعالى: ( إن الله يحب المقسطين) و( والله لا يحب الظالمين)، فمن ناصر حاكماً ظالماً وقع في بغض الله له، وأحاطت به عوامل الخسران، التي أقسم الله بالعصر على وقوعها فيمن لا يتحقق به ركنان وشرطان، الركن الأول الإيمان الخالص، والثاني: العمل الصالح، والشرطان: التواصي بالحق (والعدل)، والتناصح بالصبر( والصدق)، وبالظلم ينتفي ذلك كله ويغيب، فتحرم الأمة الفلاح، وتحرم نصر الله، والهزيمة والخذلان مصير الظالمين، ولو كانوا مسلمين.
11- شرعية الحكم والدولة: الركيزة الأساسية لقيام الدولة الإسلامية تحقيق العدالة، ولهذا نجد الفقهاء يشرعنون قيامها بعد اختيار خليفة بالتراضي والشورى، لإدارة شؤونها بعقد بيعة، على تطبيق والتزام كتاب الله وسنة رسوله، وإقامة العدل بين الناس، ولهذا أفتى الإمام مالك فتواه المشهورة: " ليس لمكره بيعة" فعذب عليها في عهد أبي جعفر المنصور، وضرب بالسياط، وخلع كتفاه. (تاريخ ابن كثير ج1/84)، ولقد دعا المنصور الفقيه ابن أبي ذئب، وأبا حنيفة النعمان، يسألهم عن شرعية توليه الخلافة فلم يجيباه إلى طلبه، وإنما قالا له : بأن الخلافة لا تكون إلا باجتماع المؤمنين وبيعتهم ومشورتهم، وأن من أراد الله وفقه إلى اتباع أوامره وأن يعدل في الناس، واليوم بحاجة إلى إرادة حرة للأمة في اختيار من يحكمها، حتى يتحقق لها المقصود الشرعي من تنصيب الإمام، لإقامة العدالة وتحقيق النمو والتقدم.
12- تأصيل رقابة الأمة على الحاكم: عرَّف الفقهاء الخلافة بأنها: " عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار" وبعد أن يتم الاختيار يجرى عقد البيعة المشروط، فإذا تم، بدأت مرحلة مراقبة الحاكم ونصحه ومشورته، على تطبيق ما تمت البيعة على أساسه ومقصده وهو تطبيق شريعة الله في حياة الناس بالعدل والإنصاف، لأن الحاكم وكيل عن الأمة، يقول القاضي عياض: " فلو طرأ على الخليفة كفر أو تغيير للشرع، أو بدعة، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل" ويقول الجصاص: " ..بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق، لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته" (أحكام القرآن: ج1/79)، وخطبة أبي بكر بعد بيعته أول بيان سياسي يوضح المقصد الشرعي من منصب الإمامة: " أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،.. .أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم" (تاريخ الأمم ج2/450- وابن هشام: ج4/311).
13- حق المسلم في المشاركة في الحكم: مشروع، وله حق الامتناع عن انتخاب من لا يرتضيه، وهذا ما أقره أبو بكر وعمر- لسعد بن عبادة - والإمام علي للخوارج في الاعتراض عليه، شرط أن يكون سلمياً، وحق المشاورة: لأن بيعته توكيل، والرسول صلى الله عليه وسلـم أمر بها ليقتدى به، ومن استبد بحكمه وسلطته عُزِل، ولقد شاور عبد الرحمن بن عوف النساء والشباب والشيوخ في المدينة في اختيار علي أو عثمان بن عفان، بعد وفاة عمر، كما أن الشورى فريضة إسلامية في نظام الحكم في الإسلام، بدلالة أمر الحاكم بها، وصفة للمسلمين، وفي السنة والسيرة: كانت أفعال وأقوال النبي في الشورى ديدنه ومعلم من معالم شخصيته صلى الله عليه وسلـم، وحكمها عند الفقهاء: يراها بعضهم للندب، والاستئناس، ويراها آخرون للوجوب، بدلالة القرآن والسنة، فهماً وتطبيقاً، وثناء القرآن على مشورة ملكة سبأ لقومها، وبدلالة اقترانها بفريضة وهي أعظم ركن في الإسلام وهي الصلاة، فيكون الوجوب هو الأمثل، لأن الحكم بأنها مندوبة يبرر الاستبداد، ويتناقض مع مقتضيات عقد التوكيل الذي تبرمه الأمة في البيعة، وكثير من الفقهاء قالوا بوجوب الشورى على الحاكم، وكيفية تطبيقها في عصرنا اليوم؟ بما يتوفر من وسائل ممكنة في مجتمعاتنا، حسب درجة التقدم التي نبلغها ويبلغها المجتمع المسلم، وتاريخ الأمة وبخاصة العهد النبوي والراشدي، يفتح لنا آفاق الاستئناس لتطوير ما فعلوه في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ومن المفاهيم الشرعية المستخدمة في العهد النبوي والراشدي: الشورى – عقد البيعة – النقيب – العرفاء – الأمير- أهل الحل والعقد – الخليفة – أمير المؤمنين – الوالي – العامل – الأجير – التناصح – النصيحة – الأمر بالمعروف – النهي عن المنكر – الإجماع.
14- مضمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ثمة انطباع شائع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخص المسلكيات الفردية للناس، ولا علاقة له بالشأن السياسي والحكم، وهو تصور خطأ، يناقض مفهوم عقد البيعة والتوكيل للحاكم، كما يناقض سعة المدلول القرآني الذي يشير إليه في كتاب الله في قوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) 104/آل عمران، ومفهوم " ولتكن" الواو استئناف لما سبقها من آيات تأمر بالتقوى، والتي تليها تأمر بالاعتصام ووحدة الأمة، وهذه تشرِّع بصيغة الأمر بتكوين جماعة من المؤمنين شعارها الإسلام، وبرنامجها وعناصرها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن الظلم إذا كان من أكبر المعاصي المنافية لغاية الدين ومقصده الذي أمر به الأنبياء وهو تحقيق العدل، فلا يمكن مقاومته في الدولة والحكومة الظالمة بفرد أو فردين، بل لا بد من جماعة ضغط (أمة) لها وزن اجتماعي، ولها من خلال ذلك وزن سياسي، وإلا فإن الآية لم تذكر لفظة ومفهوم الأمة لمجابهة فرد عاصٍ قد لا يشرع التدخل في حياته الخاصة، إذ لا تأثير له في عموم بحر الصلاح في الأمة، ولكن الخطر كل الخطر من فساد الحاكم والجماعات الموالية له، المؤتزرة بسيفه، والتي تحتاج إلى ما فسرنا به الآية ليكون للنصح والدعوة قوة الجهاد والمجاهدة المنظمة، وهذا ما توحي به الآيات الثلاث المتتابعة في السورة، وتكوين هذه الجماعة حكمه فرض، والمهمة التي تقوم بها كذلك هي فريضة، وهي مهمة شاقة إذا علمنا أن الناس فيهم: الشهواني، والنفعي، والمغرور، والمتسلط، والهابط، والمسترخي، والمنحل، والمرتشي، والمتسيب، والمنافق، والخائن، والأمة لا تنهض إلا بذوي الاستقامة، الذين يدفعون هؤلاء الفاسدين بالتزامهم، إلى أعلى فينفعوا بالقدر الذي يستوعبهم ويحد من فسادهم، وهذا لا يتحقق إلا بسلطة وتأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنظم.
15- تاريخ الرسل والدعاة نضال سياسي: لأن أول من يحارب الرسل والأنبياء هم الطبقة العليا من المجتمع (الطبقة السلطوية): وهم الملأ، وأولو الطول، وأولي النعمة، المترفون، المستكبرون، وقد توقع ذلك وأخبر به النبي ورقة ابن نوفل: " لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي " البخاري، وكان يمثلها: أبي جهل، وأبي لهب، وابن سلول، وأبي بن خلف، لأن وجود هذه الطبقة يقوم على الظلم والطغيان، فلا تحتمل قوانين العدل والمساواة، ووسيلتها لحربها القمع والسجن والظلم والأذى، والحرب، ولهذا كان النضال الجهادي العسكري، هو نضال سياسي لإزاحة المتسلطين على رقاب العباد، ويأبون العدالة والحرية أن تأخذ مجراها الفطري الإنساني، والآيات القرآنية فضحت هؤلاء وعرتهم تماماً، قال تعالى: ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)37/هود، ولهذا كان الرسل أول ما يبدؤا به 1- تربية الاتباع تربية صالحة على المبادئ والقيم، 2- تعرية الطواغيت ومواجهتهم بالحقائق لنزع هيبتهم الكاذبة (والخوف)، بالحوارات العلنية مع فرعون، لدحض مزاعمه وتقوية ثقة عباد الله بالله، قال تعالى: (فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين)175/آل عمران.
16- رسالات الله لإنصاف الفقراء والمضطهدين: قال تعالى: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)11/الشعراء، والقرآن ذكر في أول فيء في الإسلام الفقراء والمساكين، ولما طلب رستم رسولاً عن المسلمين في معركة القادسية، أرسل إليه سعد بن أبي وقاص، ربعي بن عامر، بثيابه الرثة، وفقره الظاهر، ليعكر على رستم الأبهة التي يرفل بها من عرق وجهد فقراء فارس، ليقول للجميع بمظهره أن الغني هو الله، وأن قائدكم لص سارق، و تفاعل الرسل والرسالات السماوية مع واقع الناس بواقعية، والوقوف عملياً مع الفقير والمظلوم، والوقوف مع الاستقامة والكرامة والطهارة ضد الانحراف والأرجاس والذل والإذلال، هو الذي جعل الناس يلتفون حول الدعاة إلى الله ورسل الله، ووقف شعيب عليه السلام أمام جشع التجار، ليحارب الاقتصاد الاستغلالي، كما وقف موسى في وجه طغيان واستبداد فرعون، ووقف لوط أمام الانحلال الخلقي والشذوذ الأخلاقي، وكل هذه الأمور قضايا اجتماعية واقعية، جابهها الدعاة بالفعل وليس بالتنظير النظري الكاذب، والتغيير الجذري كان هدف رسل الله، وليس التصالح مع الفساد في منتصف الطريق، لتحقيق العدل الاجتماعي، وتخليص المجتمع من آثامه الآبائية، قال تعالى: (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا)78/يونس، لم يكن الرسل مقلدون، بل كانوا ثوريون بمقاييس العدل والحق، ولو مس صميم مصالح الطغاة، بإلغاء النظام الربوي، وإبطال النظام الطبقي القبلي، فجعل الناس سواسية، وأن التفاضل بالعمل والتقوى، والأرض لمن أحياها، والمال مال الله بالوكالة وفيه حقوق اجتماعية تؤدى لأصحابها.
17- هل يحق للمسؤول التجارة والإثراء؟ أجمع علماء السياسة على أن رجل الدولة يجب أن يكون حيادياً تجاه كل المواطنين، لتحقيق العدالة الاجتماعية، وأن لا يقع في فخ استغلال النفوذ والمنصب للمنافع الشخصية، ولهذا حذر رسول الله من قبول الموظف الهدايا، لأنها في حكم الرشوة، (حديث ابن اللتبية في البخاري)، وكذلك الاستيلاء على الأرض ظلماً قال صلى الله عليه وسلـم: " من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه، خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" (الجامع الصغير: صحيح)، ولهذا نجد أن الدولة الأموية والعباسية لم تنهارا بقوة عدو، وإنما بانتشار الفساد وظلم الناس، وكثرة الضرائب التي شرعت على كل شيء حتى على سفن نقل المياه، وزادوا في الجزية والخراج، وأخذوها من الأعاجم الذين أسلموا، ولم يكتفوا بهذا بل دخلوا السوق تجارةً واحتكاراً فتذمر الناس منهم، وشجع هذا على نشوء حركات التمرد على السلطة، وسفك الدماء، واضطراب الحكم وضعف الاستقرار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلتم: " من أخون الخيانة تجارة الوالي في رعيته" (كنز العمال ج6/78)، وبدلالة منع أبي بكر بعد استخلافه من نزول السوق للتجارة.
18- قيام الدين بالكتاب والميزان والحديد: فترات الهدوء أقل من فترات الحروب في التاريخ الإنساني، والإسلام لم ينتشر إلا حين كان شعار المسلمين: " اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف" واليوم نجد المتحكم في عالم البشر القوة والحديد، سيطرة سياسية واقتصادية وعسكرية، خمسين مليون يموتون سنوياً من الجوع، وملايين الأطنان من الأغذية ترمى في المحيطات، للمحافظة على الأسعار، ولهذا أراد الله إقامة العدل: بالكتاب القرآن، والميزان العدل، والقوة الحديد، فكان يسير مع النبي الكتيبة الخضراء لكثرة ما فيها من الحديد، وكان النبي لا ينتظر العدو إذا سمع به بل يباغته في أول أمره، مثل: ابن سفيان الهذلي، كان يجمع الجموع لحرب النبي، فأرسل النبي له عبد الله بن أنيس، فذهب إليه وخدعه ثم قتله، وفي البخاري: أن جاسوساً دخل صفوف المسلمين وهم مع النبي في سفر، ولما هرب، أمر النبي ابن الأكوع بأن يطلبه ويقتله ففعل، فنفله النبي سلبه، وكان النبي يدعو للمريض بقوله: " اللهم اشفي عبدك، ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة" (أبي داود، والحاكم).
