صفحة 1 من 1

كيف يكتب خصومنا تاريخنا؟!

مرسل: الثلاثاء فبراير 09, 2010 7:50 am
بواسطة محمد نبيل كاظم
تاريخ المسلمين .. كيف يكتبه خصومهم؟(4) بقلم - أ. د. عبد العظيم الديب/ 02-02-2010http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?blobcol=urldata&blobheader=image%2Fjpeg&blobkey=id&blobtable=MungoBlobs&blobwhere=1221557248681&ssbinary=true
والحديث عن خطورة التاريخ، وأثره في انبعاث الأمم ما زال موصولاً، فنقول: إن ما عرضنا لطرفٍ منه، وأشرنا إليه من الكيد والتدبير لتشويه تاريخنا، يدخل في باب (التضليل المعلوماتي) وإذا كان التضليل المعلوماتي قد أصبح علماً له نظرياته، ومدارسه، وتطورت وسائله، وتنوعت مجالاته.
ولا يستطيع أن ينكر ذلك عاقل، فليس معنى ذلك أن التضليل المعلوماتي لم يظهر إلا في هذا العصر، بل لقد كان موجوداً من قديم، ويمارس بطرقه ووسائله المتاحة حسب الزمان والمكان، وإن لم تكن قد صيغت نظرياته ومفاهيمه، وتحددت قواعده، وتمايزت مدارسه، شأنه في ذلك شأن جميع العلوم الإنسانية، تنشأ وتمارس، ويعيش بها الناس ما يشاء الله لهم أن يعيشوا، ثم ينشأ العلم بعدُ، كعلم الخدمة الإجتماعية مثلاً.
وآية ذلك ـ أعني استخدام التضليل المعلوماتي قديماً ـ ما كتبه الفيلسوف الفرنسي المعاصر رجاء جارودي، قال:" في إحدى صفحات الكتاب الرائع لأناتول فرانس (فوق الحجر الأبيض) يوجّه أحدُ المؤرخين سؤالاً إلى مدام نوزبير: ما أتعس يوم في تاريخ فرنسا؟
ولم تكن مدام نوزبير على علمٍ بهذا اليوم، وعندئذٍ قال لها المؤرخ: إنه عام 732م، إنه العام الذي جرت فيه معركة بواتيه، التي هزم فيها المسلمون، ولم يستكملوا دخلوا فرنسا، في هذا اليوم انهزمت الحضارة العربية أمام البربرية الفرنسية، ولولا هذا اليوم الأسود ما عاشت فرنسا قروناً متطاولة في ظلام العصور الوسطى حتى سطعت عليها شمس الحضارة" أ.هـ كلام أناتول فرانس في كتابه الرائع.
ثم يكمل جارودي قائلاً: هذا النص يثير في نفسي ذكرى لذيذة، إذ كنت في تونس سنة 1945م، وأثناء محاضرة لي عن ابن خلدون ذكرت هذا النص من كتاب أناتول فرانس ـ الذي كان وقتئذٍ مقيماً عاماً في تونس ـ أي حاكماً عاماً لها، إذا بهذا الحاكم العام يأمر بطردي من تونس، بدعوى الترويج للدعاية ضد فرنسا، وكان لهذا الحدث دلالة ومغزى.
من وجهة النظر الاستعمارية، فإن مجرد تذكير المستعمرين (بفتح الميم) بعظمة ماضيهم وثقافتهم، كان يعتبر إهانة للاستعمار، وخطراً يهدده." انتهى كلام جارودي، وهو غني عن أي تعليق.
وفي عهد الاستعمار في إحدى دول الشمال الإفريقي كان أستاذ الفيزياء الأجنبي يدرس نظريات الضوء، ويستشهد بكلام عالم قديم مبتكر اسمه (الهازان) ويذكر تاريخ ابتكاراته ونظرياته، فسأله أحد تلاميذه: من هو (الهازان) هذا؟ فكلفه الأستاذ بالبحث عنه، ووجهه إلى بعض الكتب الأجنبية في تاريخ العلم، واستطاع الطالب النجيب أن يصل إلى حقيقة (الهازان) فإذا هو (الحسن بن الهيثم)، ولما عاد إلى أستاذه بهذه الحقيقة، لاحظ أن أستاذه الأجنبي لم يعد أبداً يذكر اسم (الهازان) وإذا اضطر إلى الحديث عن نظرياته، يشير إليها من غير أن يذكر اسم صاحبها. فكيف يذكر هؤلاء بأمجادهم؟ وكيف يضخ في عروقهم دماء الاعتزاز بإسلامهم.

