تاريخ منسي في البوسنة

''

المشرف: محمد نبيل كاظم

قوانين المنتدى
''
أضف رد جديد
محمد نبيل كاظم
Site Admin
مشاركات: 776
اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm

تاريخ منسي في البوسنة

مشاركة بواسطة محمد نبيل كاظم »

البحث يتسارع عن عصا كاترينا ملكة البوسنة بعد أكثر من نصف قرن
التاريخ يدور دورته.. سرداب يعود مكانا للعبادة بعدما ظل مرقصا لمدة تزيد على 50 سنة
عصا الملكة كاترينا ليست محل اهتمام أطراف بوسنية فحسب، بل يأتي باحثون من الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا والنمسا وإيطاليا يسألون عن أخبارها، وما إذا كان هناك أمل في العثور عليها («الشرق الأوسط»)
سراييفو: عبد الباقي خليفة
منذ أكثر من نصف قرن، اختفت آثار عصا الملكة كاترينا، التي حكمت البوسنة، قبل فتحها عام 1463 على يد السلطان العثماني محمد الفاتح. ولا تزال الآمال في العثور عليها معلقة على الحفريات التي تعتزم وقفية عيسى بك إسحاقوفيتش إجراءها لإماطة الركام عن مقابر زعماء دينيين مسلمين كانوا رؤوس العباد (بنصب العين وتشديد الباء) قبل دخول العثمانيين إلى البوسنة، ومن ثم انتشار الإسلام على نطاق واسع، بـ200 سنة. ويعتقد أن العصا التي تلقى اهتماما كبيرا من قبل مؤرخين وعلماء آثار غربيين أيضا، موجودة تحت الركام، أو في باطن الأرض حيث دمّر الكثير من أماكن عبادة المسلمين، إبان الحكم الشيوعي للبوسنة والهرسك، وتحديدا بين عامي 1952 و1958.
قصة عصا الملكة كاترينا مرتبطة ارتباطا وثيقا بأماكن العبادة التي هُدّمت أو حُوّلت إلى مرافق أخرى، منها الحرم البوغوميلي (البوغوميلية المسيحية الغنوصية كانت الديانة السائدة في البوسنة قبل الإسلام)، الذي أصبح مكانا لتلاوة القرآن والأذكار والصلاة والاجتماع، وعُرف بـ«مصلى بنت الباشا»، قبل أن يحوله الشيوعيون إلى بيت للدعارة، ومن ثم إلى مرقص في عقد التسعينات من القرن الماضي. بيد أنه أعيد أخيرا إلى سالف عهده مكانا للتنسك، ومقهى تجاريا، ومطعما في وقت لاحق.
الملكة كاترينا ورثت «العصا»، التي كانت رمز القوة أو السلطة في العهد البوغوميلي، عن أبيها الملك أرتور. وعندما عزمت على مغادرة البوسنة باتجاه دوبرفنيك (في كرواتيا) في طريقها إلى روما، حيث دفنت بعد وفاتها، فإنها تركت العصا لابنها سيغموند الذي كان عمره يومذاك 7 سنوات. ولقد تبنى السلطان العثماني محمد الفاتح سيغموند وأخذه معه إلى اسطنبول، وأدخله الجيش، ومن ثم صار قائدا كبيرا من قادة الجيش العثماني. ولتعلقه بمحمد الفاتح أراد سيغموند أن يهديه أعز ما يملك، ألا وهو العصا التي ورثها عن أجداده. ولاحقا سلم محمد الفاتح العصا إلى أحد القادة الدينيين الذين ساهموا في نشر الإسلام ببلاد البلقان، لا سيما البوسنة. وظلت العصا تنتقل من شيخ إلى آخر، إلى أن فقدت آثارها عام 1952. ويُقال إن الشيخ الحافظ موليتش كان آخر من كانت بحوزته، وإنه أخفاها بانتظار عصر أفضل لا يكون فيه خطر على هيبة الدين وعز المسلمين. وإن العصر الذي يرنو فيه الإسلام للريادة هو عصر ظهور العصا. ومما يذكر أنه بجانب مكانة العصا في الثقافة البوغوميلية، كان هناك القوس والسهم وهما رمز للحياة والموت، والسيف الذي هو رمز «العدالة» إذ يقال «العدل حاد كالسيف».