19- الإسلام والإقطاع السياسي: جذور التشكل القبلي في مجتمعاتنا قديم، انسحب على التشكل السياسي، الذي انحصر في أسرة حاكمة تنتسب إلى قبيلة متحكمة مبكراً، بعد غياب الشورى والحكم الراشدي، وهذا ما جعل المؤسسات السياسية في حالة أسر ضمن هذا المفهوم الإقطاعي، ومنذ الجاهلية عرفت دار الندوة في مكة لتدارس القرارات السياسية والاجتماعية، التي يهيمن عليها زعماء مكة وهم تجارها، ولما جاء الإسلام استبدل الولاء القبلي بالولاء الأخوي والمؤاخاة، ومفهوم الأمة، والتفاضل السلوكي، وليس العشائري، (إن اكرمكم عند الله اتقاكم)، وهذا ما أوجد فرص للصعود الاجتماعي للقاعدة العريضة من المهمشين من خلال التنافس القيمي والعملي، وحاولت القوى الاجتماعية القبلية التصدر سياسيا من خلال الممكنات الاقتصادية، ولا زالت إلى يومنا هذا في مد وجذر في مقاومة قيم القرآن في المساواة والعدالة، والهيمنة السياسية على حساب قيم العدالة والمساواة التي جاء بها الإسلام، ويذكر ابن تيمية قول عمر: " من ولي أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين".
20- اليمين السياسي والدعوة الإسلامية: لا شك أن الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً بشر، وهم في مواقفهم الدعوية فئات بين السابق والاحق، والمتقدم والمتأخر، أهل بيعة العقبة – أهل بدر – أهل بيعة الرضوان – المهاجرون، الأنصار- كبار الصحابة – صغار الصحابة – والطلقاء – اندفاع انتصار الإسلام أدخل فئات انساقت بالموج العاتي الذي حققه انتصار وانتشار الإسلام، وربما كان البعض من بذور المنافقين الذين سايروا الموج، إلى أن اتت فرصة الانقضاض على الاستقرار السياسي الذي كان ينعم به من يحيا في ظل العهد الراشدي، وهو من المؤلفة قلوبهم، ولم يرزق بكمال الإيمان، وهم أعيان في أقوامهم، في المدينة ومكة والطائف والقبائل، وقد عرت دواخلهم سورة التوبة، واليوم لهم شبه مع اليمين من التركيبة الاجتماعية المعاصرة، التي تحلف أغلظ الأيمان على ولائها للإسلام، وهي لا توفر فرصة لحربه وتحجيم انتشاره وسطوته على المجتمع، وهم على عكس تركيبة اليسار العربي، الذي يعلن عداؤه للإسلام، لكن اليمين – العميل للغرب - يحمل راية الإسلام ليدفنه وهو حي في حفرة عميقة من الإهمال والتحجيم، ومن أغراضهم: 1- الانحراف بالدعوة بحيث لا يكون لها رؤية إسلامية مستقلة.
2- استخدام الإسلام لتمكين اليمين المنافق من محاربته لليسار دون أن يكسب الإسلام استقلالية مؤثرة.
3- تعارض غايات وولاءات اليمين الموالي للغرب، مع غايات وولاءات الدعوة الإسلامية الحقيقية.
4- إذا كانت غايات الدعوة الإسلامية التغيير الجذري نحو العدالة الراشدية، فإن اليمين غايته الإبقاء على الوضع كما هو في السيطرة والتحكم الاستبدادي للفسدة والخونة والمستغلين، والولاء للغرب الصليبي وقيمه المتحررة ظاهرياً والظالمة فعلياً، في كل القطاعات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والعسكرية.
21- تفرد خط الإسلام عن اليمين واليسار: ولكن بعض الظروف السياسية قد تدفع لتحالفات مع هؤلاء أو هؤلاء، لأغراض مشروعة مبررة لتحقيق مكاسب جماهيرية للجماهير والأمة، ولكن الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال أبداً أن غايات ومنهجيات ومقاصد كل طرف من هؤلاء مختلف جذرياً مع المشروع الإسلامي، لكن من المعلوم أن اليمين لا يخشى اليسار بتاتاً، لأنه يعلم تجذر القيم الإسلامية في قاعدته، التي يدغدغها ببعض الطروحات التي تتوافق مع هذا التجذر الإسلامي لتمرير أغراض ومشاريع أخرى لا تصب في وحدة وقوة خدمة الإسلام، بمقدار ما تحقق له المناورة في خدمة المشروع الغربي، الذي يتظاهر شكلاً في حماية المسلمين ومحاربة أعدائهم، ثم عند اللحظة الحرجة يطعن الإسلام وأهله علناً في الظهر، ويعمل هذا اليمين إلى اليوم على إذكاء روح الخلاف بين أهل الإسلام في الكليات والفرعيات، ولا يقبل التئام شمل أهل الإسلام على أي قضية، ويعمل على الدوام على أن يحارب الإسلاميون بعضهم بعضاً وهذا يفرحهم أشد الفرح، وضرورة دراسة سورة التوبة في محتواها السياسي: إن حديث الإفك – ومسجد الضرار- وحروب الردة- ومواقف ابن سلول- كلها مواضيع متكررة اليوم في تصرفات ومواقف منافقي العصر من اليمين السياسي.
22- الإطعام والأمن في السياسة الشرعية: قائم على مبدأ التكافل الاجتماعي، بين الفرد والمجتمع، كتب فيه ابن حزم فقال: " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، يجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، من طعام ولباس ومسكن، ويقاتلوا على حجزه عنهم، ومانع الحق باغٍ على أخيه، ولهذا قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، ومن لا يجد سكناً، ولآخر سكن زائد عن حاجته، فالحاكم يجبره على إيوائه، وفي المال حق سوى الزكاة، إذا لم تفِ الزكاة بمتطلبات المحتاجين، ومنع الإطعام، كترك الصلاة في القرآن، ولهذا يوجب علينا الإسلام التعاون مع الآخرين لتحقيق هذا الأمن والتكافل من خلال: 1- العمل الإسلامي يتحرك في بحر وشبكة من العلاقات العامة التي تحدد هويته وتوجهه الحقيقي، وليس مجرد الخطابة والتنظير. 2- العمل الإسلامي عمل شعبي في تفاعله وطروحاته وأهدافه. 3- أن لا يغيب عن بالنا وجود تيارات غير إسلامية متجذرة في المجتمع من مصلحة الإسلام أن لا نغفل وجودها، وهي تطمح لتغيير الواقع بصدق، ولو باتجاه مخالف، فإن التعاون يكسب الأقوى الرصيد الأكبر، 4- العمل على كسب القاعدة الشعبية في المجتمع، بكافة شرائحها، لتحقيق المصلحة العامة، ولا ينبغي قبول العزل أو الانعزال في العمل الإسلامي، 5- ترسيخ عوائد سياسية من العمل العام، لئلا تهدر الجهود مع الزمن في لا شيء من المكاسب سوى زبد السيل، 6- محاورة من لديه جمهور لكسبه في المشروع المختلف عن رغبات اليمين المخادع المتمكن، والعمل الحواري في المشتركات والتوافق عليها ومعها، وإنشاء علاقات مؤسسية مع كافة الاتجاهات، دون حساسيات مذهبية.
23- الفعالية السياسية للعمل الإسلامي: الاندفاع المشهود باتجاه الإسلام والمساجد والكتاب الإسلامي، على مستوى العالم بأسره، إذا لم يستثمر بشكل مؤسسي، في تحقيق أهداف استراتيجية مبرمجة، فإن هذا الاندفاع قد يبرد، أو يستغله آخرون بأحداث مصطنعة يفجرون بها هذا الزخم لصالح تنفير الناس من الشفافية والقوة التي يتمتع بها الفكر الإسلامي الحديث، وهذا ما يحدث على يد المغفلين من التيار الإسلامي نفسه، تحت شعارات رجعية قديمة لا تصلح للوعي الحديث الذي تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي اليوم، ولذا فمن الأجدى تحويل طاقة الإقبال على الإسلام إلى فكر سياسي متجذر، وطموحات عملية، لإقناع الناس بأن طموحاتهم يمكنها أن تتحقق، من خلال الوعي بالأهداف العملية، ودفن كل الملهيات الجانبية غير المثمرة في العمل السياسي والاجتماعي، والتحول إلى خدمة الناس عملياً من خلال مؤسسات مدنية فاعلة متخصصة ذات انتماء وعمل، الرسل وقفوا مع المظلومين، ولم يكتفوا بالتنظير، وهذه فعالية سياسية بامتياز، اليوم يئن العالم الإسلامي من الطغيان السياسي، وسوء توزيع الثروة، والتحلل الاجتماعي، الدعوة نجحت بدرجة ما في وجه التحلل الاجتماعي، لكنها فشلت في الإطارين الأخريين، لذا لا بد من مراجعة شاملة لهذه الأطر العملية الثلاث لاستيعاب الجماهير والقوى الشعبية.
24- القرآن كتاب حركي للمستلزمات السياسية:1- القرآن ركز على بناء الإنسان الصالح لكل العصور، 2- وعلى بناء فاعليته المؤثرة المثابرة لتغيير الواقع من خلال الجهاد والمجاهدة، 3- وبناء تماسكه النفسي الفكري الذي يصعب اختراقه، 4- وتدريب المسلم على التكيف المجدي مع متطلبات المراحل المتعاقبة للتحولات المجتمعية دون ذوبان، 5- وفهم طبيعة التدافع في الحراك الإنساني المتغير عبر الإنسان والكون والمجتمع والدولة، لصالح المبادر.
ومقارنة بين سورتي محمد والفتح: نجد أن سورة محمد نزلت السنة الثالثة للهجرة، وموضوعها الرئيس الجهاد في سبيل الله، والقتال وإعلان حرب، وسورة الفتح نزلت السنة السادسة للهجرة، وموضوعها التحالفات السياسية وتأسيس علاقات قبلية لنشر الإسلام، وإعلان سلام، وفرق كبير بين المرحلتين في السورتين، وألفاظهما، الأولى لغة حربية هادرة، والثانية لغة مسالمة دبلوماسية سياسية، تفرغ المسلمون لتطهير الجزيرة العربية من اليهود، ونشروا الإسلام في القبائل، وبين الناس، والسورة الأولى لها رجالاتها ومتطلباتها، والثانية لها رجالاتها ومتطلباتها كذلك.
25- أسباب إعاقة انطلاق الأمة الإسلامية: عندما يتم الخلل في ثلاث أمور متشابكة، الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فيمكن طبقة من أبناء الأمة تحالفوا مع المؤسسات العالمية لنهب ثروات الأوطان الإسلامية: نفط، أخشاب، مطاط، مياه، سواحل، حديد، نحاس، أسماك، جلود، مواشي، زروع وثمار، وتصنيعها في الغرب لإعادة استهلاكها محلياً، وهذا الولاء للغرب وحرمان المنطقة من ثرواتها وحقوقها فيها، هو عين الخيانة، وكفر نعم الله علينا، يضاف إليها مليارات تستثمر في الغرب، لتعود سلاحاً لليهود يحاربنا بها، وقروض لإسرائيل لتقويتها علينا وعلى حقوقنا.
وشيوع احتكار أصحاب النفوذ لمساحات من الأراضي، والمضاربة المالية بها، شبيه بالحمى الجاهلي للمراعي، يحرم الضعيف من عائداته، ويحطم حكم العدالة في توزيع الثروة، التي انتبه إليها عمر فأوقف توزيع أرض الغنائم على المقاتلين، ليجعل العائد (الخراج) لكل الأمة والأجيال، وغلاء الأراضي اليوم عطل إعفاف الشباب بالزواج، وتأمين السكن، ولقد أرجع عمر أرضاً كبيرة استقطعها النبي بلال بن الحارث المزني، لأنه لم يستثمرها، ووزعها على المسلمين، والأرض المستقطعة، يزرعها المستقطع أو يردها للدولة، ولا تؤجر.
وبما أن المال لله والإنسان مستخلف فيه، قال تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) 7/الحديد، فلا إسراف، ولا تبذير، ولا تقتير، ولا ربا، وإنما الانفاق باعتدال، والصدقة، والإقراض، وإلا فالحجر على مال السفيه، ومنع الكنز بالزكاة، والميراث، ومنع الاحتكار، وحق المحتاج فيه، وتسع مصالح وحاجات الفقراء في أموال الأغنياء، قال تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)، والكفارات بأنواعها تؤول للفقراء، ونظام الأوقاف التطوعية، تمول خدمات هائلة للمجتمع المسلم، وحتى رعاية الحيوانات الشاردة أو المريضة، ويمكن اليوم إعادة حيوية الأوقاف في نهضة البلاد والعباد.
26- الموقف الإسلامي من الرأسمالية: اليوم يهيمن النظام الرأسمالي الاقتصادي على الاقتصاد والتجارة في عالمنا الإسلامي، وهو يتصف بالتالي: 1- أصحاب المال يتحكمون بالقرار السياسي. 2- والقوة المالية مسيطرة على التعليم، والفن، والأدب، والنشر. 3- وسائل زيادة الأرباح مشروعة في الرأسمالية. 4- للبنوك وشركات البورصة المالية دور في نتائج الانتخابات. 5- الأجور لا تتناسب مع الأرباح الحاصلة من الإنتاج. 6- أصحاب الشركات الكبرى يتحكمون في مصير الدول. (وهذا كله يحتاج إلى مراجعة فقهية لمشروعية هذا الاقتصاد)، وكثير من الأحكام المالية في الإسلام تمنع الممارسات الرأسمالية المطلقة في الأموال، وكما يختلف النظام الاقتصادي الإسلامي مع النظام الرأسمالي في كثير من مبادئه وأسسه، فإنه يختلف مع النظام الاقتصادي الماركسي الشيوعي كذلك في كثير من مبادئه وأسسه، لأن كلا النظامين لا يعترفان بالقيم الأخلاقية ولا يحكمان القيم الدينية في تعاملاتهما، وهذا ما يرفضه الإسلام.
