مهام العقل في القرآن الكريم
جعل الإسلام للعقل مكانة في تكريم الإنسان، لم يجعلها لأي شيء آخر من هبات الله وعطاياه له، فاعتبر النظر العقلي واجبًا دينيًا، وجعل ممارسة الوظائف العقلية فريضة إلهية؛ بل ومسؤولية حتمية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها وسيحاسب على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها، واعتبر القرآن العقل أداة النظر، ولا يوجد نظر بدون عقل كما يقول الإمام الجويني: إن (شرط ابتداء النظر تقدم العقل) (كتاب الإرشاد للجويني).
ولم يرد لفظ «عقل» في القرآن الكريم بشكل صريح مباشر، لأن العقل ليس له ماهية قائمة بذاته مجردة، إنما هو عمليات عقلية صرحت بها الآيات الكريمة في مواضع كثيرة، فجاءت مشتقات «العقل» في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية، والصيغة الاسمية له جاءت بمرادفات: مثل اللب، وجمعت على الألباب والحلم، وجمعت على الأحلام، والحجر، والنهى والقلب، والفؤاد وكلها جاءت بمعنى العقل، وجاءت آيات أخرى كثيرة تدعو إلى إعمال العقل في النظر والتأمل والتدبر والفكر…الخ.
واعتبر القرآن العقل والعقلانية أداة للبرهان، فإذا لم يقبل الجاحدون بمعياريته يسقط اعتراضهم، وتسقط كرامتهم وتميزهم الإنساني عن عالم الجماد والحيوان، وهم بهذا كالعجماوات والأنعام، بل أكثر عجمة، ولذلك كان الأب «هنري لا منس» على حق في قوله: «إن محمدًا ليس بعيدًا عن اعتبار الكفر عاهة من عاهات الفكر البشري» فالكفار – ككل المحافظين في كل العصور- يقولون: إنه يكفيهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم، ومحمد – ككل المجددين- تستثيره هذه الحماقة: أفلا يدركون أن آباؤهم قد أعملوا فكرهم قبل أن يضعوا قواعد حياتهم، ولذلك يكره الله هؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يعيدوا النظر في أسس تفكيرهم ليروا آيات الله في هذا الكون، وفي أنفسهم كذلك، وإعمال العقل يهديهم إلى الإيمان ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ 43﴾ سورة العنكبوت، وما جاء الرسول من العلم هُوَ الْهُدَى، وهذا العلم هو نقيض الجهل، وأما من ظل على كفره فهو الجاهل الرافض للعلم والمعرفة، والجاحد الكافر بالإيمان، المعرض عن الوحي المسطر في كتاب معجز من السماء، قال تعالى: ﴿يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتٰبٍ مُّنِيرٍ 8 ﴾ سورة الحج.
والفهم العقلي للحقيقية لا يكفي وحده، إذا لم يتبعه الفهم والاتباع العملي، كالتاجر الذي يسعى خلف المصلحة والمكسب المجدي، ولهذا استخدم القرآن لبيان مفهوم الجدوى والفوز والربح بمصطلح التجارة مع الله تعالى، وهذا ما ذكره «شارل توراي» عام 1892م بصورة مفصلة، لأن العلاقة مع الله علاقة تجارية خيِّرة، يقول «توراي» في دراسته: «من الصعب أن يتصور المرء لاهوتًا أكثر دقة رياضية - ودقة الرياضيات تفترض العقلانية - وهذا بالطبع لا يعني أن كل الأشياء، في هدي العقيدة القرآنية، تدرك بالعقل، فكثير منها لا يبلغه العقل، وهذه بالذات آية من آيات الله على قدرته وعلى إحاطة علمه، وهذه الأشياء التي لا قبل للعقل البشري أن يدركها بقوته وحدها، يكشف الله للناس عن بعض منها بواسطة أنبيائه، أما باقيها فيظل إلى الأبد في عالم الغيب، ومهمة العقل هي أن يفهم صدق ما تقوله رسالات الرسل عن المجهول الذي لا طاقة له على معرفته، وأن يدرك أيضًا أن مصلحته هي في إطاعة تعاليم رسله عليهم السلام.
وفكرة الإيمان تظل على صلة مباشرة بالاقتناع العقلي، وآية ذلك أن كافرين ظلوا دهرًا طويلًا على كفرهم، فأنزل الله عليهم من آياته مصائب مدمرة حاقت بهم، عقاباً على إهمال عقولهم لحقائق الوجود والحق والإيمان، والقرآن يقدم حججًا عقلانية تدلل على أنه ينبغي الإيمان بهذا الوحي وتصديقه، لأن الاعتقاد الديني الأصيل يجب أن يبنى على البراهين القديمة والأدلة الصحيحة، لا على تقليد الآباء والأخذ بظنونهم وأوهامهم، وميزة الإسلام أنه يأمر أتباعه أن لا يسلموا بأي مذهب لا يقوم عليه دليل، وأن لا ينقادوا للأوهام والوساوس.