عصا الملكة كاترينا ليست محل اهتمام أطراف بوسنية فحسب، بل يأتي باحثون من الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا والنمسا وإيطاليا يسألون عن أخبارها، وما إذا كان هناك أمل في العثور عليها. ويقول ماهر جيشكو، المسؤول عن أوقاف عيسى بك إسحاقوفيتش، لـ«الشرق الأوسط» إنه قبل مجيء العثمانيين إلى البوسنة بـ200 سنة «كان هناك مسلمون في البوسنة لكنهم كانوا أقلية، وكانت هذه المنطقة (بنت الباشا) تسمى بروداتس، والمنطقة القريبة من هنا (فراتنيك) تسمى هودي دياد، وتعني مناداة للجد (تعال يا جدي).. وفي هذه المنطقة ولد عيسى بك إسحاقوفيتش، الذي كان نصرانيا واعتنق الإسلام هو الآخر قبل مجيء الأتراك. عيسى بك هو أول من حول هذا المكان إلى ما يشبه المركز الثقافي بالمفهوم المعاصر، ويتكون من مبنى للعبادة ومكتب إداري، ومسرح. وهو من بنى جامع سراي بوسنة، وأول دار ضيافة للمسافرين بها 60 غرفة، والتي كانت الإقامة فيها مجانية لمدة 3 أيام، ومعها مطعم خيري للمسافرين والفقراء. وأقام عيسى بك إسحاقوفيتش أول حمام تركي في سراييفو، وشيد أسواق باش تشارشيا بعد عودته من تركيا». ثم تابع «لم يمض وقت طويل على اعتناق عيسى بك إسحاقوفيتش الإسلام حتى وصل العثمانيون إلى البوسنة عام 1463، وعندها تبوأ مكانة مرموقة، وما لبث أن دعاه السلطان محمد الفاتح إلى اسطنبول حيث أقام هناك، وكان الشخص الوحيد الذي كان يتجاوز على السلطان لشعوره بمقدار الحب والتقدير الذي يكنه رأس السلطنة العثمانية لشخصه. ويقال إنه كان يلعب الشطرنج مع السلطان وعندما يشعر بالهزيمة يبعثر الأحجار ولا يعترف بالخسارة، وكان مَن يحضر المباريات لأول مرة يظن أن السلطان سيبطش به، إلا أن السلطان كان يضحك ويربت على كتف عيسى بك إسحاقوفيتش معجبا بإصراره.. وقد أرسله السلطان ليكون واليا على البوسنة، حيث أقام المعالم السالفة الذكر.
أثناء التمدد العثماني في منطقة البلقان دخل جميع أتباع البوغوميلية في الإسلام تقريبا، وسبقهم إلى ذلك أغلب الألبان الموزعين حاليا على أكثر من دولة مثل ألبانيا الأم وكوسوفو ومقدونيا والجبل الأسود واليونان والأقاليم الألبانية في صربيا (بريشيفو وميدفيد وبيانوفاتس). كما دخل كثيرون من الصرب والكروات والبلغار وغيرهم من القوميات البلقانية في الإسلام، وساهموا في بناء المساجد ومراكز العبادة والمعالم الثقافية والحضارية في المنطقة، بحكم الحاجة الروحية لتلك المعالم.
وعام 1878، إثر «معاهدة برلين»، أجبرت الدولة العثمانية على التخلي عن إقليم «السنجق» لصربيا والبوسنة للنمسا، وبدأت محنة المسلمين في المنطقة. فصودرت الأوقاف وهدمت أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين، لا سيما في صربيا، حيث هدم 200 مسجد في العاصمة بلغراد وحدها. وقد عرف العدوان الثقافي عدة أوجه إبان العهد الشيوعي، عبر تجفيف ينابيع الثقافة الإسلامية ومحاولة تصفية الوجود الثقافي للمسلمين أو (حق الاختلاف). وشهدت تسعينات القرن الماضي قمة العدوان البيولوجي أو الإبادة وتهديد بقاء المسلمين عبر المجازر. فالإمبرطورية النمساوية المجرية قطعت علاقات المسلمين البلقانيين التابعين لها بالمشرق، وأبدلت الحروف العربية باللاتينية، كما غيرت لغة الإدارة والبحث. والمملكة الصربية أوقفت نمو الثقافة الإسلامية. ثم تولى العهد الشيوعي في يوغوسلافيا هدم ما تبقى من معالم ثقافية وروحية، وضرب حصارا على أي محاولة للتواصل الثقافي وغيره للمسلمين مع إخوانهم في البلاد الأخرى.