27- شرعية السلطة السياسية في الإسلام: تقوم على:
أولاً- تنفيذ أحكام الشريعة: المهمة الرئيسة للسلطة السياسية والمبرر لوجودها؛ قيامها بتنفيذ شرع الله، والحرية فيما يتعلق بالعلاقات الاثنية كما في أحكام الأسرة، وتحقيق التكافل بالزكاة وغيرها، وتطبيق أحكام البيوع، والمعاملات التجارية بين الناس، وتيسير حرية إقامة الشعائر لأهل الشرائع، وحراسة وتنمية حركة المجتمع بين طوائفه المهنية والدينية والقومية، وتفقد السلطة مبرر وجودها إذا لم تفعل ذلك وزاغت عن شريعة الله.
ثانياً- رضا عموم المسلمين عن السلطة السياسية: لأن شرعيتها صادرة من عقد بيعة بالرضا دون إكراه، نتيجة الشورى الحرة والاختيار، والحاكم لهذا ممثل عن الأمة للقيام بإدارة شؤونها حسب الشريعة، ولهذا تحكمه احكام الشرع كفرد من الناس، لا يعلو على أحد ولو كان خادمه الخاص، وفي حال التنازع يجلس مع خصمه أو خصومه أمام القاضي والقضاء كفرد لا حصانة خاصة له، وهذا ما فعله الخلفاء الراشدون، وبعض السلاطين الصالحين، وشرع هذا حتى لإمام الصلاة بأن لا يؤم المصلين وهم له كارهون، ورسول الله حصَّل الرضا التام قبل أن يحكم المدينة من خلال بيعتين الأولى في العقبة، قبل الهجرة، والثانية عند كتابة وثيقة المدينة وتأسيس الدولة بعد الهجرة.
28- هشاشة شرعية الحكم مفرق للكلمة: الأمة هي حارسة الشريعة، وهي التي تلزم السلطة السياسية بتنفيذها، وهي التي تختار السلطة القادرة على هذا الالتزام، وتتوفر فيها مؤهلات هذا الالتزام، وحينما أفتى الفقهاء بجواز ولاية التغلب، كانت الفتوى شبيهة بفتوى جواز أكل الميتة، ولحم الخنزير اضطراراً، للإبقاء على أرواح الناس ووحدة كلمتهم، على أن يعود الأمر شورى إذا فسحت الظروف للعودة إلى هذا الأصل الشرعي الرئيس، الذي سنه القرآن، وطبقه النبي وخلفاؤه الراشدون، إذا أمكن ذلك، والضرورة تقدر بقدرها، وأن واجب الأمة السعي لإزالة ولاية التغلب عند كثير من الفقهاء، لأنها عودة إلى الأصل، وكلما كانت آثار ولاية التغلب سيئة أكثر، كلما كان الحكم الشرعي لإزالتها أقوى وأوجب وأكبر، ولهذا قال أبو موسى الأشعري: " إن الإمارة ما اؤتمر فيها، وأن الملك ما غُلِبَ عليه بالسيف" (طبقات ابن سعد ج4/113).
29- فقه تنظيم الاستهلاك في الإسلام: نجده في آيات متعددة من القرآن، يدور بين التقتير والتبذير، ويحض على طهارة ونقاوة السلعة في إطار الطيب، والاستخدام الصالح، وهذا يحدد منتجات السوق الإسلامي بالمفيد النافع، بينما الرأسمالية الغربية مستعدة لبيع ليس الإنسان فقط، بل بيع أعضاء الإنسان أيضاً، (عقله – عيناه – أذنيه – رجليه – ويداه – وأعضاؤه التناسلية - وحتى ضميره إن أمكن ذلك)، حتى أن الغلو في الاستهلاك نهى عنه القرآن بقوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها..) 20/الأحقاف، وكان عمر إذا رأى رجلاً اشترى اللحم في يومين متتالين زجره، وقال: " اتقوا هذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر" (سيرة عمر لابن الجوزي) وقال ذات يوم لجابر وقد اشترى اللحم: " أكلما اشتهيتم اشتريتم، أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره وابن عمه؟ وقرأ الآية.
30- أمن الدولة والجماعة المسلمة: حرص رسول الله على عدم تغلغل الكافرين والمنافقين والعيون في صفوف المسلمين، ووضع العيون في صفوف أعداء الإسلام لتصله أخبار تآمرهم قبل تنفيذها أو تحركهم بها، فوفر على المسلمين خسائر ومعارك كثيرة بهذا التدبير المحكم المفيد، ومن ذلك قصة نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني، ولم يتردد في استخدام المال لتحقيق هذا الغرض، واهتمامه اليقظ بالمعلومات الدقيقة لأعدائه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذيلي يتجسس عليه ويأتي بخبره، فلما تأكد من تآمره قتله، وأرسل حذيفة بن اليمان إلى صفوف الأحزاب يأتي بخبرهم ليلاً، وأرسل بسبس بن عمرو الجهني، وعدي بن الرعباء إلى بدر، يتحسسان خبر عير أبي سفيان، ويوم حنين بعث " عبد الله بن أبي حدر الأسلمي" للدخول في صفوف العدو يأتي بأخبارهم، قال ابن القيم في زاد المعاد: " كان النبي صلى الله عليه وسلـم يبعث العيون يأتون بخبر عدوه ويطلع الطلائع ويبيت الحرس" .
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(9): خلاصة كتاب " عندما يحكم الإسلام" د. عبد الله النفيسي
1- هذا الكتاب: يحاول النظام السياسي العربي استخدام الدين لتبرير وجوده وشرعيته، على أن يكون هذا قائماً على إلغاء المواطن والشعب تماماً من التدخل في مصيره ومصير وطنه، لأنه مجرد مورد وخادم لمتطلبات الحاكم بأمره فقط، مع أن أي قرار تتخذه الحكومة والدولة يمس جميع شؤوننا المالية والاجتماعية والقانونية والنفسية والوجودية كذلك، لأن أي قرار نحن أصحابه في الحقيقة صدوراً وإياباً، لأن المقصود به نحن الممولين له والمتحملين لنتائجه، ومع هذا نحن مبعدين عنه وعن معرفة خباياه وحقيقته، مع أن الإسلام اعتبر الأمة هي صاحبة القرار ولها الحق كل الحق في محاسبة حكامها على تنفيذه أو التقصير فيه.
2- مدخل: في عالمنا العربي الحافل بالعسف والقهر والظلم يحاول النظام أن يوحي للمواطن بأنه حاكم أبدي وأن سيطرته لا تهتز ولا تتغير، وأنه الذكي الوحيد، والباقين أقل فهماً وذكاءً، وكل أجهزة الدولة تمرر هذه الرسالة للمواطنين، وتصف السياسة في ذهنه، أنها حشيش ومخدرات يحظر القانون الاقتراب منها، أو الحديث عنها بغير التصفيق والحمد والثناء فقط لا غير، والسياسة في رأيي المتواضع ليست سوى الإدارة العامة لشؤون الناس، تفضي إلى عدل أو ظلم، وأن قراراتها هي التي تحدد طعامنا وتعليمنا وعلاجنا واقتصادنا، والدراهم التي تدخل جيوبنا، نحن الذين نقرر ذلك كله عبر توكيلنا لمن يحكمنا، وكيف يحكمنا، والأمن وحده لا يصنع الوطن، لأن حظيرة الخنازير فيها أمن، والخبز وحده لا يصنع الوطن والانتماء، لأن كل مواخير العالم فيها خبز ومشروبات، الحرية هي التي تصنع الأوطان الحقيقية، والمساواة والعدالة كذلك، ولهذا تنزلت الكتب السماوية والإسلام، معلنة قوامة الأمة على الحاكم والوطن، قال النبي: " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع..." وعقد بيعة الحاكم لا تتم بالإكراه، قال ابن قدامة في المغني: (ج: 8/106) " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته ووجبت معونته"، وقال ابن تيمية: (منهاج السنة ج: 1/142): " الإمامة – أي الرئاسة أو الخلافة- تثبت بمبايعة الناس، لا بعهد السابق له" ولهذا كان مصدر التوكيل والسلطات الأصلية الأمة، توكيلا بالاختيار والشورى والبيعة.
3- موقف الإسلام من ظلم الحاكم: قال رسول الله : " والله ...لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا.." ومن هنا وجب تقويم الظالم بقوة ولا يجوز الاستسلام له أبداً في الإسلام، يقول ابن عطية: " الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب" ولهذا وجب التكتل بأمر القرآن لمنع الباطل وإصلاح الفاسد، قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) 104/آل عمران، وإخبار النبي بأن الأمراء من قريش، اشترط له القيام بالشريعة وحراستها، وتطبيقها: " الأمراء من قريش ما أقاموا الدين" حتى على أنفسهم وأهليهم، وقد طلب النبي قبيل وفاته التحلل من أي مظلمة ظلمها أحد، أو مسامحته فيها، عدل لم يرق إليه حاكم على وجه الأرض قط، وكان أبو بكر وعمر يعطي القود من نفسه، وأبلغ ما وقع عهد عمر، قصة لطم ملك بني غسان جبلة بن الأيهم، الفزاري، يوم مقدمه إلى المدينة مع خمسمائة من أصحابه، وقولة عمر له، إما أن تسترضيه أو اقتص منك، فقال: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال عمر: إن الإسلام سوى بينكما، والفضل يكون بالتقوى، وهكذا سن الإسلام مقاضاة الخلفاء والأمراء أمام القضاة، بالسوية.
4- غياب الخلافة الراشدة مزق الأمة: تاريخنا يقول: أن نسق اختيار الحاكم بالشورى والاختيار والرضا كما في الخلافة الراشدة التي لم تدم سوى ثلاثين عاماً، ثم تغير نسق اختيار الحاكم إلى أسلوب القهر والإكراه والتوريث، فغاب النهج النبوي في العدالة والحرية والقسط في توزيع الثروة، وأصبحت دولة أسرية عائلية تقوم على القبيلة، وفصل بين السياسة والدين رويداً رويداً، فأصبح الحكام في واد، والرعية والفقهاء في وادٍ آخر، وعاش الجميع بصورة توفيقية، لا تخلو من التمرد والثورات والامتعاض، وأصبح الحكم بالوراثة وهو طريق لا تقره الشريعة، ولا العقل ولا المنطق، واستباح الملوك أموال الأمة لمصالحهم، دون عدل ولا إنصاف مع الرعية، وعدالة الصحابة لا تعني عصمتهم، ونحن نعلم أن العصمة للأنبياء، ولهذا عدالة الصحابة شيء ووقوع بعض الأخطاء منهم بمقتضى بشريتهم، لا يقدح في مقامهم، وينبغي أن لا ننسى أن مقصد الشريعة وإرسال الرسل حدده القرآن بقوله: ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) 42/المائدة، ولهذا أي انحراف عن هذا المقصد الشرعي، فهو ما يستوجب عقاب الله، ويعتبر من معوقات الدعوة إلى الله، وكل أحوال الأمة المزرية وانهياراتها الفكرية والعسكرية والاجتماعية بسبب غياب الحكم الراشدي الذي ارتضاه شرع الله، وارتضاه رسوله صلى الله عليه وسلـم، ودفاعنا عن أخطائنا خطأ جديد نضيفه إلى كبوتنا التي لا يصلح حالنا إلا بأن نقوم عنها بالإصلاح والنقد الإيجابي البناء.
5- الإسلام والسلطة السياسية:
أولاً- القرآن وفكرة الدولة: أن حاكمية الكون بأسره لله رب العالمين، هذه الحاكمية في تطبيق ما في القرآن من تشريع، واعتباره المصدر الرئيس للتشريع، وينفي صفة الإيمان والعدل والاستقامة، عن الذين يعطلون تنفيذ أحكامه وتعاليمه، سواء على مستوى التشريع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، قال تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، و( هم الظالمون) و( هم الفاسقون)، وقد اشتمل القرآن على تشريعات تتعلق بالخلافة، وحدود الطاعة، والشورى، وصفات ولي الأمر، والعقوبات، والزكاة (والاقتصاد)، والعبادات، وطالبنا بتطبيقها على المستوى الفردي والجماعي، وهذا كله مقومات وجوب قيام سلطة سياسية، ودولة إسلامية بمعنى الكلمة.
ثانياً- الرسول وفكرة الدولة: الحاكمية لله تعالى، والرسول يمثلها على الأرض، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) 80/النساء، ولا يتحقق تمثيل إرادة الله إلا بتطبيق شريعته، في كافة المجالات، ولهذا جاهد رسول في 27 غزوة، لا ليحكم بشريعة الله في جزيرة العرب، بل ليغير العالم وتحريره من الظلم والجور والقهر الديني والسياسي، ولهذا منذ اليوم الأول لوصوله المدينة وضع ودون الوثيقة السياسية الأولى في الدولة الإسلامية الناشئة، (دستور مكتوب دون تسويف) بين أطراف المجتمع الثلاث: أنصار ومهاجرين ويهود، والعاصمة المدينة.
ثالثاً- الفقهاء وفكرة الدولة: 1- يقول ابن تيمية في كتابه: السياسة الشرعية: " ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، ولا يقام الدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهذا الاجتماع من رأس حتى قال النبي: " لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة في الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم" (ص138)
2- ويقول الماوردي في كتابه: الأحكام السلطانية: " عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع" (ص5)،
3- ويقول ابن قيم الجوزية في كتابه: الطرق الحكمية: " إن الأحكام الشرعية ...يحكم فيها متولي ذلك، بالأمارات والعلامات الظاهرة والقرائن البينة،...فإن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن، فإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور" (ص311).