يقول الإمام محمد عبده في «رسالة التوحيد»: كان «علم الكلام» أو «علم التوحيد» كعلم يبحث في وجود الله ووحدانيته وصفاته وحقيقة الرسالة النبوية، كان هذا العلم معروفًا عند الأمم قبل الإسلام، ولكنهم قلما كانوا ينحون فيه نحو الدليل العقلي، فكان علماؤهم يتذرعون بالبينات الفائقة للطبيعة أو الخارجة عنها، بـ«المعجزات» أو «الخرافات» أو «الخطابيات»، ولما جاء القرآن غيّر ذلك كله، فبين بصورة لا تضارع «ما أذن الله لنا، وما أوجب علينا أن نعلم، لكن لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، بل ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة» وبالاختصار، أقام العقل حكمًا فاصلًا في إقرار اليقين، وبنى أحكامه الخلقية على أسس عقلية، وهكذا «تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل، بتصريح لا يقبل التأويل» فتقرر لدى المسلمين أن العقل لا غنى عنه في التسليم بالكثير من المعتقدات، كوجود الله، وإرسال الرسل، وإدراك فحوى الرسالة، والتصديق بها، وتقرر لديهم أيضًا أن من هذه المعتقدات ما قد يعلو على الفهم، إلا أنه لا يناقض العقل.
ومن مهام العقل في القرآن ولدى الإنسان، أن يعقل سلوك الإنسان عن الخطأ والغلط، وإذا كان هذا الأمر مستحيلاً لعدم عصمة الإنسان، فعلى الأقل أن يجنب نفسه القدر الذي يبرئ الذمة من تعمد الخطأ والغلط، باجتناب الجهل، والكبر، والعناد، والخرافة، والتقليد، ومن مهامه كذلك التأكد من مصداقية الصدق والحق والحقيقة، والاستدلال به على النمو والتزكية والتعرف والتطور والتقدم وتحصيل الخبرات والتجارب الميسرة للحياة، والمطمئنة للضمير، ومن مهامه كذلك تحقيق الجودة والإجادة من خلال الحنف والحنفية، وكذلك التأكد من صحة الأخبار، وما يصل إلى سمعه، وما يراه بصره، ليجتنب التلبيس والخطأ والكذب، ومن مهامه إرشاد حواسه إلى حقائق ما تلمسه وتدركه، ومعرفة الحق من الباطل في إدراكاتها، وتحصيل اليقين والإيمان به والتسليم له.
ومن مهام العقل معرفة الواجبات والفروض، والعمل على إحسان أدائها لمستحقيها، والإخلاص فيها لموجبها الله تعالى.
مهام العقل في القرآن الكريم:
''
المشرف: محمد نبيل كاظم
قوانين المنتدى
''
''
-
- Site Admin
- مشاركات: 790
- اشترك في: الأحد نوفمبر 15, 2020 1:55 pm
الانتقال إلى
- بوابة المعارض
- حلول مشكلات أسرية
- بوابة الاستشارات
- ↲ الاستشارات المجانية
- البوابة الأولى
- ↲ القرآن والسنة
- ↲ الشريعة والفتاوى
- ↲ خاص بخطبة الجمعة
- ↲ السيرة والتراجم
- ↲ رجال ونساء أسلموا
- ↲ تائبـون وتائبـات
- ↲ الإسلام بعيون غربية
- ↲ تجديد الخطاب الإسلامي
- ↲ شمس العرب تسطع
- ↲ الإنسان والحياة
- ↲ مدينتي الجميلة
- البوابة الثانية
- ↲ خاص بالطلاب
- ↲ التربية والتعليم
- ↲ المدرسة والمدرسون
- ↲ الجامعات والنخبة
- ↲ العلم والعلماء
- ↲ الاختراعات والمخترعون
- ↲ كتب وكتَّاب
- ↲ الصحة النفسية
- ↲ الهدم والهدامون
- ↲ حرب على الإسلام
- ↲ الكمبيوتر والمعلوماتية
- البوابة الثالثة
- ↲ التنمية والتغيير
- ↲ الأسرة والزواج
- ↲ الإبداع والمبدعون
- ↲ الحوار والفكر التنويري
- ↲ الإدارة الناجحة
- ↲ بلادنا الغالية
- ↲ فلسطين المباركة
- ↲ اعرف عدوك
- ↲ السياحة والإجازة
- البوابة الرابعة
- ↲ خاص بالنساء
- ↲ الطفل الرضيع
- ↲ مشكلات الأبناء
- ↲ التغذية والصحة
- ↲ الرياضة والرياضيين
- ↲ الطبخ والمطبخ
- ↲ الجمال والزينة
- ↲ الاقتصاد المنزلي
- ↲ الإدارة المنزلية
- البوابة الخامسة
- ↲ العلوم والطب
- ↲ الطب البيطري
- ↲ الاقتصاد الجديد
- ↲ الأدب والشعر
- ↲ الظرف والفكاهة
- ↲ الرقائق والأدعية
- ↲ العالم الآخر
- ↲ اقتراحات المشاركين
- ↲ بيانات الإدارة