في هذا الإطار، كانت الحملة الشيوعية التي استهدفت المراكز الدينية في البلقان عامة 1952. ولم تمض 5 سنوات على تلك الحملة حتى تمكنت السلطات الشيوعية من إجبار الإدارة الدينية على الموافقة على هدم أماكن الذكر ليمثل ذلك غطاء دينيا لقرار سياسي بحيثيات آيديولوجية، وليبدو القرار دينيا أو نتيجة صراع داخلي بين المسلمين. فالتجمعات والحركات التي لم تستطع السلطات السيطرة عليها كانت تقوم بحظرها، بدل الاستفادة منها، وترك الحكم عليها للشعب والأمة.
وقد أجبرت الإجراءات الشيوعية عددا من الزعماء الدينيين على الانكفاء والعزلة، من بينهم محمود ابن عيسى بك إسحاقوفيتش، والحافظ الحاج ميوغا مرهامين، وحجي (الحاج) خالد بوتانوفيتش، والحافظ الحاج خالد أفندي حجي موليتش، آخر من كانت عصا الملكة كاترينا في حوزته. وظل حجي موليتش 40 سنة في اعتكاف إجباري لا يلتقي بالناس. ويعتقد أن العصا دفنت معه، أو تحت ركام الأماكن التي هدمت.
واليوم يدور التاريخ دورته، وتنشط حركة دؤوبة لإعادة بناء ما هدم من أماكن العبادة والذكر. كما استعيد المكان الذي كان معبدا بوغوميليا ثم أسلم أهله فحولوه إلى مكان للذكر والصلاة والتعبد، وفي العهد الشيوعي كان بيتا للدعارة حتى سنة 1990، ثم تحول إلى مرقص (ديسكو) ووكر للجريمة المنظمة بين 1995 وحتى مايو (أيار) 2009. ولم تستطع وقفية عيسى بك إسحاقوفيتش استرجاعه بالكامل إلا بعدما دفعت مبلغ 16 ألف يورو للشخص الذي كان يستثمره كمرقص للخروج منه، وذلك في أعقاب رفض البلدية فسخ العقد الذي كانت أبرمته مع ذلك الشخص.
كذلك بوشر بإزالة النفايات من على قبر محمود ابن عيسى بك، و5 من الرموز الدينية التاريخية، وعثر على مذكرات ومذاكرات عيسى بك إسحاقوفيتش لدى بعض الأهالي الذين التقطوها من بين الركام بعد هدمها في العهد الشيوعي واحتفظوا بها، ثم سلموها قبل بضعة أسابيع للمسؤولين عن الوقفية. وقيل إن الشخص الذي احتفظ بها لأكثر من 50 سنة سلمها لابنته قبل وفاته. وذكر لها أنه أخذها خلسة قبل هدم المسجد الذي كان يتنسك فيه.
ومما يقوله ماهر جيشكو «بعت محطة تلفزيونية (ألفا) من أجل ترميم هذا المكان الذي كلفني 150 ألف يورو وجرى افتتاحه أخيرا». وعما يعني لديه كل التراث، قال «مقولة التاريخ يعيد نفسه أثبتت صحتها. إن ما يجري انتصار للتراث، فالإبادة يمكنها أن تقضي على الأشخاص، لكنها لا تقضي على الثقافة».
وعن الفترة التي تحتاجها عملية إعادة بناء المعالم التي هدمت إبان العهد الشيوعي، قال «نحتاج لأربع سنوات على أكثر تقدير لإزالة الركام، وإحياء المعالم لتستأنف نشاطها، ويبعث فيها ماء الحياة من جديد... وسنعيد الجسر على نهر ملياسكا إلى مكانه العتيق، وسنجدّ البحث عن عصا الملكة كاترينا لتعود إلى المشيخة من جديد».
للعلم، تبدي السلطات التركية اهتماما كبيرا بالإرث الثقافي في البوسنة ومنطقة البلقان، وهي ـ كما سمعنا ـ مستعدة لدفع جميع تكاليف إعادة بناء الأماكن المهدمة ولديها الخرائط والتصاميم السابقة لتلك المعالم.


أضف رد جديد

العودة إلى ”السيرة والتراجم“