4- ويقول ابن خلدون في كتابه: المقدمة: " إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، ولهذا بادروا في تأمير أبي بكر ومن بعده، واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام" (167)
5- ويقول أبو يعلى الفراء في كتابه: الأحكام السلطانية: " نصبة الإمام واجبة، وقد قال أحمد: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس" (19).
6- الخلافة الراشدة : تمت بيعة الخلفاء الرشدين عن اختيار ورضا عامة المسلمين، واحداً تلو الآخر، بصور متعددة تذكرها كتب السير والتاريخ، وكان الشرط الذي بويع عليه الأربعة هو تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، وتطبيق شرع الله على الناس جميعاً بالعدل والمساواة، والتنازع والتشاور على الخلافة جائز لجميع المسلمين، لمن يرى في نفسه الكفاءة والاقتدار على اعبائها، وجاء نهي الضعفاء عنها، وكذلك الحريص عليها كغنيمة، وليس في الإسلام عائلة حاكمة، ولا توارث في الحكم، وهكذا صنع الخلفاء الراشدون الخمسة، لم يورثوا، وأوصى عمر الستة أهل الشورى من بعده إذا ولي أحدهم أن لا يحمل أقاربه على رقاب الناس، وأكد ابن تيمية هذا باستشهاده بحديث: " من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولَّى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله" وعد ابن تيمية تولية الأصلح في جميع الوظائف، دون تأثير أي عامل مصلحي دنيوي خاص، وإلا فقد خان الله ورسوله والمسلمين.
7- نظام الحكم في الإسلام:
أولاً- خليفة لا ملك: لهذا كان الملك هو الله، والحاكم أمير أو خليفة أو سلطان، ولهذا حاور عمر سلمان وسأله هل أنا خليفة أم ملك، فأخبره إن أخذ من المسلمين مالاً فوضعه في غير موضعه، فهو ملك، كما يفعل الملوك يستحلون أموال الرعية، والأمير يتم توليته بالبيعة العلنية الشورية، وأمر المسلمون بالطاعة لمن يختارونه على الوجوب: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" ، وهذا له دلالته في عدم قبول الإسلام للحكم الوراثي، ونفاه النبي عن نفسه، ولم يرتضيه لغيره بقوله: " لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل." (مسند أحمد 32/199 بسند صحيح).
ثانياً- الحكم بالشورى: ثبت بآيتين محكمتين في كتاب الله تعالى: (والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون) 38/الشورى، والثانية فيها أمر للنبي المعصوم، قال تعالى: ( فبما رحمة من الله، لنت لهم، ولو كنت فظاً، غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت، فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) 159/آل عمران.
وفي السنة أحاديث كثيرة في فضل الشورى: حديث: " ما تشاور قوم قط، إلا هدوا لأرشد أمرهم" (النسفي ج 4/ 266)، وعن علي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلـم عن العزم فقال: " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" ابن كثير ج1/420).
وأمر النبي بمشاورة المسلمين، ووصف المسلمون بها، في محكم كتاب الله، وقرنت بالصلاة لأهميتها وفرضيتها، وعدد الله في آية الأمر بالشورى إحدى عشرة صفة تتحقق في المؤمنين، عشرة منها مرتبطة بالشورى ومقاصدها وفوائدها، ومن لا يرى وجوبها على النبي بمقتضى النبوة، فإن غيره ليس لديه هذا المقتضى فتجب عليه من باب أولى، وقد رد الجصاص الحنفي القول القائل بأن الشورى من النبي لتطييب الخواطر، أما العلماء المعاصرون أغلبهم يرون وجوب الشورى، ويستشهدون بالتزام الخلفاء الراشدين بها طوال سيرتهم وحكمهم، كما رأى ابن عطية: " أن من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب" (القرطبي: ج4/249)، ولهذا لا بد اليوم من إيجاد آلية تضمن الانتخاب الحر النزيه، وتطبيق الشورى بآليات مناسبة للعصر.
8- نتائج الحكم الملكي العائلي الأموي:
أ- الخروج عن السنن الشرعية في السياسة المالية: فغدت مظاهر البذخ إسرافاً وتبذيراً بليغاً، لدى الخلفاء والولاة، ولهذا زادوا في الجزية والضرائب والخراج، ووصلت إلى ضرائب على الأسماك في أرمينيا، فكرههم الناس.
ب- زرع الجرائم الأولى لفكرة الفصل بين الدين والدولة: بينما في العهد الراشدي كان كل شيء لخدمة الدين، وأصبح الخلفاء والولاة والجنود ومن يخدمهم ويحرسهم، هم قادة الأمة السياسيون، والفقهاء ورجال العلم هم القادة الروحيون، وهذا أدى إلى الفصل بين متطلبات الدين، ومتطلبات الدولة.
ج- التغيير في أسلوب تنصيب الخليفة قهراً وتوريثاً: الذي بدا ببيعة معاوية ويزيد، واستمر بعد ذلك إلى يومنا هذا.
د- تكميم الأفواه: منع الرسول المدح الذي فيه تملق، وكان الخلفاء الراشدون والرعية تصدع بالحق دون مواربة، ولكن في العهد الملكي كممت الأفواه، وأصبح ذلك قد يودي بصاحبه أن يقتل صبراً، أو يضرب ويسجن.
هـ- إحياء الجاهلية والجنسية والقبلية: حين أبطلوا المساواة بين العرب والعجم، وأمر الحجاج بأن لا يؤم الناس في الصلاة أعجمي، وهذا أشاع النزعة الشعوبية عند الأعاجم، في خراسان، وأدى كذلك إلى التفرقة بين القبائل العربية، عدنانية وقحطانية، ويمانية، ومضرية، وتيم، وكلب، وقيس، حتى وصل الأمر أن ينصب في المسجد إمام لكل قبيلة، وهذا ما قضى على دولة الأمويين.
و- تقديم مصالح العائلة الحاكمة على نصوص الكتاب والسنة: في كثير من الأمور المالية والقضائية والدعوية .
9- نحو وعي إسلامي تجاه السلم والعنف:
الخطوة الأولى: التحرر من الخوف:
أ‌- التحرير من الخوف: قال تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) 145/آل عمران.
ب‌- وأن الرزق بيد الله: قال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) 3/فاطر.
ج- وان النفع والضر بيد الله قال تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) 76/المائدة.
د- الخوف من المخلوق شرك: قال تعالى: (إنما هو إله واحد، فإياي فارهبون) 51/النحل.
الخطوة الثانية: الحض على السلاح والإعداد للقتال:
قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله، وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) 60/الأنفال.
قال القرطبي عن ابن عباس: " القوة هي السلاح والقسي، وفي حديث من فوق المنبر قال صلى الله عليه وسلـم: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" وفي حديث آخر: " كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق" وفي آخر: " ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا" وهذا كله فرض كفاية، وقد يتعين" (تفسير القرطبي: ج8/35)، وآيات الأمر بقتال الكافرين والإعداد لمواجهتهم كثيرة.
الخطوة الثالثة: الرسول يقاتل ويصاب، ويأمر بالقتال:
قاتل النبي في 27 غزوة، وأصيب يوم أحد، وشج في وجهه، وسال منه الدم، حتى أنه صلى الظهر قاعداً من الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً، وقال مرة: " من لي بكعب بن الأشرف (اليهودي)، - وكان يحرض على رسول الله- فقال محمد بن مسلمة الأنصاري أنا يا رسول الله، وذهب معه أربعة، وتحقق لهم ذلك.
400 رجل أمر الرسول بأن تضرب أعناقهم: من يهود بني قريظة، لخيانتهم ونقضهم العهد، وكان أبي بن خلف يتوعد رسول الله بالقتل، فقال له رسول الله بل أنا أقتلك، فلما كان يوم أحد، تقدم إلى الشعب الذي فيه النبي وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ فأراد بعض الصحابة مواجهته، فقال النبي صلى الله عليه وسلـم دعوه، فأخذ رمحاً من أحدهم، فهزه هزة أرمحت أصحابه، ورماه فتدحرج من فوق فرسه، وخدش خدشاً صغيراً، ولما رجع إلى مكة، احتقن دم جرحه فقال له أصحابه لا بأس بك، فقال: لا، لقد قال لي محمد: أنه يقتلني، والله لو بصق علي لقتلني، فمات من جرحه بسرف، (تبعد 6أميال عن مكة)، وصنعت الخزرج ما صنعه الأوس فقتلوا أبي الحقيق اليهودي في خيبر، بعد أن استأذنوا رسول الله في ذلك، وكان يحرض على النبي والمسلمين، فتحقق لهم ذلك، وقال رسول الله من لي بهذا الخبيث، وهو " أبي عفك " أحد بني عمرو بن عوف" وكان منافقاً قال شعراً صارخاً ضد الإسلام، معلنا استهزاءه به، ومسيئاً للرسول، فقتل، وقال رسول الله: " ألا آخذ لي من ابنة مروان؟" واسمها عصماء بنت مروان، من بني أمية بن زيد، لما قتل أبو عفك نافقت، وقالت شعراً تعيب فيه الإسلام وأهله، فسارع أحد أقاربها فقتلها، وأخبر النبي وسأله: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله فقال: لا ينتطح فيها عنزان.
أقبل رجل من بني جشم " رفاعة بن قيس، فنزل مع بعض قومه في الغابة، يريد جمع قيساً لحرب الرسول والمسلمين، فقال رسول الله: " اخرجوا إلى هذا الرجل" فخرج بن أبي حدرد، مع اثنين آخرين، وكمنا له حتى قتله بسهم وحز رأسه، وحملوا عليهم فخافوا وهربوا، فاستاقوا إبلهم وماشيتهم، فأعطاه الرسول منها ثلاثة عشر بعيراً، فأتم زواجه بها، وسمع رسول الله بأن ابن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع الناس لغزو المدينة فقال لعبد الله بن أنيس، فأته فاقتله، وحدد له مكانه وعلاماته، فذهب وتمكن منه وقتله، وقال له رسول الله أفلح الوجه، وأعطاه عصا علامة من النبي لتكون معه يوم الحشر، فدفنت معه، وكان من شعره ما يصور حماس المؤمنين لنصرة نبيهم قوله:
وكنت إذا همَّ النبي بكافر ...................سبقت إليه باللسان واليد
ولقد استغرب وخشع أبو سفيان من جيش الإسلام القادم لدخول مكة يوم الفتح، حتى قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال العباس قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال فنعم إذن، وأمر رسول الله بقتل عين للمشركين (جاسوس) فقتله سلمة بن الأكوع، وأعطاه سلبه، وكذلك جاء ثمانية من قبيلة عكل لم يتكيفوا مع جو المدينة فطلبوا لبناً، فأمرهم أن يخرجوا إلى مسرح إبل المدينة يجدوا طلبهم، فخرجوا وشربوا أياماً حتى سمنوا، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فجاء الصريخ، فخرج وراءهم شباب المدينة فأتوا بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وأسملهم، حتى ماتوا.
10- الإسلام والخروج على الحاكم:
الدليل الشرعي: الأول من القرآن: سبع آيات قرآنية تلزمنا وتلزم الحاكم بها بأن يحكم بشريعة الله قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) 44/ المائدة، وأخرى: (هم الفاسقون) وأخرى: (هم الظالمون)، وقوله: (فاحكم بينهم بما أنزل الله) 48/المائدة.
الدليل الثاني من السنة:
أ- حديث عبادة بن الصامت: عن رسول الله: " سيلي أموركم من بعدي رجال يعرِّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم، فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل" (الحاكم- والطبري: وهو صحيح)،
ب- وحديث ابن مسعود عن النبي: " سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ويحدثون البدع، قلت: فكيف أصنع؟ قال: تسألني يا بن أم عبد كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله". (الطبراني في الكبير: صحيح).
ج- وحديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي: " ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم، فلا يكونن عريفاً، ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً" ( ابن ماجة: صحيح).
د- وحديث أبي سعيد الخدري: " قام فينا رسول الله خطيباً، فكان من خطبته أن قال: " ألا إني أوشك أن أدعى فأجيب، فيليكم عمَّالٌ من بعدي، يقولون ما يعلمون، ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهراً، ثم يليكم عمَّال من بعدهم يقولون ما لا يعلمون، ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم و وازرهم وشدَّ على أعضادهم، فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء" (الطبراني في الأوسط- والبيهقي في الزهد وهو صحيح).
هذه النصوص:
أ-جاءت تصف وتخاطب المجتمع المسلم القائم بالإسلام.
ب-واجتهادات الفقهاء كانت في ظروف الحكم بشريعة الإسلام إجمالاً، ولا شريعة سواها.
ج- حكام تلك العصور لم تكن تحكم في الناس – عدا السلطة – بغير شريعة الإسلام.
د - التطرف في تلك البيئة والظروف كانت من خارج أهل السنة والجماعة.
هـ لم يكن يدور في خلد الفقهاء الأئمة أو يتصوروا حاكم يحكم بشريعة النصارى ويحارب الإسلام.
- يقول ابن كثير: في تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون) 50/المائدة، ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم، ...إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من الشريعة، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات...فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل أو كثير" (ابن كثير: ج1/225).
- قال شيخ الإسلام بن تيمية: لما سئل عن قتال التتار مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام قال: " كل طائفة ممتنعة عن الالتزام بشرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه كالصلاة، كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم".
- قال القاضي عياض: " فلو طرأ عليه – أي الخليفة – كفر، أو تغيير للشرع، أو بدعة، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل". ، وقال أيضاً: " اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وإن المراد بذلك مشركوا العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره".