ولكي نتأكد أن هذا التضليل التاريخي أمر مقصود، اعلم أن صك الانتداب الذي كلفت به عصبة الأمم انجلترا بحكم فلسطين وإدارتها، كان صك الانتداب هذا ينص في مادته (رقم 21) على أن تضع الدولة المنتدبة، وتنفذ في السنة الأولى من هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالتنقيب عن الآثار، والعاديات يتضمن....الخ" أي أن من عمل الدولة المنتدبة بعث تاريخ ما قبل الإسلام، والاحتفاظ بآثاره، والعناية بعادياته.
وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألفوا في خلال الحرب الكونية الأولى لجاناً في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ بلاد الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان، أما تاريخ سورية، فقد كلف الآباء اليسوعيون ثلاثة من رهبانهم سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة عصور، العصر الأرمي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر العربي.
ومن هذا الباب أن الثري الأمريكي (روكلفر) أعلن في سنة 1926م عن تبرعه بمبلغ عشرة ملايين أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، على أن يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لإتمام هذا التبرع أن يكون المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة من ثمانية أعضاء ليس فيها من المصريين إلا اثنان فقط، وأن يستمر هذا الإشراف لمدة ثلاث وثلاثين سنة، ولما رفضت مصر شرط الإشراف هذا، قبض يده وامتنع عن التبرع.
وفي سنة 1932م ظهر كتاب (إلى أين يتجه الإسلام؟) وهو في الواقع ليس كتاباً، بل هو تقرير شاملٌ فاحصٌ باحثٌ عن حالة العالم الإسلامي، وما يموج فيه من تيارات، اشترك في إعداد هذا التقرير مجموعة من الخبراء الأكاديميين وكبار المستشرقين، وقام بتحريره والإشراف على إعداده المستشرق الإنجليزي المشهور. هـ. ا. جب. ويصرّح جب في مقدمته بأن الاهتمام بدراسة الإسلام ناشيء عما يعرفونه من سيطرة تعاليمه على المسلمين، ثم يقول:" وهذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف يحيط بأوروبا إحاطة محكمة تعزلها عن العالم، ومن هنا وجب علينا الاهتمام بهذا العالم ودراسته على هذه الصورة".
ثم يعود فيقول في الفصل السادس والأخير ما نصه:" وقد كان من أهم مظاهر تغريب العالم الإسلامي وفرنجته تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر، وفي إندونيسيا، وفي العراق، وفي فارس... وهذا من الممكن أن يلعب دوراً مهمّاً في تقوية الوطنية الشعوبية، وتدعيم مقوّماتها" أ.هـ. بنصه.
وهذا كلام واضح مبين يكشف عن أن بعث تاريخ الوثنيات الجاهلية قبل الإسلام في بلاد العالم الإسلامي لم يكن عفواً، وإنما كان شيئاً يُراد، ويُثبت أن هذه الشعوبية البغيضة، والقُطرية الضيقة التي مزقت الأمة شر ممزق، كانت عملاً مقصوداً، وكيداً بليل.
وفي مدينة (بلتيمور) بأمريكا عقد مؤتمر في سنة 1943م للمبشرين، كان من ضمن قراراته:" مضاعفة الجهود المبذولة في توجيه الدراسات للتاريخ الإسلامي، نحو إعلاء شأن ثورة الزنج والقرامطة والباطنية، وتصويرها على أنها حركات تقدّمية تمثل العدل الإجتماعي في وجه الخلافة الإسلامية الفاسدة التي يظاهرها علماء سوء فاسدون مفسدون" أ.هـ بنصه.
أرأيت؟ ألا يشهد هذا بقيمة التاريخ، وأثره في صناعة حاضر الأمم ومستقبلها!!! وإن لم يكن هذا كله كافياً، فانظر حولك، وتأمل هذه الضجة التي تقيمها الدولة العظمى التي بلغ من قوتها أنها ترمي بجنودها، وأساطيلها، وطائراتها حيث تشاء، لا يقف في وجهها أحد، هذه الدولة بهيلها وهيلمانها تتحرك لوقف مسلسل تلفزيوني تاريخي، وتُرعد وتبرق، وتُرغي وتُزبد، من أجل وقف مسلسل (الشتات) وتخضع الدولة التي أنتجته، فلا تجرؤ على عرضه، انظر، وتأمل كيف يهزّ مسلسل تاريخي هذا العملاق الأمريكي العظيم الذي يُرهب العالم، ولكنه يرتعد من التاريخ. أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر سابقا