رد شبهة في حديث: أما حديث: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية" هذا الحديث يطرح أمامنا عدة أسئلة: 1- من الأمير المقصود؟ 2- ما هي نوعية الكره؟ 3- ما حدود الصبر؟ 4- أي جماعة مقصودة في الحديث؟ من الطبيعي أن يكون الحاكم المقصود بالحديث الحاكم المسلم الملتزم بتحكيم الإسلام في الرعية بالمجمل، فإذا كان منه مخالفات شخصية، فتكفي النصيحة، أما إذا ألغى الشريعة أو فرائض منها، أو شعائر، فلا ينطبق عليه الحديث كما قال العلماء، وحديث عدم الخروج ما أقاموا الصلاة، يتناقض مع قتال المرتدين الذين أقاموا وقبلوا الصلاة، ورفضوا فقط الزكاة، ومنع الخروج على الحاكم الذي جاء بعقد بيعة شرعية، أما اليوم فقد حكموا من غير رضا ولا بيعة ولا شورى، ولا التزام بشرعة الإسلام في تحريم الربا، واستحلوا الخمور والميسر (القمار) ومنعوا نصرة المسلمين، وناصروا من الكفار من يستبيح دماء المسلمين، (ولاء للكفار) ويوالون أعداء الإسلام على أهل الإسلام، وينشرون الفساد، ويقتلون من يأمر بالقسط من الدعاة والناس، وأنفقوا أموال المسلمين لإيذاء أهل الإسلام، لصالح أعداء الإسلام، (كل هذا يجعل ولايتهم غير شرعية)م. ن.
الدليل العقلي:
المتأمل في واقع المسلمين اليوم يرى الأنظمة إنما هي امتداد للقوى الاستعمارية الغربية الكافرة، وتنصاع بأوامرها، وتعمل لخدمة مصالحها، وليس لخدمة مصالح الإسلام والمسلمين، والتخوف من مصطلح الثورة، بطريقة علمية واعية مبرمجة للتغيير الجذري للأوضاع غير المقبولة عقلاً ولا شرعاً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلـم، فهو أمر لا بد منه، إذا كنا أتباع صادقين لهذا النبي وهذا الدين، إن الذين يأتلفون مع الظلم والظلمة هم ظالمون لأنفسهم وهو أشد أنواع الظلم، قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ..) 97/النساء، وقال تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين) 5/القصص، وهذا ما بينه الله في القرآن من رسالات أنبيائه في مواجهة مشكلات الجشع التجاري، والطغيان السياسي، والتحلل الاجتماعي.
11- الحقوق السياسية للأفراد في ظل الإسلام:
أ- حق انتخاب رئيس الدولة: (للمكلفين): قال ابن قدامة: " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته، ووجبت معونته" (المغني: ج8/106) – وقال ابن تيمية: " الإمامة تثبت بمبايعة الناس، لا بعهد السابق له" (منهاج السنة: ج1/142)، ويتم ذلك عن طريق مبدأ الشورى، (وسيلة) والقصد منه قيام الأمة بتكليف من اختارته لينوب عنها ويعاونها وتعاونه على تطبيق أحكام شرع الله، (الغاية)، والمركز القانوني لرئيس الدولة في الإسلام: نائب ووكيل عن الأمة، لإدارة شؤونها، وفق منهج الله، والأمة مصدر السلطات: لأنها هي صاحبة التوكيل والاختيار والتكليف والمسؤولية، الميكانيكية في التنفيذ: لم يحددها الإسلام بقالب معين، لأن المهم ان يعبر المكلف عن رأيه، ويحدد اختياره تطبيقاً للشورى والتشاور، بأي طريقة تحقق الغرض، بشكل مباشر، أو عن طريق التوكيل والنيابة، وفي التطبيق الراشدي كان الذي ينتخب هم أهل الحل والعقد، وبهم تمت البيعة الكبرى. أهل الحل والعقد: كما يفهم من قراءة الماوردي، والفراء، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن كثير، هم المتبوعون في الأمة، الذين تثق بهم وترضى برأيهم، وعلاقتهم بالناس علاقة النائب والوكيل، وهم وكلاء عنها، واختيارهم كاختيار الأمة نفسها، لأنها تسير وراءهم، وتصدر عن أوامرهم ونصائحهم، كيف نعرف أهل الحل والعقد في عصرنا هذا؟ يمكن أن نحددهم بالانتخابات النيابية والتمثيلية، فيحصلوا على التوكيل اللازم للنيابة والثقة باختيارهم، ويمكن أن يمثلوا أغلب شرائح المجتمع، بطريقة منظمة تطرح على الاستفتاء العام قبل التطبيق.
ب- حق المشورة: يكون كذلك بعد اختيار الحاكم، لأن الأمة لا توكله على بياض دائم في كل شؤون حياتها والمستجدات التي تتعرض لها الأمة، ولهذا باعتباره وكيل عنها، فعليه الرجوع إليها كل ما دعت الضرورة، وبشكل دائم، وهو صريح القرآن، وهذا ما صرح به ابن تيمية في السياسة الشرعية فقال: " لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه، وهذا ما ذكره الطبري في تفسيره: " إنما أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه، مما أمر بمشاورتهم فيه" ج4/94، ويؤيده تفسير القرطبي ج4/250، وكذلك الرازي: ج9/66، " قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك- أي النبي بالمشاورة- ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته" وكان النبي أكثر الناس مشاورة لأصحابه، ولهذا صرح بعض الفقهاء: بأن ترك هذا الحق من قبل رئيس الدولة موجب لعزله في الإسلام، وقد ذكره ابن عطية، واعتبر عزله حينها واجب، القرطبي: ج4/249- وهذا يمكن من خلال انتخاب الأمة من يمكن استشارته من العلماء والخبراء والنصحاء، (مجلس شورى الدولة)، ويمكنهم اختيار رئيس الدولة المؤقت حال شغر منصبه لعارض.
ج- حق مراقبة رئيس الدولة: بمقتضى عقد التوكيل، المبايع عليه، بمقصد تحقيق تطبيق دستور الأمة وشريعتها، من خلال النصيحة، وإلا إذا لم يستجب - للالتزام بالشريعة - من حق الأمة سحب الثقة منه، قال الرسول صلى الله عليه وسلـم: " والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذنه على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم" (أبو داود- رياض الصالحين).
د- حق عزل رئيس الدولة: وإذا خرج الحاكم عن حدود وكالته، أو قصر في القيام بمهامها، أو خان الأمانة بشكل متعمد، عندها يحق للذين انتخبوه أن يعزلوه، بسحب الثقة، وهذا ما صرح به ابن حزم فقال: " الإمام واجب الطاعة، ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن زاغ عن شيء منهما، منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يُؤمن أذاه، إلا بخلعه خُلِعَ، وولي غيره، (الفصل بين الملل والنحل).
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

Re: غياث العرب من استمرار الجرب

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

تتمة غياث العرب من استمرار الوهن والجرب
(10): خلاصة كتاب " سلفية العدل عديل الصلاة" د. عبد الله الحامد.
1- رعيل الصحابة اهتموا بإتقان العمل: وقدموه على الانشغال بسفسطة الكلام والجدل.
وكانت عروبة الصحابة تأنف أن يسودها مستبد أو ملك مهما كانت قرابته وانتماؤه إليهم، ولهذا لم يكن لديهم في جزيرة العرب ممالك أو ملوك، واكتفوا بأن يسودهم زعماؤهم بالاختيار والصفات الشخصية، دون إكراه بالسيف، أو قوة جيش لدولة، لأنهم ليس لديهم دولة أصلاً، فلما جاءهم رسول الله قبلوا به سيداً وآمراً طواعية، لأنه رسول من الله، وقبلوا خلفاءه الراشدون لأنهم خلفاء رسول الله بالاختيار والرضا والشورى، فلما انتهت الدولة الراشدية إلى الملك والوراثة بحد السيف والتغلب، بدأت الفتن والثورات وتراجعت دولة العدالة والشورى والمساواة.
وبدأت الأفكار المتطرفة والمنحرفة تتولد من القهر والاستبداد، فخرج علينا فكر الخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وغيرها من الأفكار، لغياب المنهج الراشدي، الذي يناقش كل فكر، ويعالج كل خطأ، ويحتمل كل مستجد على محمل تحمل مسؤولية إرشاد الناس وخدمتهم، وتحقيق مطالبهم العادلة، وحين غاب هذا أصبحت أمور الناس مضطربة، بين مستكين مسالم، ومتمرد مقاوم، ومعتزل فكره غائم.
2- هل يكون المفهوم السلفي حارساً للاستبداد والتخلف؟ كيف ضحى المدروشون بالعدل من أجل إقامة الصلاة؟ وهذا أدى إلى خذلان الأمة في زمن الهيمنة الصليبية والإمبريالية العالمية، واستشراء الاستبداد والظلم والتخلف، فتمسكوا بتوحيد يحرم الطواف حول القبور، ويبيح الطواف حول طغاة القصور، مضحين بحقوق الأمة والإنسان، مدافعين عن حقوق المتغلب والسلطان، متجاوزين المنهج النبوي والراشدي في الحكم والعدل والشورى، بحجج لا تتماسك أمام المحكم من كتاب الله، والثابت المطبَّق من سنة رسول الله، ولئلا ينحصر فقه مصباح القرآن والسنة بنظارات الفترة العباسية: وإنما المنهج الراشدي الصالح في فهم نصوص الوحي، وليس الاستنتاجات هي الملزمة، لاختلاف المتطلبات بين عصر وآخر، خاصة في الحياة المدنية، وتنظيم شؤون الأمة وقوامتها في حفظ ومناصرة الشريعة إلى يوم الدين.
3- التعصب للتمذهب: الفقهي والعقدي الصارم اليوم، أصبح من أكبر المشكلات التي تفرق كلمة الأمة من أن تجتمع على الأصول والمصباح المضيء الذي هو نور الوحي الإلهي، (كتاب وسنة) لحل مشكلات مستجدة، لم يتناولها السابقون، لأنها من بنات العصر الذي لم يولدوا فيه، ولم يدركوه، واستدعاء الماضي في كل مشكلات الحاضر، خطأ يأباه الشرع الحنيف، كما قال الفقهاء: " لا يستغرب تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" في غير الثوابت.
4- السلفية المعاصرة: أ- قدموا أفضل خدمة للإمبريالية وهم لا يشعرون: أمة مقهورة مسلوبة الإرادة، مهدورة الحقوق، مذلولة في كرامتها وحريتها، أضاف عليها السلفية المقلدة، تبديع وتكفير وإعانة الظلمة عليها، حتى أوصلت كثير من شبابها – مع تجفيف منابع الثقافة الإسلامية الأصيلة – إلى الكفر بالإسلام، أو احتقار العلماء، أو اليأس من الإصلاح، وهذا كله يجري على قدم وساق، وهم لا يهمهم سوى تبديع وتكفير كبار الدعاة والعلماء الذين لا يوافقوهم على آرائهم الجامدة، وأساليبهم الفجة، التي لا تستند إلى نور مصباح الوحيين، كما تنور به واهتدى الراشدون في زمن الرشاد، وهذا أعظم خدمة لأعداء الإسلام، بتنفير الشباب من حيوية نصرة الشريعة الحنيفية الغراء.
ب- المدروشون قدموا أفضل خدمة للعلمنة: حيث أن الخطاب الديني المتمسح بالسلفية، خدم الاستبداد والتخلف، أكثر من ما خدمهما الخطاب الخوارجي والشيعي والزيدي والمعتزلي، لأن هذه الأخيرة مكشوفة ومضى زمنها، أما الدروشة السلفية الحالية، فإنها تنتج تلاميذ مخلصين للظلمة اليوم، فترتد أفعالهم حججاً قوية لأعداء تيار الإسلام ككل، وهذا ما يخدم العلمانيين والإمبريالية العالمية في استخدامهم بمهارة في مشاريعهم الشرق أوسطية للسيطرة على المنطقة والعالم الإسلامي أجمع.
5- وأخيراً: أفسد المدروشون التعليم: في عصر الهيمنة الغربية، بإنشاء مدارس مدنية على أسس تهميش حياة المسلمين المدنية من خلال العناية فقط بالحياة الروحية، بعيداً عن المنهج الراشدي، بحيث يكون التركيز على حفظ المتون، دون تفعيل العمل المنتج الإبداعي، [ الذي تتطلبه حياة المسلمين المعاصرة، ليكون الذي يحقق متطلباتهم هو الأجنبي المصنع، وهم فقط المستهلكين، مع أن المنهج الراشدي كان قائماً على العمل دون سفسطة أو جدل، وطمس الجانب الإبداعي في التراث والشريعة، لصالح الجانب الاتباعي والحفظي، فخرجت الجامعات أشبه بأئمة المساجد في كل الفنون والعلوم، ولم تخرج علماء كعلماء السلف الذي كانوا منارات للأمم والشعوب والجنود والقادة، ومن تعلم في المدارس المدنية، وكان لديه شيء من الذكاء، فإنه يهاجر إلى الغرب ليبدع عندهم لصالح مؤسساتهم وأوطانهم الغربية، ويتبقى للعرب والمسلمين من يجيد الاتباع، ولا يجيد العمل والإبداع، فأصيب التعليم لدينا في مقتل] م. ن.
6- الداء عم جميع الفرق السلفية العباسية: التي ورثها الخلف، في تأييد الحكام الظلمة الذين أدى السكوت على طريقتهم إلى موات الأمة التي نتساءل عنها اليوم (بأي ذنب قتلت)، حتى المعتزلة الذين رفعوا راية العدل والحرية، وقدسوا العقل، انتهى المطاف بهم للسير في ركاب المستبد برأيه المأمون، ففقدوا مصداقية كثير من أفكارهم التي بالغوا فيها نظرياً لا عملياً، وأصبحوا ظالمين مع الظالم، فلم يظهر من عظمة إسلامنا العظيم، بعد أن خفتت القيم الراشدية في زمن الملك العضوض، فأصبحت كسروية، أو قيصرية، والعلماء مالوا رويداً رويداً إلى ما يشبه الرهبنة، والسفسطة، والكهانة، إلا من استثناءات لم تستثمر ولم تستمر، فرجع حالنا إلى ما يشبه الجاهلية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلـم أمرنا أن نستمسك بما كان عليه النبي وأصحابه، وأن يسعنا ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم أن يدعوه، منشغلين بالعمل والجهاد ونشر الإسلام، ويمكننا اليوم أن ندعه ونتجاوزه، ولا ننشغل به كذلك، ونلتفت إلى ما يلزمنا مما يلح علينا بمتطلبات الإجابة عليه، وتحويله إلى مشاريع عملية تنهض بالأمة من كبوتها القاتلة، لكي لا يصبح القرآن نصا مفتوحاً للتأويل الفاسد، عند المترهبنين، الذين يعيدون تشكيل نصوص الشريعة، لتشكيل سلفية متدروشة، تفصل شروط إقامة الصلاة، عن شروط إقامة العدل، وإسلام الدولة والمجتمع، وشعارها" إمام ظلوم خير من فتنة تدوم"، أو شعار" الصلاة خلف الإمام الجائر"، فتُسقِط من كتب العقيدة مبدأ العدل عموماً وعدل الحكم خصوصاً، وهو أساس صلاح الأفراد والجماعات والدول.
7- السلف المقلد يجابه بسلف مجدد: لإعادة الأمور إلى نصابها الراشدي: وهذا ما فعله دعاة السلفية المجددة، للموازنة بين إقامة العدل وإقامة الصلاة في هذا العصر، عصر الهيمنة الغربية، كالكواكبي، وحسن البنا، وسيد قطب، ومحمد المبارك، يبينون شمول العقيدة، ولا يجدون ضرورة لتفكيك الصياغة العباسية، أخذا بالحكمة والموعظة الحسنة، واستدعت السلفية المقلدة نصوصا عابرة لأحمد بن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية والجويني وابن القيم وابن قدامة والقرطبي وعبد الله بن سهل التستري وابن رجب وعبد الله بن أحمد، لإبقاء الأمور على ما هي عليه سابقاً، ولم يفطنوا إلى أن أقوال السلفيين ليست حجة على نص القرآن والسنة.
ميزان: "ما أنا عليه وأصحابي": بعد أن دونت الشريعة بمصادرها، قامت السلفية العباسية بكتابة وتدوين الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالعقيدة متأثرين بعوامل عصرهم وهي:
أ- تحديات اختلاط ثقافات الأمم التي دخلت في الإسلام، فكان هاجسهم الخوف على انحراف العقيدة.
ب- استخدموا علم الكلام المحدث بعد أن استوعبوه ودرسوه، فكتبت العقيدة على ضوئه وطروحاته في عصرهم.
ج- تأثر من كتب في العقيدة بضغوط مناخ عصرهم في هيمنة حكم الفرد المتغلب، والأسر المتغلبة، فلم يلتفتوا إلى مسألة قوامة الأمة على الحاكم، ولا المتطلبات المدنية التقنية من زراعة وصناعة واقتصاد واجتماع وسياسة فيما كتبوه، وانتقل واستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا، مع أن الفارق بيننا وبين الرهبنة النصرانية والبوذية والهندوكية، هو هذا الذي تجنبت السلفية المقلدة الكتابة فيه، ليكون الإسلام والتوحيد كما كان في العهد النبوي والراشدي في شموليته،
وهذا يتطلب منا جميعا، أن نتجرد من الخصومات القديمة، وأن ندرك أن جوهر كل حركة أو دعوة يتسمى بالسنة أو السلفية؛ هو ثلاثية 1- النص مصباح القرآن والسنة، 2- في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، 3- ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، وليس الفكر، ولا الفرق ولا المذاهب، ولا الصياغات والاجتهادات المؤقتة هي الحجة.
الصياغة السلفية لشق العقيدة الروحي في مجال الغيب، ركزت على المشكلات التي طرحها غلاة المعتزلة والقدرية والزنادقة والوثنيون، كما في الكتاب المنسوب إلى أحمد" الرد على الزنادقة"، لكن هذه المشكلات مضت بأهلها، ووجدت أمور لا تقل خطورة عنها اليوم، في هيمنة الاستبداد المستعين بالهيمنة الغربية؛ للإبقاء على تفكك الأمة وتخلفها، لمصالح شخصانية وغير شرعية.
ويمكننا التمسك بالشعار النبوي: " ما أنا عليه وأصحابي"، فالنبي وأصحابه طبقوا العقيدة نظاما تكامل شطراه الروحي و المدني معاً، والراشدية هي التطبيق العملي والتفسير الفطري للوحي بشقيه (الكتاب والسنة)، وفهم هذه الأصول والتفريع عليها، ليس وقفا على سابق دون لاحق، والرسول صلى الله عليه وسلـم يقول "رب حامل علم إلى من هو أوعى منه".
8- الصراع مع الفرعنة و الثقافة الأجنبية أنهك السلفيات العباسية:
فليس للفلاسفة، بله المعتزلة امتياز احتكار العقل، مفهوم العقل في العصر العباسي لم يكن دقيقا، فالعقل المسلم به هو صحيح علوم الإنسان والطبيعة وهو الحسي والتجريبي والبرهاني، أما كثير من هرطقات الفلاسفة، فإنما هي أوهام الأهواء، لاسيما ونماذج العقل، عند أمثال ابن رشد، إنما هي تقليد ونقل واجترار للفكر اليوناني التجريدي وتكرار، ليس عليها أثر النقد فضلا عن الابتكار، فليس كل ما نسبوه إلى العقل معقولا، وإن ادعوا العقلانية، لأن العقل مفهومه إنما هو بوصلة، كما شهد القرآن، ولذلك تأتي مرادفاته النظر والتفكير والإبصار والتذكر، ولكنه بوصلة برهانية حسية تجريبية، وليس بلبلة تجريدية، ولا فرملة صحراوية.
وأن علينا أن نفرز ما هو قطعي ثابت من مبادئ الدين، من ما هو اجتهاد فردي لصحابي، ولوكان راشديا، عندما نكون أمام قول الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء: » الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب"، فهذا هو منهج السلف الذين نزل بينهم المصباح، أن يشغلهم العمل عن الشقاق والجدل، في الكلام عن الأمور الغيبية التي لم تفصلها النصوص، ولا يترتب عليها عمل.
ولكن جبه السائل أو ضربه أو إهانته، إنما هي معالجة فردية انطباعية، كما في بقية قول مالك للرجل الذي سأل عن الاستواء" السؤال عنه بدعة، أخرجوه عني فإنه رجل سوء ".ولعل مالكا أراد اتباع عمر بن الخطاب لما ضرب صبيغا، عندما سأل أسئلة منكرة.
ولكن عمر رضي الله عنه كان في بداية التماس، وقد اجتهد في إغلاق هذا الباب، ولكن هذا الباب لم ولن ينغلق بسيوف ولا رماح، لأن الفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظومته، فكيف سنقنع الناس بفكرنا، إذا كنا سنقول للسائل: أنت مبتدع، أو أنت رجل سيء، حكمنا فيك أن تضرب بالجريد و النعال-كما ينسب للشافعي-. وليس تصرف عمر ولا مالك ولا الشافعي قاعدة شرعية من قواعد الدعوة لكي نتمسك بها باسم السلفية.
مؤثرات ضخمة الآثار؛ حاصرت التيار الصافي، فجعلته غير قادر على صياغة فكر متسق عميق، يشكل منظومة معيارية، يمكن أن تعتبر منارة للأجيال اللاحقة، فأصبح التيار السلفي، كغيره من التيارات عندما يؤصل أو يفرع، متأثراً بها إن شعر وإن لم يشعر.
كل هذه الروافد مازجت الثقافة الإسلامية الصافية، رغم حرص روادها على حفظ السنة، وعلى نقاء الحديث من الوضع والتحريف، بنقل قراءات القرآن الكريم، لكن هذا الجهد لم يستطع إيقاف موجة الفساد السياسي ولا التأويل الفكري، ولكنه استطاع أن يحول دون اكتسابهما مشروعية، عندما شكل الرواد الأوائل وعاءاً ناقلا حافظاً للإسلام، وهذا يكفيهم فخرا.
9- أكبر إخفاق للسلفيات العباسية في إغفال شروط دولة العدل والشورى:
أ- المتمثلة بقوامة الأمة على حكامها، واستقلال القضاء، وحرية التكوينات الاجتماعية، وأهمية وحدة الأمة، واحترام رجالات أهل الحل والعقد، وحقوق الإنسان الفطرية، وضوابط حماية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكانة الجهاد السياسي السلمي في المجتمع المسلم، وخطر السكوت عن الطغيان، وتنظيم حل الخلافات بين طوائف أهل الإسلام، وكيفية المحافظة على نمو المجتمع والوطن المسلم، ووسائل الدفاع عنه أمام أعدائه، كل هذه المعطيات أغفلت في خضم الصراع الكلامي بين الفرق والطوائف، والتركيز على قضايا التوحيد، وإغفال قضايا الحكم والسياسة.
ب- السكوت عن أئمة الجور والتبعية للإمبريالية ما أقاموا الصلاة: كأن الإبقاء على الصلاة يبيح ضياع الأمة وهويتها ومصالحها المشروعة، التي من أهمها العزة والسيادة: مع أن التفريط في العدالة كالتفريط في الصلاة، فإذا كان إنكار الصلاة كفر روحي بواح، فإن إنكار العدل كفر سياسي بواح، وغيابه سر سقوط الأمم وضياع هويتها وسيادتها، وهذا يتطلب تعميقا وترويجا لمواصلة نحت خطاب النهضة الذي بدأه روادها، كالأفغاني، وخير الدين التونسي، والكواكبي، ومحمد عبده و شاه ولي الله الدهلوي، ومحمد رشيد رضا، و حسن البنا، و سيد قطب، و محمد الغزالي، و القرضاوي، وعبد المجيد الزنداني، ومحمد أبو فارس نحوهم.
ج- نتيجة السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية أمية سياسية وتبعية للغرب: انقلب الهامش على المتن، فحل (الرأي) محل الوحي، وحلت الهوامش والحواشي والشروح، محل الصريح والنص الصحيح، و ضربت كليات الدين بجزئياته، و ضربت كلياته القطعية بالنصوص المجتزأة من سياقها، وأصبح غياب الفكر السياسي في المسلمين هو نقطة الضعف الكبرى في صياغة السلف العباسي لصياغة العقيدة، فصرنا كلما ازددنا تدينا ازددنا بالسياسة جهلا، فصدق علينا قول المعري:
الناس صنفان: ذو دين بلا.........عقل، وآخر عقل لا دين له.
10- منهج السلفيات المقلدة يدفعها إلى تقبل كل حجاج ولو تبع قيصر:
الترهل الفكري والرهبني، دفع هؤلاء إلى لي النصوص، لتنطق بأهواء وانطباعات رهبانية، وبدوية، وفرعونية، وسفسطية، فحول الإسلام المكتمل إلى ثقافة دينية شعبية خاملة تخدُم ولا تُخدَم، تنزوي وأعداؤها يتوسعون، تقارب الأديان الوضعية والمحرفة، وتتفوق عليها في ضعف التأثير، وخفوت الصوت، وتحول أتباعها إلى ما يشبه الدراويش، مع أن عزة المسلم من عزة الله ورسوله، كما صرح القرآن الكريم، وأراد هؤلاء بمنهجيتهم القاصرة، أن يكونوا حراساً وخدماً لمن يستهين بمعتقدهم ودينهم، بقصد أو بجهل دون قصد.
إن من أخطر الأشياء، أن نتصور الفقهاء مخولين بالتوقيع عن رب العالمين، لأنهم أولياء الله الذين يحددون ما يريد، فالله لا ينيب أحداً بالتوقيع عنه، إلا نبي مرسل، يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم....وفي عهد الإمبريالية الغربية؛ كيف يستطيع المحافظون على صياغة التراث السياسي العباسي، تقديم أدوية من صيدليات علماء العصور الماضية، وأغذية من ثلاجاتهم، لتحديات الحداثة السياسية والعلمنة، والعولمة والهيمنة والفرنجة، وكيف يصوغون فقها سياسيا، تنهض به دول إسلامية حديثة، توقف هدم هوية الأمة ودينها لصالح الغرب والشرق، وهم لا يثمنون - أولا يدركون- مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها، كسلطة الأمة، وسلطة مجلس النواب، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، والتجمعات الأهلية ولا سيما المدنية.
11- سلفيي اليوم المقلدون: صادروا الأصل الراشدي وهم لا يشعرون:
فمناخ القمع السياسي، أورث الفكر الديني إغفال التسامح، وكثرة الخلاف وحدة التدابر، ومن أجل ذلك نكرر مرارا: لا يمكن أن ينبت في مناخ الاستبداد السياسي؛ أي صلاح ديني ولا اجتماعي لا تربوي ولا تعليمي، ولا اقتصادي ولا صناعي ، ولا معرفي ولا تقني، وأشد عيوب تيارات الفكر الديني العباسية؛ أنها توهم قراءها وأتباعها، أنها هي الإسلام الصريح الصحيح، وأنها هي المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، وأنها هي الفرقة الناجية التي كان عليها المصطفى وأصحابه ،من خلال رفع شعار الكتاب والسنة، ولكن حقيقتها أنها رؤية اجتهادية، أي مسائل خلافية، فيها خلاف معتبر لمسائل غيبية أكثرها يعتمد على أحاديث آحاد، وأغلب ما مناكفاتها في ما لا يترتب عليه عمل.
الاستبداد السياسي يدفع إلى الاستبداد الديني والانغلاق، لأن العقل الذي يقبل ذلك، يقبل هذا، حتى يصير ترديد قول إمام المذهب، أكثر من ترديد قول الرسول، صلى الله عليه وسلـم، مع أن ائمة المذاهب لم يرضوا لتلاميذهم التقليد، قال أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، وقال ليعقوب: ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمع مني، فإنني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد الغد، كما نصح أحمد تلاميذه أن لا يكتبوا عنه ولكنهم كتبوا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله:" إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي". قال ولي الله الدهلوي :" وهذا أمر جعل الحكم، في القضية الواحدة، يتضاربُ ويختلف بين الوجوب والحرمة، والكراهية والندب والإباحة، مما لا يتصور أنْ ينزله اللَّه سبحانه وتعالى القائل: ( ولو كان من عند غير اللَّه، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )، ولذلك صَرّح أحد العلماء بأن هؤلاء الأئمة، لو جاءوا اليوم لرجعوا عن كثير من آرائهم، بعد أن جمع الحديث وصحح.
12- دولة الاستبداد وظفت المذهبية والطائفية لطاعتها:
وقد دشنت العصبية المذهبية، ضيق أفقها بالصراع الشرس، الذي شوه الجو الروحي للمساجد، وثارت عنجهياتها في الأمور الصغيرة، ومن يقرأ تاريخ بني العباس، يعجب لتقاتل الناس حول الجهر بالبسملة في الصلاة، أو حول أمور غيبية، لا يستطيع أحد الطرفين أن يأتي بنص صحيح صريح يبرهن به صحة رأيه، وكل منهم يعزو ماله من رأي إلى منهج الصحابة، دون أن يدرك المتدابرون أن الصحابة كانوا يختلفون ولكنهم يصلون خلف إمام واحد، ولم يكن لأي فريق سياسي أو اجتماعي مساجد معينة.
افتقدت أغلب التيارات الدينية; الحس السياسي والاجتماعي، الذي يربط عقيدة التوحيد بالوحدة أيضاً، ولم تدرك أن الإسلام لم يأمر بشيء بعد التوحيد; كما أمر بالانسجام، وتآلف القلوب، ولم ينه عن شيء بعد الكفر، كما نهى عن الشقاق والتحارب والتباغض، فصارت الخلافات المذهبية، حطبا جاهزاً، توقد به نيران الفتن والعداوة والتدابر والتناحر بين المسلمين، حتى رأى بعض المسلمين بعضاً، شراً من اليهود والنصارى وبذلك أعاد المسلمون إنتاج الغلو في الفكر والفعل، الذي دشنه الخوارج; وهم لا يشعرون.
ومن لوازم قمع التعددية الدينية فقدان السلام الاجتماعي، في النسيج الاجتماعي، عبر أساليب الإقصاء الاجتماعي باسم الدين، وانتضاء سلاح التفسيق والتبديع والتكفير، ومهما يكن لهذه الأساليب من المبررات العلمية على المستوى النظري، فإن صورها التطبيقة الشائعة، تدل على جهل يقدم باسم العلم، وغلو يستساغ باسم الدين. وضعف حس سياسي واجتماعي، لا يراعي ضوابط إنكار المنكر والدليل على ذلك تفرق الأمة، وضرب وحدتها، باسم التوحيد.
عندما تلقى العصبية المذهبية خصومها في جحيم الدنيا والآخرة معا، وابن حزم يدعم هذا القول في الملل والنحل، فيقول: "ذهبت طائفة إلى أنه لا يُكفر ولا يُفسق مسلم، بقولٍ قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك، فدان بما رأى أنه الحق، فإنه مأجور على كل حال، فإن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد « وقوى ابن حزم هذا الرأي بنسبته إلى عدد من كبار الفقهاء فقال: " وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداوود بن علي، رضي اللَّه عنهم أجمعين، وهو قول من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي اللَّه عنهم".
13- القمع مفسدة للمجتمع والدولة معا:
هذه الحقيقة فطن لها عمر بن عبد العزيز الحاكم الأموي، فكاد أن يستل من الخوارج ومن الشيعة, دوافع مالهم غلو أو إيغال, أو تمرد اجتماعي أو فكري, ناتج عن الاغتراب, الناتج عن الفوضى الثقافية والاجتماعية، ولكن لم يفطن لها حاكم أموي آخر إلا لماما، ولكن عمر لم ينجح في إقامة عدل مستمر، لأن إصلاحاته لم تكن علاجا مؤسسيا، بل كان علاجا شخصيا يعالج ظواهر الداء و مضاعفاته، دون أن يستطيع معالجة جوهر الداء نفسه وهو الاستبداد، الذي لا يزول إلا بقواعد الحكم الشوري.
و ظواهر التململ والتمرد الاجتماعي، لا تردع إلا بالشورى والحوار والتسامح والتعددية، فالفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظومته، ومنظومة الفكر هي العلم والمعرفة، وسلاحه هو البرهان والحجة، وآلاته هي الألسنة والأقلام، و أجواؤه هي التسامح والحوار والتعددية، و قبول الآخر كما هو والتعاون معه من باب أن المواطنين شركاء، لا عبيد أتباع، خلف سادة طغاة. وميدان معركته هو المجالس والنوادي والمساجد والمجامع، ومن الغريب أن نشوء المعتزلة وإعطائهم للعقل دوراً كبيراً في تاريخنا، كان رداً على التحكم الأموي، إلا أنهم تناسوا هذا في زحمة استمرار التحكم العباسي، فانغمسوا فيه مع المأمون وابنيه، لقمع خصومهم.
14- التعصب والتمذهب: أنتج منهج تربية الخضوع (تربية القطيع):
عندما ساد التعصب للمذهبية، صار الناشئة يربون على الالتزام بالمذهب، ويحفظون مسائله أكثر من تحفيظهم أدلتها من الكتاب والسنة، وقد أثمر ذلك ثماراً مرة، منها أن الناشئ لا يكاد يتذكر من غير أهل مذهبه إلا المساوئ والمخازي، فينسى الدارس أن الحنابلة والأشاعرة، والمعتزلة وغيرهم، يلتقون في أكثر المسائل الأصولية والفروعية، ويلتقون في سنن من الدين صريحة لا ينبغي إغفالها، ولا سيما في أركان إسلام الدولة، وصارت محاربة كتب الرأي الآخر باجتنابها، مما ساعد ذلك على ضعف المنهجية في العلم، وضعف الروح المعرفية، مما يغلق الأذهان ويفتك بالحرية والتسامح.
وسيطر التقليد من خلال المنهاج التعليمي، عندما حفظ الدارس المتن بدون الدليل، جعله عامياً في طريقة تفكيره، فهذه الكتب أنتجت مقلدين في لباس مجتهدين، وأميين في لبوس متعلمين، وعوام في لبوس خواص، على أن من لم يعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة، فقد خالف إجماع الأمة كلّها، واتبع غير سبيل المؤمنين، وهذا يؤدي إلى أن لا يكون الرسول هو المتبع، لأن من رأى غير الرسول أولى بالاتباع ، فقد وقع في عبادة العلماء والأئمة ".كما ورد في حديث حوار عدي بن حاتم رضي الله عنه مع رسول الله.
وكان الناس في العهدين الراشدي والأموي يفقهون القرآن والحديث من خلال مشكاة التطبيق النبوي والراشدي، وكانت أقوال الصحابة في ما بعد تكتسب دقتها ومنهجيتها وانسجامها في إطار هذا الحقل، حتى بعد زوال الحكم الراشدي، كانت صورة النظام ماثلة في العيون، ومن أجل ذلك اشترك كثير من فقهاء العصر الأموي في ثورات سبع، من أجل إعادة شروط إسلام الأمة والدولة، وكانوا يتبعون أقوال التابعين، والتابعون وفقهاء العصر الأموي كانوا يتحدثون ويفتون، وأمامهم صورة حكم الراشدين الماضية.
ثم ظهر أئمة المذاهب في مطلع العصر العباسي، وكانوا أحرارا مجاهدين، ولكن تتابع الإخفاق السياسي؛ ألزمهم مضائق فقه الاضطرار، فاتبعهم الناس، ومنذ عصر الرشيد والمأمون بدأ ينشأ فقه الاضطرار الذي نظر إلى سيطرة الملك العضوض، على أنها حقيقة اجتماعية، لا مجال لتغييرها، فأدى إلى استقرار سيطرة المتغلب وشيوع الظلم، الذي أفرز كثرة اللصوص والسراق والفساد، فأنشأوا أحكاما جديدة، نالت من حقوق الإنسان وحقوق المتهم فاتبعهم من بعدهم، ورسخت المذاهب الفقهية منذ مطلع العهد العباسي، واكتمل بنت منظوماتها المخلة بشروط إسلام الدولة والأمة السياسية، ولم يكن أمام المتأخرين في عهد شيخوخة الحضارة العباسي إلا الاتباع، وامتلأت الساحة الإسلامية بالصراعات على صغائر الأمور كالجهر بالبسملة أو الإسرار.
15- إبقاء الأمة الإسلامية على طابعها الصحراوي الذي بدأت به:
بسبب انكفاء الخطاب الديني على العلوم الشرعية التعبدية، واجتناب الخوض في الأمور التي تمس الحكام والمجتمع، ولم تصغ التيارات الدينية العباسية وما بعدها خطابا قادرا على احتضان علوم الإنسان و الطبيعة، بحتة أو تطبيقية بل لقد حقرت علوم العمران، والسلفيات أكثر الفرق وأداً لعلوم الطبيعة والإنسان، والتفكير العملي والصناعي والتقني، كما في أقوال الغزالي في مقدمة المستصفى وابن الحاجب وابن قدامة، وكان سبب ذلك يتعلق بالرهاب من مناقشة الأمور المتعلقة بالحكم والسياسة، وجعلها في خانة الدنيا، فألحق بها العلماء إهمال الاهتمام بالعلوم التطبيقية، لأنها مما يتعلق بالدنيا كذلك، وهذا ما كبح جماح التقدم العلمي الكبير في العلوم التطبيقية، التي تفوقت بها الأمة الإسلامية على غيرها، لكن التعليم الديني المتأخر المتشنج كان له دور سلبي في استمرار التقدم العلمي في الأمة، لأن الانشغال بالصراعات مع الاستبداد السياسي أقفل على العقول الذكية، ووجهها إلى اجترار مناقشة قضايا التكفير والتبديع والاستسلام لخدمة الحاكم المتغلب.
16- التفريط بالعدل والحرية إخلال في الحكم بما أنزل الله:
الرسول صلى الله عليه وسلـم الذي أطلعه الله على سرائر المنافقين، عاملهم في الأحكام المدنية معاملة المسلمين، مع أن القرآن تحدث عنهم كثيرا، وبين من علاماتهم مالا يخفى على الصحابة المتابعين، فكان المنافقون معروفين للرسول على وجه اليقين، لا على وجه الظن والتخمين، وعلي بن أبي طالب، الذي ترك الخوارج أحرارا، ولم يقاتلهم حتى حملوا السلاح، والخوارج كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل شر أهل البدع، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز التقي، حيث ترك دعاة البدع دون قمع مادي، بل ولى أحد دعاتهم بيت مال المسلمين، وعمر أعرف بالسنة، بل إن شيخا المحدثين البخاري ومسلم، رووا عن عشرات المبتدعة، من الخوارج والشيعة الإمامية، والقدرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة، ولو كان لدى هؤلاء المحدثين أدنى شك في إسلام المبتدعة؛ لنزهوا الحديث الشريف، عن أن يروى عن كفار أو مشكوك في إسلامهم.
السلفية منهج هي الاحتكام إلى مصباح القرآن والسنة، وفقههما من خلال التطبيق النبوي الناجح، وتطبيق السلف الراشدي الصالح وفقهه، ونزيد على ذلك التركيز على ضوء حقائق علوم الاجتماع والطبيعة، فكل حركة إسلامية, لا تهتم بشروط بقاء الأمم وارتقائها المعتبرة، ولا تدرك أن العدل أساس في الدين؛ ليست صحيحة الانتساب.
17- من دون بصيرة سياسية وحضارية، هل يعتبر المرأ فقيها أو مثقفا؟
امتص الفكر الإسلامي عشرات من النزعات السلبية، التي حفلت بها الثقافات الأجنبية، فامتص النزعة الرهبانية من النصرانية وعقائد الهنود، وامتص النزعة الكلامية من الفكر اليوناني في خريفه، وامتص النزعة الاستبدادية من الفرس، فوقع في سوء الاقتباس من الثقافات التي أحدثها تماس الأجناس وتقارض الثقافات، وتعرض الاجتهاد إلى خمس مكدرات: المكدر الصحراوي، والمكدر الكسروي، و المكدر اليوناني، و المكدر الرهباني، ومكدر الحذر من العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة، وصيغت ثقافتنا في العصر العباسي، حاملة هذه المؤثرات، وصيغ الفكر تيارات، وصار الناس يأخذون من الكتاب والسنة الأجزاء المتناثرة التي يرونها من خلال هذه الشاشات، والتي تروق لهم، وتنسجم مع هذه المتناقضات، مما أخل بالمنهج الحقيقي لتعاليم الكتاب والسنة، الذي جاء أصلاً لتنظيم الفلاح الدنيوي والأخروي عبر وحدة الأمة والتوحيد.
18- نحو صياغة سلفية توازن بين شقي العقيدة الروحي والمدني: هناك طريقان:
الأول: أن يضربوا عن كل هذه الصياغات العباسية صفحا: كما فعل سيد قطب في كتابه" التصور الإسلامي" فعزز هذا الاتجاه، فأخذ العقيدة من نصوص القرآن والسنة، وتجاوز فهم رجال الفرق الكلامية كلها، ولذلك يصح أن يقال في اتجاهه: إنه كسائر تيار الإخوان المسلمين، يسير في مسار الإصلاح الديني، الذي يقصر مفهوم السلفية المحتذاة على السلفية الراشدية، سلفية ما قبل الخلاف السياسي والمذهبي والكلامي بين المسلمين، كما يقول صلاح عبدالفتاح الخالدي (في ظلال القرآن في الميزان:29نقلا عن الزنيدي: 143)، وكما يرى أيضا عدنان زرزور؛ أن من مزايا تفسير الظلال؛ تجاوز عصر الخلاف أو عصر المذهبية، في تفسير القرآن (عن الزنيدي:143)، وفي الاتجاه نفسه كتب آخرون، كعلي الطنطاوي وعبد المجيد الزنداني.
الثاني: رأوا أنه ينبغي أن تأخذ صياغة العقيدة اليوم؛ من تيارات الفكر الديني العباسي، ما هو معياري في الإسلام، وهو الالتزام بمرجعية صريح الكتاب والسنة القطعي، وإجماع الراشدين والصحابة السابقين، وهي المرجعية التي دعا إليها الفقهاء الأوائل، رافعي شعار السلفية، وأن تأخذ من تيارات الفكر الديني العباسي أيضا كراهية الفلسفة اليونانية التجريدية، والبحث الخيالي السفسطائي، وتأخذ من سلفية ابن تيمية، تخليص العقل من الخرافات الروحية في جانب التصورات، كالاستغاثة بالأموات، وتأخذ من سلفية محمد بن عبد الوهاب بساطة التعبير، وروح العمل البعيدة عن وحل الجدل، وفكرة التوازن بين شق العقيدة المدني والروحي، وأنه لا دعوة من دون دولة، ولا ملة دون استقلال، كما ظهر في حركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، وتحاول ان تجيب على الأسئلة الشاخصة. وأن تتجنب الأخطاء التي وقعت فيها السلفيات المواضي، أثناء التنظير أو الممارسة، أو هما معا.
19- اختلاط الأجناس استدعى الاحتراس في توصيف شقي العقيدة الروحي والمدني:
للسلفيات العباسية جهود موفورة مشكورة، في سياق الاجتهادات، التي حاولت بها أن تحل النوازل والتحديات، من خلال ما بين يديها من معطيات، وأهم جهد لها كان في تبويب وترتيب مسائل شق العقيدة الروحي كالصلاة، وتوصيف ما هو مجمل من شق العقيدة المدني كالمعاملات، وتفصيل مسائل فقه الفروع، عمل يكاد أن يكون متكاملا في جانب العبادات الروحية، بحدود حوالي 90%، كما أشار القرضاوي، أما جانب شئون الحياة المدنية أغلبه مجمل، أو غير مجدول أو غير منسق، فلم يفصل منه إلا حوالي 10%. ، وهذا يدعونا إلى أن نفرز ما رواه السلف العباسي الصالح في العقيدة عن ما أنتجوه في غيره، فإن كان أمرا ثابتا بقرآن صريح، أو بحديث متواتر صحيح صريح فهو قطعي، فهو سواء أكان أصلا كالإيمان بالقدر، أو فرعا كالتيمم؛ فهو من قطب السلفية، والتزام فهمه حسب سنن العرب الفصحاء، العارفين بأصول البلاغة العربية ودلالتها فهو قطعي، وإن كان مما هو اجتهاد يجوز فيه الخلاف، فهو اجتهادات وحركات زمنية مكانية، وهو مجموعة من الآراء البشرية، تحتمل الصواب والخطأ، وهو من ما أنتجوه.
وكانت الثقافة اليونانية، حاضرة في بروز الفرق الإسلامية، ولهذا فليس كل ما قاله المعتزلة من البدعة، ولا كل ما قاله المنتسبون إلى السلفية في العصر العباسي من السنة، فلهؤلاء وهؤلاء أفكار هنا وهناك هي من السنة، وهذه الأفكار حاول لم شتاتها الأشعري، الذي حاول أن يقف موقفا وسطا، بين المحافظين الذين توقفوا، والمجددين الذين اندفعوا أو استعجلوا وانبهروا، ثم جاء الغزالي، الذي كان أعمق منه، لأن قدر على تفكيك خطاب التجديد من الداخل، فرفض منه وقبل، ولكن الروح الأشعرية الساكنة، حرمته من نفحة المجالد المجاهر وهاتان الخطوتان مهدتا المجال لابن تيمية، لكي يفكك الفلسفة اليونانية ومنطقها، بصورة أفضل، ولكي يعيد للفكر واقعيته، وروحه العملية.
ولهذا نجد من آراء ابن تيمية أكثر دقة وعمقا من آراء من سابقيه الحنابلة، لأنه استوعب ما قبله، وأن آراء الغزالي أفضل من آراء الأشعري، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، وأن آراء الشاطبي في مقاصد الشريعة، أعمق من آراء ابن تيمية، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، واللاحقون أفضل من السابق، في بناء الأفكار، لأنهم يصعدون فوق كتفيه، فيرون من الأفق ما لم يره السابق.
ولكن الأزمة ازدادت حدة, عندما جاءت الحضارة الغربية, بجبروتها العلمي والتقني والعسكري, فأصابت الفكر الديني الإسلامي بصدمة ثقافية كبرى، على جميع الصعد، عسكريا واقتصاديا وتربويا، الأزمة التي هزمت المسلمين أمام الاستعمار اليوم، وسبيل إصلاحه لا يكون إلا عبر العودة المباشرة إلى مصباح الكتاب والسنة، وزجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الاجتماع والطبيعة، والسعي إلى بناء المجتمع المتكتل المتعاون الفاضل، لوصل ما انقطع بين السمو الروحي والمدني، لأن الغفلة عن ضعف ارتباط المدنية بالروحية في العقيدة الإسلامية, يطأطئ هاماتنا للاستلاب والاستحواذ رويدا رويدا, في حركات إرادية وغير إرادية, تزداد استمتاعاً بالرق الحضاري، فنزرع فكر الخمول والتخلف في الأمة, أو فكر التغريب والفرنجة المجتلب.
20- من فرط في إقامة العدل رعاية لإقامة الصلاة، فقد آثر هوى كسرى وقيصر على هدى محمد:
السلفية الحقة جهاد وإصلاح سياسي واقتصادي وحقوقي وتربوي وقضائي وإداري وتعليمي، ولا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن إنكار المنكر السياسي جهاد، وأن هذه مسألة قطعية، لا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن وجوب تغيير المنكر باللسان مسألة قطعية انعقد عليها الإجماع، والخلاف إنما هو في جواز إنكاره باليد؛ عند عدم زواله بالكلام أو عند منع الكلام.
فكيف يكون الإنسان اليوم سلفيا وهو لم يكتب ببنان، و لم يتكلم بلسان، فضلا عن أن يشارك دعاة الإصلاح السياسي في إصدار بيان، فضلا عن يعتصم ويتظاهر في ميدان، وهو يرى المنكرات الكبرى في الدولة العربية القامعة داخليا، المنقمعة خارجيا، ولا سيما تلك الفواحش العظمى:1- اسقاط سيادة الأمة والتلاعب بمصيرها. 2- منع حرية التعبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- الإخلال بالعدالة، وهدر نزاهة القضاء. 4- إهدار ثروة الأمة لصالح أعدائها وثلة من أغنيائها. 5- الإخلال بالمنهج التربوي الإسلامي الأخلاقي. 6- التبعية للإمبريالية والتفريط باستقلال الوطن.
والفقهاء المخضرمون الذين عاشوا في العصر الأموي وأدركوا مطلع العباسي، كالأوزاعي ومالك وأبي حنيفة والشافعي. كانوا يعبرون بمواقفهم عن أن العدل والشورى من أصول الدين، والإمامان الأحمدان ابن حنبل وابن تيمية وتلاميذهما كانوا بمواقفهم يقولون: حرية الرأي في الاجتهاد من أصول الدين، والصبر على السجن فيها من الجهاد، والقتل في سبيلها إنما هو استشهاد، وسبيل فقه النهضة الإسلامي، هو التركيز على عودة العدل إلى مركزه، كثاني عمادين لفسطاط العقيدة، عودة شطر العقيدة المعطل إلى مكانته أولا، لكي تصلح قيم المجتمع التي خلختها الصياغة العباسية، للثقافة الإسلامية ولكي ندرك أن الإسلام إصلاح روحي ومدني معا.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها،..............إن السفينة لا تجري على اليبس
لا سبيل أمامنا من أجل شحذ الروح الجماعية، التي يحس فيها كل فرد بتبعته في الشأن العام، إلا بالإسلام، وكل المفاهيم التي لا تنبثق من الإسلام إنما هي أشجار اجتثت من فوق الأرض ما لها من فرار.
21- طلائع الصحوة السياسية والحضارية الحديثة:
لم تخل خطوات طلائع الصحوة السياسية من أخطاء كبار وصغار، ولكنها في التفصيلات لا في المنهج والكليات، أي أن منهجها في التركيز على القيم المدنية والفقه السياسي صحيح لا ريب فيه، ولا مناص منه، وتنبه كثير من المصلحين في العصر الحديث، إلى ماران على الدين من بدع ومنكرات، وإلى ما في مناهج تعليمه من ركود وجمود، وينبغي لنا اليوم أن نجدد الدين، بإعادة صياغة الفكر الإسلامي صياغة جديدة، تراعي شمول الدين وتوازنه بين الغيب والشهادة، كما في صياغة كثير من العلماء العاملين المجددين، وتعود إلى سلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة ، وتستلهم منهما العقيدة الصافية البسيطة، الخالية من الغموض والتعقيد والتبعيض.
وقد لقيت محاولات سلفية الصحوة السياسية رفضا من التيار السلفي المحافظ، على الصياغة العباسية في العقيدة والثقافة، فجوبه السلفيون السياسيون بتبديع وتكفير كثير، نال أمثال الغزالي وسيد قطب والقرضاوي، و سلفية الصحوة السياسية، تدعو إلى النهوض العام الشامل، والاستفادة من أفضل ما أنتجه العقل العباسي الإسلامي الماضي وفهم الدين فهما شاملا من خلال مقولات الشاطبي والعز بن عبد السلام: الشريعة نظام، وليست إلغاءاً للتراث العباسي.
ومن هؤلاء ما كتبه " حاكم المطيري" الأمين العام للجمعية السلفية، الذي استوعب كوارث الخليج وتبعة فقهائه الغافلين، فأصدر كتابا بيانا سلفيا، ضد الصور السلفية الباهتة، بعنوان: الحرية أو الطوفان، صدر 1425هـ (2004م))، طارحا السؤال التالي: "كيف بدأ الإسلام دينا يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل، إلى دين يوجب على إتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة ولي الأمر؟" (الحرية أو الطوفان:7 )، الذين يمشون في ضباب نظرية (ولي الأمر العباسي)، التي تجعل الحاكم قطبا تدور الأمة حوله كالأغنام حول الراعي، إنما يحمون التخلف السياسي بخطاب ديني، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وإن كانوا لا يشعرون.
ومن أجل ذلك ينبغي اليوم أن يتداعى اعيان الأمة في كافة أقطارها، وينادوا بدولة العدل والشورى، ويذكروا الحاكم أيا كان وصفه بأن البيعة الشرعية إنما هي على الكتاب والسنة، وإنما مضمونها: شرطان: العدل، والشورى، فمن أخل بهما وجب على الناس كافة، خفافا وثقالا، نساءا ورجالا؛ جهاده سلما، عبر البيانات والمقولات والمواقف، والتجمعات، والاعتصامات والتظاهرات والإضراب والعصيان المدني، ولا ينبغي الخوض في العقيدة، في مالم يخض فيه سلف الصحابة الراشدي، كما نبه الشوكاني والذهبي، وفعل ابن عبد البر والشاطبي، وكلا الفريقين من أهل السنة والجماعة.
وأن يتذكروا أن القول بتطبيق الشريعة، من دون دستور إسلامي، يضمن العدل والشورى؛ إنما هو غفلة أو تغافل، عن الوسائل الشرعية، التي هي فرائض شرعية، مادام لا يمكن تحقيق المبادئ من دونه، على أن تكون المطالبة بذلك بطرق سلمية، لأن مخاطر الانقلاب، في الأمم والأوطان كبير، فالسلاح عندما يتحكم في الناس، قد يؤدي إلى الفوضى والحروب الأهلية، وتدخلات الدول الأجنبية، ولأن التكتل السلمي، أضمن وأجدى وأعمق وأبقى وإن تأخرت النتائج، ولأن الأسلوب السلمي المتدرج في المطالبة، بالدستور الإسلامي، هو الأصل في الإسلام، وهو مضمون النجاح على المدى الطويل، والتضحيات في سبيل هذا الهدف النبيل لإعلاء كلمة الله والحق، أجرها عظيم كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلـم: " أعظم الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر" . والسلام.
أضف رد جديد

العودة إلى ”الحوار والفكر التنويري“